رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


طه حسين.. الداعي الأول لإصلاح التعليم المصري

28-10-2023 | 15:08


طه حسين

محمد جادالله,

إن اهتمام الدكتور طه حسين بالتعليم، و سعيه ليكون حقًا لكل مواطن، كحقه في الماء والهواء،  لم يكن وليد الفترة التي تولى فيها أمور وزارة المعارف، وإنما نشأ هذا الاهتمام نشأ مبكرًا قبل ذلك بكثير،  في عشرينات القرن الماضي.

التعليم المجاني

عزم د. طه حسين، أن يكون التعليم للجميع بالمجان، ولعل هذا المعنى يبرز في كتابه «جنة الحيوان» قائلًا: «اللهم أشهد أنى ما ذهبت قط إلى الجامعة أو إلى وزارة المعارف إلا كانت هذه القصة، ملئ قلبي، وإلا ذكرت أنى كنت سعيدًا حين تعلمت على حساب الدولة، فمن الحق علي أن أتيح بعض هذه السعادة لأكبر عدد ممكن من شباب مصر ولو استطعت لأتحتها لهم جميعًا».

وتنمو هذه الفكرة في ذهنه وتنضج،  فتصبح بمثابة الدين في رقبته،  وعليه أن يؤديه وإن طال الأمد، فهو لم يتعلم لينتفع وحده، وإنما لينفع الآخرين، وهذا في نظره أن يتيح لهم فرصة التعليم، ولعل هذا الاتجاه برز في تصديره للكتاب الذي ترجمه عن أرسطو وهو كتاب «نظام الأثينيين» حيث قال: «لم أتعلم لا نتفع وحدي» ولا شك أنه كان يعني ما يقول، فقد أصبح هذا القول عهدًا وميثاقًا قطعه على نفسه.، هل هناك أفضل وأعظم فائدة من التعليم!؟

التعليم وسيلة للاستقلال والحرية

كان التعليم في نظر طه حسين ليس خلاصًا من الجهل فحسب، وإنما وسيلة للاستقلال والحرية،  وبشر بهذه المفاهيم في كتابه المهم، «مستقبل الثقافة في مصر» والذي قال فيه: «كي ننشئ لمصر الحديثة أجيالًا من الشباب كرامًا أعزاءً، لا يتعرضون لمثل ما تعرض له بعض أجيالنا السابقة من الذلة والهوان، سبيل ذلك واحدة لا ثانية وهي بناء التعليم على أساس متين».

والتعليم في رأي  طه حسين : وسيلة لتحررنا في الداخل وليس وسيلة لتحررنا من الأستعمار الخارجي فحسب، حيث يقول في كتابه: مستقبل الثقافة في مصر «أول وسيلة من وسائل الكسب التي يجب على الديمقراطية أن تضعها في أيدي الافراد انما هو التعليم الذي يمكن الفرد من أن يعرف نفسه، وبيئته الطبيعية والوطنية والانسانية، وأن يتزود من هذه المعرفة وأن يلائم بين حاجته وطاقته وما يحيط به من البيئات والظروف. وقد لا يكون ميسورًا، أن يطلب إلى الديمقراطية منح الأفراد كل ما يحتاجون إليه، لكن الشيء الذي لا شك فيه أن الديمقراطية ملزمة أن تمنح الأفراد حظًا يسيرًا من هذه الوسيلة».

التعليم حق للجميع 

يؤمن الدكتور طه حسين بوجوب تيسير التعليم لأبناء الطبقة الفقيرة مثلما يتيسر لأبناء الطبقة الغنية، تطبيقًا للفلسفة الديمقراطية، وتحقيقًا لمبدأ تكافؤ الفرص لجميع المواطنين،  فالتعليم حق للناس جميعًا مهما تكن طبقاتهم وأن من واجب الدولة أن تكفل المساواة لهم مهما تكن طبقاتهم الاقتصادية والاجتماعية،  وكيف يسطيتع لطه حسين أن يُحقق جموع هذه الاماني؟

العصى السحرية

تولى  طه حسين  وزارة المعارف في  13 يناير  1950م،  فكانت بمثابة العصى السرحية التي تمكنه من تنفيذ آماله وأحلامه،  إلا أنه فكر جيدًا قبل قبوله الوزارة في الأساس الذي يمكنه من تنفيذ هذه الأماني، حيث وضع شرطًا لقبوله الوزراة، وتوجه به إلى مصطفى النحاس باشا،  وهو أن يصدر مرسومًا ملكيًا بمجانية التعليم مع مرسوم تعيينه وزيرًا للمعارف،  ودون ذلك لن يقبل طه حسين توليه الوزارة.

وكانت هذه هي أول مشكلة تواجهها حكومة الوفد قبل تشكيلها، فكيف يقتنع الملك بهذا القرار الذي يعني تعبيرًا جذريًا في البناء الاجتماعي للدولة؟ كيف يقتنع الملك بقرار يحس بنذر الخطر تزحف من ورائه؟ هل يستطيع النحاس باشا او غيره من زعماء المصريين أن يغيروا فكرة الملك الذي يفضل أن يحكم شعبًا جاهلًا على أن يحكم شعبًا متعلمًا؟ هذا من ناحية.

ومن ناحية  أخرى كيف يستطيع النحاس باشا أن يقنع طه حسين، الذي لا يمكن  لأية قوة أن تجبره على الاقتناع بعكس ما يراه ؟ وهل هناك حق أفضل من إتاحة التعليم لكل الشعب؟ وهل يمكن التهاون في هذا الحق؟

وكان الحل هو أن أقسم «النحاس» باشا للدكتور طه حسين بأن ينفذ له ما يريد،  فقط بعد أن تتولى الوزارة مهامها، فهو مثله مؤمن بأن التعليم حق لكل مواطن، ورد طه حسين وإذا لم ينفذ هذا القرار فسوف تكون استقالتي أول عمل يقدم للحكومة.

النحاس باشا يوفي بوعده للعميد 

ووفىّ النحاس باشا بوعده، وأعلن طه حسين مجانية التعليم الثانوي، فقد كانت هناك مجانية التعليم الابتدائي التي أقرها في عام 1944 أحمد نجيب الهلالي باشا، إبان توليه وزارة المعارف وبإصرار من طه حسين نفسه الذي كان يعمل مستشارًا فنيًا للوزارة والذي كان قد كتب مشروع هذه المجانية وتولى الدفاع عنه على جميع المستويات.

و الأمر لم يكن أمر المجانية فحسب، فقد كانت هناك قيود كثيرة، كقيود السن وعراقيل أخرى تقيد القبول بالمدارس، قضى عليها الوزير طه حسين الذي أصدر تعليماته ألا يحال بين التعليم ومن يرغب فيه، لأن التعليم هو الماء والهواء، ولا ينبغي أن يوضع أي قيد على شرب الماء أو استنشاق الهواء، وذاع يومئذ اصطلاح سياسة التيسير التي عرف بها عهد طه حسين في وزارة المعارف.

وكان على  طه حسين أن يعد العدة لمواجهة ما يتوقع من تدفق الآلاف المؤلفة على المدارس؛ بسبب المجانية وبسبب سياسة التيسير هذه. وهذه كانت معجزة اخرى للرجل فقد استطاع أن ينشئ المدارس الجديدة ويفتح آلاف الفصول الجديدة، ويوفر آلاف الدرجات لتعيين الاف المدرسين وبذلك ارتفع عدد المقبولين من نحو 145 ألف عام 1949 في التعليم العام والرسمي الى أكثر من 560 ألفا في عام 1950، كما تضاعف عدد المقبولين في الجامعات والمعاهد العليا في نفس السنة.

إصلاحات شاملة لابد منها

ولا تقتصر اصلاحات د. طه حسين في وزارة المعارف بأن قرر من المدارس أو وفر آلاف الدرجات لتعيين آلاف المدرسين، وإنما عمل قدر استطاعته على تحسين حال المعلم، ذلك أنه كان يؤمن ويردد دائمًا أن تقدم التعليم وتطوره رهين بتحسين حال المعلم، وانه لا يرجى من التعليم فائدة أو صلاحًا والمعلم سيء الحال، والحق أن هذه هي فكرته، فكثيرًا ما كانت كتاباته تذهب إلى هذا الهدف.

ويتولى  طه حسين الوزارة فيرعى المعلمين وينصفهم بقدر ما يستطيع، وبقدر ما تسمح به الميزانية، ويخاطبهم فيقول وكأنه يقطع على نفسه عهدًا وأقسم لو استطعت ألا أترك من المعلمين مظلوما إلا أنصفته ولا متأخرًا إلا قدمته، ولا طالبًا إلا أجبته إلى ما يطلب، ولا ساخطًا إلا أرضيته، لكنت أسعد الناس في هذه الدنيا.

هكذا استطاع طه حسين في فترة قصيرة أن يحدث تغييرًا بالغًا في الأسس والمناهج، وأن يرسم خططًا جديدة لانقلاب خطير في العقلية المصرية،  وسار في طريقه محطمًا القيود والسدود، مقتلعًـا من طريقه الأشواك لتحقيق رسالته.