د. هالة حربي,
ما يحدث فى غزة والضفة الغربية الآن يجعلنا نميز بين مجازر وحشية تقودها إسرائيل تفضح انتقامها الأعمى من الأطفال والنساء مع هدم المنازل والمساجد والمستشفيات على رؤوس من فيها، وتطبيق رجال المقاومة الفلسطينية عمليا مفهوم الحرب الإسلامية، من استهداف جنود العدو مع رعاية الأسرى واحترام حقوقهم.
وعلى الرغم من التفوق التكنولوجي لدى جنود الاحتلال نلحظ ضعفهم وجبنهم وإصابتهم بالاضطرابات النفسية لفكرة مواجهة أفراد المقاومة الفلسطينية المتسلحين بالإيمان وحب الشهادة، وكل هذا يجعلنا نضع أيادينا على كم التناقضات فى هذه الحرب الدائرة بين طرفى نقيض، بين طرف مقاوم فى أكبر سجن مفتوح منذ 17 سنة، فقد ذويه منذ 1948 و1967 فى دير ياسين وقانا وصبرا وشاتيلا وجنين وغيرها، ولا يزال يفقد أهله وأطفاله خاصة فى هذا الهجوم الشرس الذى تنفذه إسرائيل عن بعد من خلال الهجمات الجوية وقذف القنابل المحرمة دوليا، ومع ذلك نجد الفلسطينى فى قمة الثبات والإيمان والإنسانية.
الجندى الإسرائيلي يملك التكنولوجيا وتأييد الدول الكبرى وصاحب خرافة الجيش الذى لا يقهر، جبان لا يعرف المواجهة ويختبئ فى طائرة تسقط قنابلها على مدنيين عزل، لم يتورع عن قذف البيوت والمساجد والمستشفيات.
نحن أمام صنفين نقيضين من البشر صنف جبان تؤازره الدنيا كلها يعشق الحياه ويهاب الموت، وصنف آخر يقف وحيدا لا يضره من خذله، يرى الموت أسمى أمانيه.
المقاومة الفلسطينية تدهشنا بثباتها وشجاعتها رغم الفقد، وبتطبيقها لما كدنا ننساه من تعاليم ديننا فى الحرب و إسرائيل تصيبنا بالاشمئزاز من كم الوحشية واللاإنسانية فى التعامل مع المدنيين، تصيبنا بالغثيان فى استيلائها على أراضي لبنان وسوريا والأردن إضافة إلى عدم أحقيتها بأرض فلسطين.
لكى نفك طلاسم هذا الموقف ونحاول فهم العدو، فلنقرأه من الداخل كيف نرى إسرائيل من خلال كتاب يهود أو من يستشهد بوثائق يهودية على دحض أساطير/خرافات إسرائيل.
فى هذا الصدد نجد كتبا ثلاثة: الأول لايلان بابيه البروفسير وأحد نقاد الصهيونية اليهودى صاحب كتاب "عشر خرافات عن إسرائيل" 2021، والثاني لكاتب يهودى يناهض الصهيونية ويكشف عوارها فى "أساطير الصهيونية" 2006 الكاتب جون روز، والدكتور والسياسى والفيلسوف الفرنسي الذى ولد لأم كاثولكية وأب ملحد لكنه اعتنق الإسلام سنة 1982 وكان فى التاسعة والستين، وأخيرا روجيه جارودي وكتابه "محاكمة الصهيونية الإسرائيلية" 2002.
ما أعنيه أن هناك تيارا يتنامى فى الفكر اليهودى ينقد الأسس التى نشأت عليها فكرة الصهيونية ودولة إسرائيل، فيتفق الكتاب الثلاثة على معالجة فكرة الأسطورة/ الخرافة التى تبنتها الصهيونية لاختلاق إسرائيل، ويشرحون بالوثائق الفرق بين اليهودية كديانة سماوية، وإن حرفت، وبين الصهيونية كحركة سياسية علمانية استعمارية استيطانية استغلت الدين وفكرة القومية التى ظهرت فى القرن التاسع عشر، لتحقيق هدفها الاستعماري لسرقة أرض ليس من حق اليهود ولا هى أرض ميعادهم كما يدعون.
يقول روجيه جارودى: إن الحركة الصهيونية تزعمها ثيودور هيرتزل الذى ألف كتاب "الدولة اليهودية" وقد اعترف فى يومياته سنة 1895 أنه علماني. وقد وصف جون روز فى "أساطير الصهيونية" بن جوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل بأنه "صانع أساطير يجيد تحريف قصص التوراة ويحولها إلى تاريخ مزيف لإسرائيل"، فهو يحرف التوراة ويلوى عنق الحقيقة طالما تخدم أغراضه السياسية الاستعمارية، كما اعترفت جولدا مائير أنها "ليست متدينة"، فلماذا تمسحوا فى التوراة؟ ولما اخترعوا أسطورة أرض الميعاد؟.
إن الهدف الحقيقي هو سرقة أرض ليست لهم وطرد أهلها لأنهم أضافوا خرافة إلى منظومة خرافاتهم وهى أنهم "شعب الله المختار" مما جعل جان جاك روسو يعلن فى روايته "ايميلى": "إلهكم ليس إلهى، من يختار شعبا واحدا من أجل تدمير كل الشعوب الأخرى فهو ليس إلها للبشرية كلها" (جارودى ٣٠).
وخرافة شعب الله المختار تذكرنا بخطيئة إبليس التى أخرجته من رحمة الله وهى: "خلقتنى من نار وخلقته من طين"، هو ذلك الكبر الذى ابتدعوه وصدقوه فحرفوا الكلم عن مواضعه وطوعوا الدين لخدمة أغراضهم الاستعمارية.
من هذا المنطلق هم لا يؤمنون بسلام مع "الأممين" أو كما يسمون غير اليهود "الأغيار"، فانطلاقا من هذه الخرافة نجد الصهاينة لا يؤمنون بالسلام مع العرب، فعندهم سلام العرب هو "سلام القبور" ولديهم مقولة معروفة "العربي الطيب هو العربي الميت" كما يقول جارودى، وهذا يفسر لنا ما حدث وما يحدث من وحشية وفقد أدنى مستوى من الإنسانية مع المدنيين الفلسطينيين.
"إسرائيل" هى دولة علمانية تصنع خرافاتها وتصدقها وتحولها إلى تاريخ مزيف. ويذكر لنا إيلان بابيه البروفسير اليهودى وأحد نقاد الصهيونية، عشرة خرافات صنعتها إسرائيل، منها: أن "فلسطين أرض بلا شعب" وأن "اليهود بلا أرض"، لكن أرشيفهم، كما يقول جارودى يعترف بأنهم عام 1948 أبادوا 418 قرية فلسطينية من أصل 475 قرية تم محوها من على الخريطة، كما أنهم اعترفوا فى الوثائق التى فرد جارودى لها صفحات كتابه بأن عدد من طردوا من الفلسطينيين كانوا أكثر من 460 ألف فلسطينيا سنة 1948، بينما منظمة "أونروا" أكدت أن العدد يصل إلى 900 ألف فلسطيني تم طردهم من أرض أجدادهم سنة 1948.
وهذا يناقض خرافتهم السابقة أن فلسطين أرض بلا شعب، إذن من أين جاء كل هؤلاء؟. ويناقض أيضا خرافة أن الفلسطينيين تركوا أرضهم طواعية لليهود، وها نحن نرى أهل غزة يتشبثون بأرضهم حتى الموت، كما ذكر بابيه فى كتابه "عشر خرافات عن إسرائيل" أن الصهيونية هى اليهودية، وخرافة أخرى أن الصهيونية ليست استعمارا وأن حرب 1967 كانت حتمية، وأن إسرائيل هى الدولة الديموقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط. كل هذه الخرافات يفندها بابيه فى كتابه الذى يجب أن يدرس فى مدارسنا لنعرف الحقيقة بعيدا عن تضليل الإعلام العالمى المتحيز لإسرائيل.
بينما تحدث روجيه جارودى عن الهولوكوست محرقة اليهود على يد هتلر والتى أخرجتها الصهيونية من سياقها التاريخى ويتساءل جارودي "هل إدعاؤهم أنها محرقة لا مثيل لها فى التاريخ" هى أيضا خرافة أخرى؟ مستطردا "فماذا عن محرقة الهنود الأمريكيين؟ وماذا عما حدث فى رواندا وفيتنام؟ وفى التاريخ الحديث ماذا عما حدث فى العراق؟ ألم تكن محرقة أبيد فيها مليون عراقى؟، وأقول وماذا عن ليبيا واليمن وسوريا؟ أليست كل هذه محارق لعبت الصهيونية دورها البارز فيها؟".
ويذهب جارودى إلى أن الحملات الصليبية هى حملات صهيونية بامتياز طالما أن تعريف الصهيونية هو استغلال الدين للسيطرة على أراضي واقتصاد دول أخرى أضعف. يقول جارودى: "يرقد أجداد الصهيونية السياسية وهم الصليبيون، الفرسان الذين حملوا الصلبان على دروعهم وانطلقوا يرتكبون المذابح الدموية يذبحون المسيحيين فى القسطنطينية قبل أن يحرقوا أحياء يهود القدس الذين لجأوا إلى معابدهم ويسكبون دماء المسلمين فى الشوارع" (٦٢).
ويضيف جارودى: إنه تضليل فكري تلك التى يعلنها بن جوريون العلماني قائلا: "إننا سنعيد بناء مملكة سليمان الثالثة" وذلك عن طريق مهاجمة القدس بالنابلم مثلما استولى عليها الصليبيون بالسيف والنار. أو كما يقول البروفسور فى الجامعة العبرية، إسرائيل شاحاك فى كتابه "عنصرية دولة إسرائيل"يقول: "لقد فقدت غالبية شعبي ربهم، واستبدلوه بمعبود وثني تماما مثلما عبدوا العجل الذهبي فى الصحراء. أما اسم معبودهم الحديث فهو دولة إسرائيل"(٦٣).
ويقول جون روز فى كتابه "أساطير الصهيونية:" إن هدفى من هذا الكتاب هو هدم التاريخ الأسطوري الذي اصطنعته الصهيونية"(٢٠). ويصف دافيد بن جوريون أول رئيس وزراء لأسرائيل انه وهو العلماني هو "صانع أساطير".
ويشرح بن جوريون نفسه كيف يختلق الأساطير ويحولها إلى تاريخ وحقائق: "ليس مهما ما إذا كانت القصة تسجيلا لحدث أم لا. ولكن المهم هو أن هذا هو ما يعتقده اليهودي، من فترة المعبد الأول".
يقول جون روز إن بن جوريون "موحد وقح" لديه الجرأة والمرونة فى إعادة تفسير الدين بحيث يناسب الحاجات السياسية الحديثة(٢٠).
ويشرح جارودى النظرية اللاهوتية الزائفة التى تنبع من الإنسان الصهيونى العنصري الذي يهدف إلى ترسيخ الإحساس بالتفوق العرقى، وتقوم هذه النظرية على ثلاثة مبادئ
الأول: "رفض الآخر،" وهى نظرية قامت على فكرة أن هناك حاجز من نار بين اليهود وباقى شعوب العالم، كما يقول الحاخام كوهين.
المبدأ الثاني: وأن "الآخر"، "كل الآخرين" أعداء أقوياء، كأن التاريخ كله ماهو إلا عملية اضطهاد أزلية للشعب اليهودى البريء من الأزل!!
والمبدأ الثالث: وأن الدولة الصهيونية الإسرائيلية لا يمكن أن تقام إلا على كتاب "صلوات الكراهية" كدافع وحيد للشباب والجيش والشعب وهذا ينبع من عقدة أماليك عندهم(٨٩).
اليهود هم مزيج من الكذب والعداوة والغش وتحريف الكلم والرشوة، لذا نجد أن سفر النبى ميخا فى التوراة يقول: "اسمعوا هذا يارؤساء بيت يعقوب وقضاه شعب إسرائيل الذين يكرهون العدل ويحرفون الحق. الذين يبنون صهيون بالدم وأورشليم بالظلم. أذ يحكم رؤساؤهم بالرشوة، وكهنتها يعملون بالأجرة والعرافة لقاء المال، ومع ذلك يدعون الاتكال على الله.. لهذا من جزاء أعمالكم ستحرث صهيون كالحقل، وتصبح أورشليم كومة من الخرائب". (سفر ميخا الإصحاح ٣:٩_١٢).
فكما تقول التوراة خربت مدينتهم بظلمهم وببغيهم، وأكلهم أموال الناس بالباطل ويدعون أنهم ربانيون!، وهذه نبوءتهم كلما أقاموا دولة على الظلم والسلب والاستعمار فهى إلى زوال، وكلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله فلا يغرنكم تقلبهم فى البلاد.