رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان

20-2-2017 | 19:37


سمية عزام - كاتبة لبنانية

 صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية كتاب "الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان" في طبعته الأولى يناير 2017؛ وهو يُعد عصارة بحث رصين، تتناول مباحثه أعمال أعلام الفلسفة في لبنان، وذلك في عشرين فصلا.

    ينطوي الكتاب – المرجع – على مقاصد تتجاوز التأريخ الفلسفي إلى إبراز إمكانات التراكم المعرفي المُخصِب، والتناول الفلسفي النقدي، بغية التحفيز على الاشتباك الفلسفي الناشط بين أهل الفلسفة في لبنان والعالم العربي؛ ذلك من أجل مناقشة الخلاصات التي انتهى إليها أولئك "الفلاسفة".

   غير أن السؤال يُطرح حول قابلية الفلسفة للانتماء القومي في ضوء التنازع الفلسفي التنظيري بين اتجاهين، ينحو أولهما صوب تسويغ ارتباط التفكّر الفلسفي بطبيعة الاختبارات الوجودية وخصوصية المقولات اللغوية التي تصبغ كل اجتماع إنساني على حدة، فتنتج تصوراته الخاصة؛ ويقول ثانيهما بأن من طبيعة الفلسفة التفكّر في الوضعية الكونية للموجودات، فموضوعاتها مستلة من اختبارات الناس في المعمورة، وتاليا، لا انتمائية في الفلسفة؛ إذ إن "الناس في المعقولات سواء" على ما يذهب أبرز فلاسفة العرب الأوائل أبو بشر متى بن يونس القنائي. هذه الخصوصية في التجربة اللبنانية باستلهام الاصطلاحات الفلسفية الهادية، وذلك التفكّر النقدي الوهاب للمعنى الذي لا يطيق الانتماء إلى قوم دون آخرين، حدا بمحرر الكتاب ومقدمته ومنسق أعماله، الدكتور مشير عون، إلى الارتكان إلى العنوان المشار إليه أعلاه، أي باعتماد الصوغ التعبيري "الفكر الفلسفي في لبنان" وليس "الفلسفة اللبنانية".

    ولئن دخل التفكّر الفلسفي في سياق المسعى النهضوي الأدبي في العصور الحديثة في لبنان، وغدت الفلسفة مادة تعليمية أساسية في أواخر القرن التاسع عشر في المعاهد والجامعات، جاء المصنف وفق حقول تفكّر ثلاثة، وبحسب محوري الانتماء المعرفي الناظم، والموضوعات، أي طبيعة المسعى الفلسفي ومقاصده؛ ذلك انطلاقا من خصوصية الاختبار اللبناني المنغرس في تربة الانعطاب المزمن في حقلي السياسة والاجتماع على وجه الخصوص. فجاء، في الحقل الأول، التفكّر التأصيلي في الاختبار التعايشي اللبناني، وانبسطت مسائل الإصلاحات الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في الحقل الثاني، لتنبثق نظريات المعرفة في التناول الفلسفي المحض لبنية الوعي الإنساني، في الحقل الثالث. كما أن المديونية الفكرية في الانطلاقة والتدبر تعود إلى المذاهب الفلسفية العالمية، و/ أو للتراث الفلسفي العربي، بانتقائية أو توفيقية ما.

    في معرض التساؤل عن إمكان الإسهام اللبناني في الفلسفتين العربية والكونية المعاصرتين، وردا على اللا إنصاف في ما يذهب إليه البعض إلى عقم الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان، وعجزه عن تغيير الواقع اللبناني، يبرز مشير عون قيمة هذا الإسهام الكامنة في صدق الشهادة الفلسفية للمساهمين في حقلها، وفي تطويع التصورات الفلسفية الكونية لمقتضيات الحاجة الوجودية اللبنانية والعربية، وفي أصالة بعض الخلاصات الفذة التي أفرج عنها هؤلاء الفلاسفة. ذلك أن مآلات الفكر تقترن بسيرورة تاريخية شديدة التعقيد؛ كيف بها – في لبنان – إذا ما ارتهنت للواقع الجيوسياسي العربي الأوسع؟! شأنها في ذلك شأن مشاريع فلسفية عربية لم تفضِ إلى تغيير عمق الواقع العربي؛ إذ إن الفيلسوف اللبناني والعربي على السواء، يولدان حاملين عجزا بنيويا مثلث الأضلاع، في أحوال المجتمعات العربية المتردية، وفي أوضاع الفكر العربي المتقهقرة، وفي طاقة اللغة العربية على التعبير الأمين عن معارف العصر، ودائما بحسب ما يذهب إليه كاتب المقدمة، مشيرا إلى فرادة الإسهام المرتبطة بالقرائن الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تطبع الاجتماع اللبناني، لا سيما في تأصيل المعايشة التي بإمكانها إلهام الفكر الفلسفي العالمي الساعي إلى تأصيل المعايشة الكونية، وخير دليل على ذلك الاعتناء بمقترحات رينيه حبشي في فلسفته المتوسطية، وبما ساقه شارل مالك من آراء في ضرورة التوفيق بين مقام الفرد الحر وضرورات الانتماء إلى الجماعة المنشئة للهوية الذاتية... فضلا عن طاقة الإلهام في حقل الإصلاح الفكري للتأصيل الفلسفي الجامع المانع الذي ابتكره ناصيف نصار في تسويغ النهضة العربية الثانية. كما أنه قد يكون لفلسفة الدين أثر في تطوير فلسفات الدين العربية المعاصرة، تمثلا بالتمييز الذي وضعه بولس الخوري بين الأنظومة الدينية والاختبار الإيماني بما هو طلب للمطلق، والتمييز الذي اقترحه مشير عون في مذهبه الإطلاقي النسبي بين دائرة الحقوق ودائرة القيم ودائرة الاختبارات اللاهوتية التذوقية.

    ثمة إشارة بليغة الدلالة الفكرية- الإنسانية إلى تطوع الباحثين المجاني وإسهامهم في أبحاث منعتقة القيود من صرامة المنهج التأليفي واعتباراته التقنية. بيد أن العمل الإنشائي ارتكز على قواعد/ شروط أربعة في اختيار الفلاسفة الذين ضم طروحاتهم المصنف، وهي: دراستهم الأكاديمية وإنجاز أطاريح في أي حقل فلسفي، وتعليم مادة الفلسفة في المعاهد العليا، والبحث والنشر في حقول الاختصاص الفلسفي المحض، والإتيان بأنظومة فلسفية متسقة، أو بتصور/ أو حدس فلسفي أصيل. فوقع الاختيار على عشرين فيلسوفا لبنانيا تناول منجزاتهم الفكرية ثمانية عشر باحثا وباحثة(*).

   من التحديات الراهنة والمستقبلية للفلسفة اللبنانية المواجهة المصيرية الحازمة للتأزم الكياني الذي يضرب الاجتماع اللبناني لإنقاذ المعية اللبنانية، في إشارة إلى أن فلسفة المواجهة تختلف عن فلسفة المعايشة والإصلاح.

   في ختام التجوال السريع وغير المتسرع في الكتاب، تحضرنا عبارة مشير عون:" لا يصح نعت الاختبار الوجودي الصادق بالاستقامة أو بالضلال، ما دام أصحاب الاختبار أنفسهم ممسكين عن الاعتداء الفكري على الآخرين". إنها رؤية يقينية إلى مشروعية الاختلاف وحرية الاختيار تلهم، استطرادا، باقتباس طرح رينة حبشي القائل بإمكانية المعايشة الإنسانية وارتسام معية المساواة والتضامن، بمقدار ما تتأسس على القيم السامية التي تقول بها الأديان؛ وذلك باستلهام أخلاقية الاستضافة المستلة من التراث اليهودي، وأخلاقية المجانية المستلة من التراث المسيحي، وأخلاقية التسامح المستلة من التراث الإسلامي، وبتلاقحها مع أخلاقية الاختلاف المقتبسة من التراث الفكري العلماني.

   (* أسماء الفلاسفة اللبنانيين المعاصرين الذين تناولهم الكتاب المرجعي، هي: شارل مالك، حسين مروّة، جيروم غيث، رينيه حبشي، كمال يوسف الحاج، بولس الخوري، فريد جبر، ماجد فخري، إتيان صقر، جوزف أبو رزق، أنطون حميد موراني، بشارة صارجي، مهدي عامل، عادل ضاهر، علي حرب، ناصيف نصار، موسى وهبة، جاد حاتم، جان قلام، مشير عون.

وأسماء الباحثين: سايد مطر، لطيف إلياس لطيف، فريد غيث، جوزف معلوف، ناصيف قزي، مشير باسيل عون، جيرار جهامي، نادر البزري، هدى نعمة، جان – بيار نخلة، باسم الراعي، باسل ف. صالح، أنطوان سيف، وجيه قانصو، بسكال لحود، جمال نعيم، جورج يرق، وشارل شرتوني).