رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الطوفان قادم !

18-10-2023 | 11:43


محمد الشربيني,

 لعلك مثلي .. ومثلُنا كثيرون ممن ابتلتْهم الأقدارُ بحساسية الذاكرة البصرية وسرعة استدعائها من غُرَف الذكريات ..!! وكأنها تكمن خلف الأبواب ، وبمجرد أن تستشعر فتحةً تنفذ منها فإنها لا تتوانى عن احتلال مدى عينيك، والسيطرة على مراياك ؛ فلا تجد مناصاً من الارتماء فيما تراه حاضراً صورةً وصوتاً ، ولعلك مثلي يحاصرك -يقظةً ومناماً- هذا السؤالُ لا يلبث كلما تنتهي حروفه أن تستجمع قواها لتعاود مهاجمة عقلك المكدود.

أليس طبيعيا أن تواجه الأرض مرةً أخرى طوفاناً مثْل طوفان نوح ..؟! أجل .. طوفانٌ يطهِّر الأرض من الظلم المستشري ويمنح النصر المستضعفين أنصارَ الحق، والعجيب أن نبيَّ الله"نوحاً" عليه السلام ظل في قومه ألف سنة إلا خمسين لا يترك طريقاً للدعوة إلا انتهجه.. قال تعالى( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)وكان الحصاد قليلاً ؛ لقد تكلَّم المفسرون في أنهم ما تجاوزوا ثمانيةً وقيل ثمانين رجلاً وامرأة ، لقد دعا نبي الله"نوحٌ"قومه بكل الطرق مئات السنين للإيمان وركوب السفينة فما استجاب له إلا القليل ، وحين دعا بقية الكائنات دعوةً واحدةً أجابتْه دون تردُّد !!  أجلْ .. لقد كانت الطائفتان متمايزتين ؛ فالحقُّ وأهله غايةٌ في الوضوح وكذلك الباطل وأهله!! لكن أن تتكفَّل آلة الإعلام المضلِّلة بقلْب الحقائق وتزييف الوعي؛ ويصبح الدم الفلسطيني مستباحاً ومقدساتُه مستباحةً سواءٌ مَن هادن أو من يرى الكفاح الوسيلة لتحرير الأرض ، بل ومن المخجِل أن نجد أصواتاً لعربٍ يُدينون هذا الكفاح العادل ، أو يرون المقاومة لا تجدي مع عدوٍّ باطشٍ غاشمٍ، لا يرعى للإنسانية ذمَّةً، وكأنهم يريدون تطبيق سياسة (بقاء الوضع على ماهو عليه.. وعلى المتضرُّر اللجوء إلى السماء) !

 إن العربي الكريم لا يقبل الضيم ولا يرضى أن يُسام الذل/، ومعركة "ذي قار" خير دليلٍ حينما أوقعت قبائل بكْرٍ وبني شيبان وأَسْرَى تميم لدى بني شيبان بجيوش كسرى ومعاونيه من العرب الذين راسلوا المعسكر العربي سراً (أن انتصارهم على الفرس أحب إليهم) عارضين  مغادرة المعسكر الفارسي أو التظاهُر بالانهزام ساعة المعركة فاختاروا الثانية ، يقول الأعشى : (وخيل بَكْرٍ فما تنفك تطحنهم/حتى تولوا وكاد اليوم ينتصف)(لو أن كل معدٍّ كان شاركنا/في يوم ذي قار ما أخطاهُمُ الشرف).

 هكذا دون طنطنةٍ بالقومية العربية أو الانضواء تحت مظلة الجامعة العربية ، إن من يرى الدماء ثمناً فادحاً في سبيل الحرية قاصرُ النظر ، فهذي دماء شعب مصر بُذلتْ في سبيل طرد الإنجليز وتطهير أرضها من الدنس الإسرائيلي ، أيضا الجزائر ذات المليون شهيد وسوريا والعراق وليبيا والمغرب ؛ فالشعوب الواعية تؤمن أن الحرية أقدس من كل الدماء ، وأن الاستقلال لا يُنال بمفاوضاتٍ عقيمة ..!

ولقصيدة (مقابلة خاصة مع ابن نوح) للشاعر "أمل دنقل" فرادتُها ، ومغامرتها في استدعاء الشاعر شخصيةَ "ابن نوح"بما تثيره من تداعيات ، وهذا الصراع الدائر في نفس "نوح" الوالد و"نوح"النبي ، إن"نوحاً" عليه السلام بعاطفة الأبوة يحاول إنقاذ ابنه ليركب سفينة النجاة رفقته والابن يأبى .. لكن الشاعر الكبير"أمل دنقل" يوظف الرمز والوقائع توظيفاً جديداً ، لقد بدأ القصيدة بسخريةٍ تُعدِّد ماكان مهيباً وصار عُرْضةً للتلاشي (الماء يعلو التماثيل، المعابد، السجن، دار الولاية)ثم يوازن الشاعر مابين موقفين: موقف الحكماء المُسَمَّوْن بالجبناء الفارين إلى السفينة وهم طوائف(المغنون،قاضي القضاة، راقصة المعبد، جُباة الضرائب، مستوردو السلاح) وموقف الشاعر ومشاركيه من شباب المدينة(يلجمون جواد المياه الجموح/ يبتنون سدود الحجارة) تناقض الموقفين يزيد السخرية مرارةً!!

 ليختم"أمل دنقل" قصيدته بما يخالف مآل الرمز ويعيد تشكيل حكايته بحرفيةٍ رائعةٍ  تشكيلاً يتناسب والواقع الذي يريده.. إن النجاة الحقيقية ليست في ركوب السفينة بل في التمسك بتراب الوطن ، ومواجهة التهجير القسري والتطهير العرقي بالصمود حتى لا تنجح مخطَّطات العدو  .. وإلى ختام (مقابلة خاصة مع ابن نوح) و"أمل دنقل"                                                             

 صاحَ بي سيدُ الفُلْكِ قبل حُلولِ السَّكينةْ :

"انجِ من بلدٍ.. لمْ تعدْ فيهِ روحْ!"

قلتُ: طوبى لمن طعِموا خُبزه في الزمانِ الحسنْ

وأداروا له الظَّهرَ يوم المِحَن!

ولنا المجدُ نحنُ الذينَ وقَفْنا (وقد طَمسَ اللهُ أسماءنا!)

نتحدى الدَّمارَ..ونأوي الى جبلٍِ لا يموت (يسمونَه الشَّعب!)

نأبي الفرارَ..ونأبي النُزوحْ!

كان قلبي الذي نَسجتْه الجروحْ

كان قَلبي الذي لَعنتْه الشُروحْ

يرقدُ الآن فوقَ بقايا المدينةْ

وردةً من عَطنْ

هادئاً.. بعد أن قالَ "لا" للسفينةْ

.. وأَحبَّ الوطن!