بقلم – ثروت الخرباوى
نحن الآن فى بداية العام القضائى الجديد، وقد كانت نهاية العام القضائى المنصرم تحمل بشريات، فقد صدرت أخيرا عدة أحكام نهائية ضد محمد مرسى ومحمد بديع والعديد من قيادات الإخوان، وفى ذات الوقت مات محمد مهدى عاكف كما يموت كل الناس، حيث قضى نحبه على فراشه فى جناحه الاستشفائى المجهز بكل التجهيزات الطبية الفائقة فى مستشفى قصر العينى الفرنساوي، والذى لا يعلمه الناس أن عاكف دخل هذا الجناح فى مستشفى قصر العينى بقرار قضائى من المستشار «محمد شيرين فهمى خيري» رئيس محكمة الجنايات.
مات مهدى عاكف والموت هو نهاية كل حي، ولن ولم تعِش جماعة، أو يخلد إنسان، أو يبقى حاكم على كرسى الحكم، فكلنا إلى زوال، والحاكم الحكيم هو الذى يدرك ذلك، أما الحاكم الأرعن فهو الذى يأخذ منه الغرور مأخذا كبيرا، فيظن أن حكمه سيبقى ولن يزول، وغرور القوة والسلطة هو الذى يودى بالإنسان والجماعات والدول، والزعم بامتلاك الحقيقة هو قمة الغرور، والتجرؤ على الله سبحانه هو الغرور ذاته، وإذا أردنا أن نقرأ واقع الإخوان وقت أن حكموا مصر فسنجد أنهم وقعوا فى كل المفاسد العقائدية، وتجرأوا على الله سبحانه، وقال مغرورهم الأكبر خيرت الشاطر إنهم سيحكمون مصر خمسمائة عام، قالها وكأن الله فتح له مغاليق الغيب! ومن بعده دخل مهدى عاكف إلى بوابة من بوابات الغرور والغطرسة والشعور المتعالى بالذات فقال: سنقوم بتعديل قانون السلطة القضائية بتخفيض سن القضاة وسيترتب على ذلك خروج نحو ثلاثة آلاف قاضٍ إلى المعاش وسنقوم بتعيين غيرهم.!
كان الهدف من خطة مهدى عاكف هو تمكين الإخوان من القضاء، وأقول خطة مهدى عاكف رغم أنه كان مرشدا سابقا، وما ذلك إلا لأن كل واحد منهم كان يشارك مرسى فى حكم البلاد، ومهدى عاكف كانت له مساحته من الحكم يرتع فيها كما يشاء، ولأنه طوال عمره كان مندفعا أهوج لذلك كانت تخرج منه الكثير من العبارات التى تكشف سوأتهم، مثلما قال «طظ فى مصر» وغيرها من القبائح، وعند تلك العبارة سأتوقف لأقول: ليس فى كلماتى أى شماتة، أو تشفٍ فى موت رجل، ولكن تحليل السياسات يقتضى تحليل الرجال الذين قاموا بهذه السياسات لنعرف بواعثهم ومقاصدهم، والآن أعود للموضوع مرة أخرى، والحديث عن خطتهم وقتها فى خصوص مواجهة القضاء، وكان أعلى ما يسعون له هو مصادرة القضاء لمصلحتهم، فالقضاة هم الذين سيشرفون على الانتخابات البرلمانية، ثم هم الذين سيشرفون على الانتخابات الرئاسية، وهم الذين سيجلسون فى دوائر الجنايات ليصدروا الأحكام على خصومهم السياسيين، ولذلك يجب أن يكون القضاء إخوانيا، ومن هنا أقول إن العار الذى لحق بشلة «فيرمونت» لن يمحوه التطهر فى النهر المقدس، لأنهم ظنوا بغباء منقطع النظير أنه إذا أظهر الإخوان فسادا أو ظلما فإن مظاهرات حاشدة فى ميدان التحرير تكفى لسقوط حكمهم، فإن لم تسقطهم المظاهرات فإن أى انتخابات رئاسية قادمة ستبعدهم تماما عن الحكم، ولأن شلة فيرمونت تحَكَّم فيها الغباء فإنها لم تدرك أن الإخوان يخططون للاستيلاء على حكم مصر بشكل أبدي، وكان القضاء الإخوانى هو الذى سيعطيهم ذلك الأمل، لذلك كان القضاء مقصدهم الأعلى، ومعه مقاصد ذات أهمية قصوى منها الشرطة والجيش والمخابرات العامة، ولكنهم وقعوا من فرط طمعهم كما وقع أحد الفلاحين فى قصة روسية شهيرة.
ففى الأدب الروسى قصة للأديب العبقرى «تولستوي» تحمل حكمة عجيبة، تروى هذه القصة أن شيطانا ظهر أمام الناس فى صورة إقطاعى يمتلك مساحة ضخمة من الأراضى والأملاك والماشية والطواحين والضياع التى من فرط اتساعها لا تستطيع العيون أن تصل إلى نهايتها، يا الله أكل هذه الأراضى والأملاك لهذا الإقطاعى وحده؟!: هكذا قال أحد الفلاحين همسا وهو يمنى نفسه أن يحصل ولو على قيراطين من هذه الأرض، وعندما أفرط فى الأمانى تمنى أن يكون مع القيراطين بقرة، وساقية وطاحونة، فظهر له الإقطاعى وهو يربت على كتفيه قائلا: ولِمَ تحصل على قيراطين فقط!؟ كل هذه الأرض بما عليها لك إن استطعت، ولا أظنك تستطيع، فقال الفلاح وهو يزدرد ريقه: كل هذه الأرض لى إن استطعت! ولكن كيف؟! رد الإقطاعي: نحن الآن فى الصباح الباكر، فإذا قمت بالجرى حول هذه الأرض دون توقف فكل ما جريت حوله سيكون ملكك بشرط أن تعود إلى مكانك الذى بدأت منه قبل الغروب، نظر الفلاح إلى الأرض واتساعها، ثم إلى قوته وشبابه، ووقر فى قلبه أنه يستطيع أن يمتلك كل هذه الأرض، الأمر فقط يحتاج إلى قدر من الهمة والنشاط، وعلى التو أسرع الفلاح جريا، لم يتوقف لحظة، وكلما هدَّه التعب أيقظ همته الطمع، فلتستمر فسوف تحصل على ما تريد وأكثر، وانتصف النهار والفلاح يجرى ويلهث، لا يريد أن تتباطأ خطواته ولا أن تتوقف حركته، ومع ذلك فالأرض كأنها تجرى مبتعدة عنه كلما قطع شوطا كبيرا معها، ألا توجد نهاية لهذه الأرض؟! للأرض نهاية مهما بلغت، ولكن أطماع الفلاح ليست لها نهاية، وحين جف ريق الفلاح بسبب العرق الذى سال منه وروى الأرض، وارتجف قلبه بشدة مع وقع خطواته، حتى إن الأرض رددت صدى دقات قلبه، حينها نظر خلفه فوجد أنه ابتعد كثيرا عن البداية حتى أنه لم يعد يبصرها، فكان أن قرر أن يقفل عائدا إلى حيث النقطة التى بدأ منها، وما زال الوقت أمامه طويلا، ولكن الجهد كان قد ضمر، والخطوات أصبحت ثقيلة، ورحلة العودة أصبحت وكأنها مستحيلة، ولكنه يجب أن يعود قبل غروب الشمس، والخيوط الحمراء بدأت تأخذ طريقها فى الأفق، وموكب الأفول يُعِد عدته، فليقسُ على نفسه ليسبق موكب الغروب، وبدأت الدنيا تغيم أمام ناظريه، والأرض تميد تحت رجليه، ونقطة البداية لا تزال بعيدة، فهو كان قد أفرط فى الابتعاد: ألا تساعدنى الأرض فتحملنى إلى بدايتى التى بدأت؟! ولكن الجهد الجهيد الذى جعله يتطوح كالثمل أعمل أفاعيله فيه، فأخذ ينفث دما، وها هو الآن أمام حياته أو الأرض، إذا توقف غنم حياته وخسر الأرض، وإلا فعلى نفسها جنت براقش، ولكن الشيطان يفتل لأتباعه حبل الرجاء، والإنسان يعرف أن كل شيء سيحدث إلا لحظة موته، فتلك التى لا يصدقها أبدا، ولا يفكر فى انتظارها، فلم يتوقف الفلاح، وظل يجرى قافلا وهو يسمع صيحات متخيلة، يحسبها صيحات المشجعين والفرحين، فقد استحالت الدنيا عنده خيالا، وأخذ يغادر دنيا الناس، وقبل ستين مترا من نقطة البداية سقط ذلك الفلاح الطماع المغرور بقوته ميتا.
هكذا هم الإخوان، وهذا هو حالهم، وهذه مصر برجالها وتاريخها وحضاراتها وأقدارها وثوراتها تتأبى على الدخول فى بيت الطاعة الإخواني، ولكن هناك من لا يقرأ التاريخ ولا يعرف الحاضر، فأعد لنفسه جوالا من الأمانى وظل يملؤه بنفائس مصر، فوضع الجيش مع الشرطة مع القضاء مع قناة السويس مع نهر النيل، وهلم جرا، ثم أحكم غلق الجوال، وجلس متخما من فرط غروره، ثم عنَّ له أن يطمئن على بضاعته، ففتح الجوال فإذا به خاليا! كان هذا هو الإعلان الدستورى الذى أصدره محمد مرسى فى الثانى والعشرين من نوفمبر ٢٠١٢، وفى الإعلان الدستورى وضع الجميع فى بيت الطاعة، فهو كحاكم لمصر ظن أنه المتصرف الوحيد فيها، وقراراته لا تعقيب عليها، فلا قضاء يملك مراجعتها أو تصويبها، ولا جمعيته التأسيسية التى أعدتها «جماعته» لوضع الدستور يستطيع أحد الاقتراب منها، ولا مجلس الشورى الذى خزَّن فيه رجاله تستطيع المحكمة الدستورية أن تحاكم قانون إنشائه فتبطله وتقضى عليه لعدم دستوريته، وهو من بعد الحاكم بأمره الذى يعين النائب العام فيستجلبه من بين رجاله، لقد حاول الرجل كممثل لجماعة فاشية أن يعبث بالقضاء فعبثت به مصر كلها، كان الإخوان وقتها يظنون أنهم فى سباق مع الزمن، فإما أن يسيطروا على كل شيء فى البلاد، منتهزين الفرصة التاريخية التى لاحت لهم، وإما أن ينالوا الهزيمة من «أهل مصر»! وكأنهم فى حرب مقدسة ضد أشباح وهمية والتى إن هزمتهم فستحملهم إلى الجبال النائية! لذلك رأت الجماعة أن تتقدم خطوة فى معركتها، فتضع الأغلال فى يد القضاء حتى لا يستطيع أن يراجع قراراتها التى ستسيطر بها على البلاد ومن ثم تضعها فى جوال الأماني!.
ومصر ليست هى الدولة المسحورة التى يستطيع الساحر وضعها فى جرابه، ولكنها مصر وكفى، مصر التى تلتقم ما يأفكون، مصر التى يتقدمها القضاء فى الملمات ويذود عنها الجيش عندما تحتدم المؤامرات، مصر الحديثة التى أقامها محمد على على عمودين لا ثالث لهما، العمود الأول كان هو الجيش الذى أشرف على إنشائه سليمان باشا الفرنساوى أو الكولونيل «سيف»، والعمود الثانى كان القضاء عندما أنشأ المجالس القضائية المحلية، ومجالس التجار القضائية إلى أن أخذ القضاء طريقه إلى التحديث فى العهود التى تلت محمد على.
ومصر القضائية لم تكن لتركن إلى تأليه الحاكم لنفسه أبدا، ولم تكن لتقبل أن تكون قرارات الحاكم -أى حاكم- بمنأى عن الرقابة والمراجعة والإلغاء والتصويب، «مصر القضائية» كانت تعلم أن هذا الإعلان الدستورى لم يكن رمية من غير رام، أو طرقا على طبول الحرب بلا داعٍ، فالمثل الذى يقول للدب: «كم أكلت من العسل، فقال الدب: وكيف علمت، قال: من أثر العسل الذى يسيل من فمك» والإخوان بإعلانهم الدستورى هذا كانوا يرمون إلى البدء فى تغيير التركيبة المصرية تماما، من دولة إلى إمارة، ولكن مصر تأمر، ولا تُؤمر، وفى مصر القضائية التى تَأْمُر ذلك النادى العريق ـ نادى القضاة ـ كان قضاة مصر الذين لم يقبلوا عبر تاريخهم أن يكون القضاء هو «الناطق الرسمي» باسم أى حاكم مهما علا قدره، وللأسف مع هذا الشموخ القضائي، ومع حركة القضاة التى كانت من بواكير الحركات الاحتجاجية على استبداد الإخوان، ومع الجمعيات العمومية التى عقدها نادى القضاة فكانوا هم الطليعة التى قادت فيما بعد كل الحركات الاحتجاجية التى تحولت إلى ثورة شعبية لا نظير لها فى تاريخ مصر، فى هذا الوقت كان هناك قضاة أطلقوا على أنفسهم «تيار الاستقلال»، وقد كان هؤلاء المنتسبون للقضاء يتحدثون عن استقلال القضاء فى زمن نظام مبارك، وكان الحديث بلغة نفهمها وبلكنة نعرفها، ولكنك لم تكن تستشعر فيها الحياة! فكنت ألوم نفسى على أننى لم أشعر بهم وهم يتحدثون، فكنت إذا غابت المعانى عنى ورأيت أن كلامهم يشبه الكلام، وأن معانيهم تشبه المعاني، ولكنها عرائس بلا روح، فكنت أنظر إلى وجوه المتحدثين لعلى أشعر فى ملامحهم وانفعالاتهم بالصدق، ولكن بصرى كان يرتد لى وهو حسير، إذ لم يستطِع أن يصل إلى مكامن النفوس، ولكن شيئا ما فى صدرى كان يقول إننا على مسرح، وهؤلاء شخوص فى مسرحية لم يتقن مخرجها تحريكهم، ولم يستطِع المؤلف أن يضع الكلمات على أفواههم، فكان الواحد منهم ينفعل انفعالا مسرحيا مبالغا فيه حتى يستطيع أن يحصل على أكبر كم من التصفيق من جمهور القاعة، كان هذا هو الشعور السائد فى نفسي، ولكننى رأيت ناسا من الناس، يصدقونهم ويهتفون لهم، فقلت لنفسي: ما أكذب علم الفراسة، لقد خاب هذا العلم فى هؤلاء، ولكن بعد أن وصل الإخوان للحكم عاد لى إيمانى بعلم الفراسة، فقد كانت رموز تلك المجموعة التى أطلقت على نفسها «تيار الاستقلال» تقف مع الإخوان ومحمد مرسى رئيس الدولة فى القضاء على استقلال القضاء، بل إن منهم من ساهم فى صياغة الإعلان الدستوري، وحتى لو لم يكن أحدهم قد ساعد مرسى فى كتابة هذا الإعلان الدستورى الفاسد، فإنهم وقفوا بجانب مرسى فى شأنه ودافعوا عن هذا الإعلان وبحثوا عن آلاف التبريرات له، حقا ما أصدق علم الفراسة!
وقد كان موقف القضاء المصرى الرائع فى مواجهة الإخوان هو أحد فصول المواجهة، بل كان أشد هذه الفصول ضراوة، ثم أرادوا السيطرة على النيابة العامة، فلم يكن أمامهم إلا أن يخرجوا سهمهم الآخر الذى كان مدخرا فى جعبتهم، فلعل هذا السهم ينطلق فيصيب القضاء فى مقتل، فأصدر مرسى إعلانا دستوريا مكملا بعزل النائب العام عبدالمجيد محمود، واستقدموا للمنصب من الخليج مستشارا من تابعيهم هو طلعت عبدالله، ولقد كان تعيينه فضيحة بكل المقاييس، ولكن موقف رجال النيابة كان هو الأول فى تاريخ القضاء المصري، ولقد كان احتجاجهم على هذا العبث بالدستور والقانون لا مثيل له، كانت غضبة عبَّر عنها كل رجال النيابة العامة من أصغر وكيل للنائب العام إلى أعلى واحد فيهم منصبا، اشترك فيها المحامون العموم والنواب العموم المساعدون فى كل محافظات مصر، واستقال بسببها عددٌ كبير من رموز النيابة العامة احتجاجا على عزل النائب العام، وبعد ذلك رتب الإخوان ما كشفه مهدى عاكف فى فلتة من فلتات لسانه بأنهم ينوون تعديل قانون السلطة القضائية للإطاحة بأكثر من ثلاثة آلاف من القضاة وتعيين غيرهم من الإخوان الذين يعملون فى المحاماة، تلك كانت أمانيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، وفى يوم الثلاثين من يونيه عام ٢٠١٣ خرج القضاة إلى الشارع فى سابقة تاريخية لينضموا إلى الحشود الضخمة من شعب مصر فى ميدان التحرير وعند قصر الاتحادية وفى ميدان مصطفى محمود، كان هذا هو اليوم الذى أصدر فيه القضاء حكما واجب النفاذ بإنهاء حكم الإخوان، وكان هذا الحكم لا يقبل نقضا ولا طعنا، فقد صدر باسم الشعب.