حسين عيد - كاتب مصري
لعل ظهور مجموعات قصص "أبو المعاطي أبو النجا" السبع في مجلدين ضمن "الأعمال الكاملة" التي أصدرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب خلال عامي 1992، 1993، أتاح الفرصة للغوص في عالم هذا الكاتب الكبير، لتعرّف بعض جوانب تجربته الإبداعية، إذ من المعروف أن أبو المعاطي (7 فبراير 1931 ـ 20 ديسمبر 2016) حصل على ليسانس دار العلوم عام 1956، ونال من كلية التربية بجامعة عين شمس عام 1957 دبلوم التربية الذي يؤهل الحاصلين عليه للانخراط في سلك التدريس، حيث عمل فعلا مدرسا في المدارس الإعدادية للبنات بوزارة التربية والتعليم، متنقلا بين مدارس المنصورة والقاهرة، وذلك خلال الفترة من عام 1958 حتى عام 1961.
كيف انعكست مهنة التدريس على قصصه؟ وهل كانت هناك مراحل معينة تحكم تلك التجربة؟
نشر أبو المعاطي أبو النجا في مجموعاته القصصية السبع 59 قصة قصيرة، جاءت مهنة الشخصية الرئيسية (مدرسا) في (ست) منها. أيّ أن مهنة التدريس مثلت نسبة 10 % تقريبا من مجمل إنتاجه القصصي المنشور، وهو ما يعني ابتداء أنّ عمله بالتدريس، وإن استمر في بداية حياته العملية لمدة ثلاث سنوات فقط إلا أنّه شكل جزءا من خبراته الحياتية التي انعكست على إبداعه.
فإذا تعمقنا النظر في تلك القصص الست، سنجد أنّ هناك قصتين يمكن استبعادهما من الالتحام برحلته محلّ الدراسة، لأنه لجأ في الأولى، وهي قصة "هذه المرأة" من مجموعة "مهمة غير عادية" (1980)، إلى جعل بطلها (مدرسا) لفترة محدودة في بداية حياته الوظيفية في مدرسة ثانوية للبنات، ظهر ذلك من خلال اتصال تليفوني في مفتتح القصة. وبعد مضي خمسة عشر عاما جرى اتصال تليفوني مع إحدى طالباته، تبيّن منه أنّه كانت بينهما هناك علاقة حبّ بريئة تنكّر لها في وقتها.
تتناول القصة الثانية "واحد منهم" من مجموعة "الزعيم" (1982) حكاية (مدرس) هو الأستاذ "خليل"، الوافد الجديد من أجل العمل في الكويت، خلال لقائه مع الأستاذ "بهيج" الذي ساعده على التأقلم مع مناخ (الاغتراب). مهنة بطل القصة، من هذا المنطلق، لم تكن سوى ذريعة تلمسها الكاتب للولوج إلى تجربة الاغتراب، وكان يمكن إحلال أيّ مهنة أخرى محلها!
بينما تكوّن القصص الأربع الأخرى مرحلتين متعاقبتين مرتبطتين أشد الارتباط، تعتمد المرحلة الأولى على المعالجة (المباشرة)، وتندرج تحتها قصتان، هما "خروج عن الموضوع"، و"في الطابور"، من مجموعة "فتاة في المدينة" (1961). وتعتمد المرحلة الثانية على نضج التجربة، وتمثلها قصتان، هما: "الابتسامة الغامضة" و"الأسلاك الشائكة"، من مجموعة "الابتسامة الغامضة" (1963).
نضج التجربة
نتج عن هذه المرحلة قصتان، هما "الابتسامة الغامضة" و"الأسلاك الشائكة"، وهو ما يعني أنه كتبهما بعد عام 1961. فإذا تذكرنا أنه عمل بالتدريس بين عامي 1958 و1961، فإننا نستنتج أنه أبدعهما بعد انقضاء تجربة التدريس بفترة. زمن الكتابة، إذن، لاحق للتجربة، وهو ما ساعد على استيعاب التجربة وترسخها في وجدان الكاتب حتى تغدو جزءا من رؤيته للعالم والكون من حوله، حتى إذا ما ولدت بعد فترة احتضان وحمل مناسبة، فإنها تولد مكتملة الملامح، يتجلى فيها نتاج خبراته، تتسم بالنظرة الكليّة، ويكون الناتج دائما أكبر وأوسع بكثير من التجربة ذاتها.
وكما سبق أن رأينا، فإن هناك موضوعين رئيسين استثارا مخيّلته خلال معايشته لتجربة التدريس، وهما العلاقة الكامنة وراء (انضباط) طابور الصغار، و(خروج) التلميذات عن موضوع التعبير المحدد. لقد اختمر هذان الموضوعان في مخيلته الإبداعية، وانصهرا في آتونها، وتبلورا فنيا فأبدعا شكلا جديدا مبتكرا، في تنويعتين أو قصتين مكتملتي البناء، رائعتي التكوين، هما "الابتسامة الغامضة" و"الأسلاك الشائكة".
لم يتوقف الأمر مع تجربة أبو المعاطي عند هذا الحد، بل أصبحت مادة القصتين السابقتين مادة (خام) لقصة جديدة هي "الابتسامة الغامضة"، بعد أن تحولت من مجرّد مشهد عابر لعلاقة (انضباط) بين عدد من الصبية وجاويش، "سلطة قمع"، وبين عدد من التلاميذ والمدرسين، "سلطة مهيمنة" وذلك في قصة "الطابور"، إلى (علاقة) بين مدرس حازم وتلميذات فصله. كما تحوّل خروج التلميذات اللاتي (يعبّرن) بشكل (مادي) ملموس عن الموضوع وذلك في قصة "خروج عن الموضوع" إلى الجانب (المقابل) حين تعبّر تلميذات عن رأيهن في مدرس حازم بشكل (معنوي) غير ملموس في قصة "الابتسامة الغامضة"!
انظر إلى مفتتح قصة "الابتسامة الغامضة": "لا يختلف اثنان في المدرسة كلها على أن "صابر أفندي" أخلص وأنشط مدرّس، لكن الناظرة أصبحت لا تخفي ضيقها بالطريقة التي يتبعها لكي يكون فصله مثاليا في كل شيء، ففي كل يوم يرسل لها بصحبة الضابطة تلميذة أو أكثر.. رجاء التكرم بتوقيع العقاب المناسب مع تلخيص سريع لنوع الخطأ الذي ارتكبته التلميذة، ومعظم هذه الأخطاء لا يخرج أبدا عن الكلام أو الضحك أو العبث في الفصل".
نحن – هنا – في مواجهة نموذج للعملية (التعليمية) كما تجري في بلادنا.. مدرس حازم يحلم بتحقيق عالم (مثالي) من التلميذات من خلال مفهوم خاص للعملية التعليمية، محورها الأساسي علاقة تلقين في اتجاه واحد بين الأكبر والأصغر، المتحكم فيها دائما هو الأكبر، كل ما يهمّه الانضباط والطاعة العمياء، ولا تهمه (طبيعة) تكوين التلميذات اللاتي يتعامل معهن، وهو ما أوضحه لزميل حاول أن يدعوه إلى التخفف من غلوائه، حين قال: "التدريس في نظري ليس مجرد مهنة أو وظيفة آخذ عليها أجرا.. إنه رسالة.. مسئولية تربية جيل جديد وتوجيهه، والتربية عملية تشمل الإنسان كله، ثقافته وخلقه. البنت في فصلي لا بد أن تكون ممتازة في خلقها وفي ثقافتها على السواء، ولهذا مستحيل أن أسمح بوجود بنت تهرج أو تتكلم أو تضحك في الفصل".
نجحت سياسته القمعية لفترة، ثم بدأت مأساته حين (عبّرت) التلميذات عن موقفهن بابتسامة غامضة: "تحرّك كلّ عضلة في الوجه، لكنها لا تصل أبدا إلى شفتي أيّ تلميذة.. وبهذا تظل تلك الابتسامة الغامضة شيئا لا يقع تحت دائرة الممنوعات التي يعاقب عليها صابر أفندي بالطرد".
حاول المدرس أن يتجاهل تلك الابتسامة، ثم دقق في مظهره، واقتصد في تحركاته، لكن الابتسامة الغامضة ظلت تظهر فجأة وتنتشر سريعا لتقيم حاجزا لا يقتحم، فأحسّ بأن كبرياءه تتعرّض للخطر، وامتد الاتهام ليشمل الفصل كله. وفي اليوم التالي طرد جزءا من الفصل، لكنه لم يقض على الابتسامة، وامتد تفكيره إلى بقية الفصل "المسألة ليست عددا.. المسألة تتعلق بمبدأ أن تكون أو لا تكون"، وطرد الشلة المجاورة. وبدأ الفصل هزيلا حقا به من المقاعد أكثر مما به من التلميذات، حتى حاصرته تلك الابتسامة، حاصرت حتى خواطره "لن يكون بمقدوره أن يطرد أحدا هذه المرة، إنه لو فعل ما كان هناك فصل على الإطلاق، وما كان ثمة مبرر لوجوده. ومع ذلك فقد أحسّ بطريقة قاسية أن وجوده مع تلك الابتسامة اللعينة أصبح هو الآخر مستحيلا تماما".
تناولت هذه القصة علاقة مدرس حازم بتلميذات فصله، وهو تناول في ذات الوقت لـ(جوهر) العملية التعليمية، فالمدرس رغم إخلاصه الشديد فشل في تحقيق حلمه المثالي. كان خطؤه الفادح يكمن في أسلوب توصيل رسالته إلى الآخرين. كان أسلوبا ذا اتجاه واحد يبدأ منه وينتهي إليهن، وعلى الطرف (الآخر) أن يتقبل صاغرا وإلا فالويل والثبور في انتظاره. إنه لم يفهم أن (التربية) الصحيحة هي التي تساعد على نمو الشخصية الطفل بشكل طبيعي بتهيئة المناخ الملائم، والتفهم اللازم، وإطلاق (حرية) التعبير عن ذاته حتى يتعرف قدراته.
القصة إدانة (فنية) لأسلوب تعليم خاطئ، يعتمد التسلط أسلوبا، مع تحويل الآخرين إلى مجرّد أدوات سلبية للاستقبال والتلقي فقط، دون أن يكون لهن الحق في أي رد فعل طبيعي، فيضطرون إلى انتزاعه انتزاعا. ينصرف (تأويل) القصة أيضا إلى معنى أوسع، وهو أنه إزاء القمع والتسلط يستطيع (البشر) عموما، وليس التلميذات فقط، أن يبتكروا أشكالا جديدة للتعبير عن رفضهم، لا تقع تحت طائلة بطش القوّة المسيطرة!
انظر إلى رحلة نمو وتطور ونضج قضية (الانضباط) من مشهد طابور تحت سطوة جاويش أو مدرس (قصة "في الطابور") ومن خروج تلميذات عن موضوع (تعبير) تحريري ملموس (قصة "خروج عن الموضوع") إلى تجربة خاصة لانضباط فصل بنات تحت سطوة مدرس حازم و(تعبيرهن) عن موقفهن بشكل معنوي مبتكر غير ملموس (قصة "الابتسامة الغامضة") إلى انضباط مدرسة بنات بكاملها تحت سطوة ناظرة حازمة و(تعبير) التلميذات عن موقفهن بشكل ظاهر ملموس (قصة "الأسلاك الشائكة").
نحن، هذه المرة، أمام معالجة جريئة لمنطقة حساسة يحوطها (تابو) أخلاقي صارم يحذر من الاقتراب منها، يتجلى من خلال مفهوم رسالة الناظرة في المحافظة على أخلاق البنات في فترة المراهقة، لذلك تحمل في يدها سيف المنع والعقاب الصارم تواجه به من تسول له نفسه أن يتصدّى لها. إنها لم تحاول أن تستوعب طبيعة عمر البنات، ومقتضيات السن، وتبعات التفتح، بل عزلت نفسها في برجها العاجي الصارم، فعبّر كل من الفريقين من الأولاد والبنات عن نفسه ببراءة، ولم تنجح سياستها القمعية إزاء حركة الطبيعة التلقائية!
يبقى من استعراض القصة، أنها كشفت هي أيضا عن (جوهر) العملية التعليمية، وأنها في الأصل عملية (تربوية) يشترك فيها طرفان: المعلم والتلاميذ، ولا بد أن يتحقق فيها نوع من التوازن من خلال اقتناع كل منهما بأن ما يربطهما علاقة جدلية تهدف إلى حرية تعبير كل طرف عن نفسه، دون أن يجور أي منهما على الآخر، فإذا جنح الكبير إلى التسلط والانفراد بالرأي وعدم تفهم طبيعة الطرف الآخر، سيجد الطرف الآخر وسيلة يعبر بها عن سخطه، لكن الأخطر أن العملية التعليمية نفسها ستبوء بفشل ذريع!
وبطبيعة الحال، يمكن أن ينصرف تأويل هذه القصة أيضا إلى العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فإذا لم يسد فيها مناخ ديمقراطي، وفرض الحاكم قيودا على حرية الأفراد تكبل طبيعتهم، فإنهم سرعان ما يثورون عليه، فينقلب الحال، ويسوء المآل!