هوميروس.. وملحمته (بين الأسطورة والحقيقة)
د. محمد رمضان العرجة
يخلط كثير من المثقفين بين ماهو قديم وبين مصطلح الحضارة وأصبح السائد بينهم ان كل ماهو قديم فهو يعد انجازا حضاريًا، ولكن مفهوم الحضارة بمفهومها الشرقي والغربي هو العيش فى جماعة متحضرة، تحقق انجازا ماديا وفكريًا.
ولقد جاءت كلمة ( Civilization ) من الكلمة اللاتينية Civilis بمعنى Civilized أي متحضر، والمأخوذة من Civis بمعنى )مواطن )، فالحضارة هي ثمرة جهد الإنسان لتحسين ظروفه على مر التاريخ، فلم يعد التاريخ كما كان من قبل هو تاريخ الساسة والقادة العسكريين والحروب والفتوحات والإمبراطوريات، ولكن اصبح التاريخ هو تاريخ الشعوب، والتى تعد محور أي حضارة على مر التاريخ ، ولقد تأثرت الدراسات الكلاسيكية بكل هذه التطورات فعلى سبيل المثال لم تعد " الياذة هوميروس " مجرد قصة حرب بين الإغريق والطرواديين، بل اختلفت النظرة اليها وأخذت بعدا اجتماعيًا واضحًا ، ولقد آثرت ان أبدأ سلسلة تاريخ الحضارات بالحديث عن حضارة تعد من أعظم الحضارات في العالم القديم وهى الحضارة ( الهللينية ) أو اليونانية أو الإغريقية والتي تعد مرجعًا حتميًا لكل من يرغب الاتصال بالأصول والبدايات الأولية لمجالات شتى في العلوم والفنون، ولهذا فإن يوناني العصر الحديث على علم تام بحضارتهم القديمة ، وهم كثيري الفخر والزهو بذلك، فاليونانيين من أكثر الشعوب قدرة على التكيف والتأقلم مع المجتمعات الجديدة‘ وحتى الآن هم يرددون مثلهم المشهور ( حيثما توجد الأرض " لتسكن " فهي بلدك”
وعند سلوكنا أسلوب ومنهج علماء الأثار والمؤرخين، نجد أن التاريخ اليوناني يبدأ كما تبدأ دراسة أي تاريخ لأي أمة، فمصر مثلا كنا لا نعلم عن تاريخها القديم شيء، حتى كشفت الأثار عن الأثر الذى يبدأ به التاريخ المصري القديم وهو لوحة الملك مينا (نعرمر)، ومن هنا بدأ التاريخ المصري، كذلك بلاد اليونان لم نعرف متى بدأ تاريخها، وهل كان لها تاريخ وحضارة قديمًا؟ كل هذه الأمور شغلت الدوائر العلمية سنوات طويلة، إلى ان اكتشفت هذه الدوائر العلمية قلب التاريخ اليوناني، وأعادت من جديد هذه الحوادث، وهذا الحدث هو اكتشاف ملحمة الإلياذة والأوديسا والتي نسبت الى مؤلفها (هوميروس)، وقد أزاح هذا الحدث الستار عن حضارة اليونان القديمة، وعن طلائع التاريخ اليوناني، فلا يسعنا القول أن هذا الاكتشاف جعل البعض يقول انها مبدأ التاريخ والحضارة الهللينية، فمنذ القرن السابع قبل الميلاد بدأنا نسمع كلمة Hellas والتي أطلقت على بلاد اليونان، ومؤلف هذه الإلياذة كما ذكرنا هو الشاعر ( هوميروس ) وأمام هذا الشاعر نجد انفسنا مكتوفي الأيدي، ومعلوماتنا عنه بسيطة جدًا ، فلا نعرف متى عاش وأين ولد ومن هو والده، وهل كان شخصية حقيقية أم درب من الخيال؟؟ ، والذى زاد الأمر تعقيدا أن هذه الملحمة الشعرية الحماسية من النوع الموضوعي، فنجد ان الشاعر لا يكشف فيها عن ذاته، وانما يذكر أمجاد أمة وبطولاتها، ويعدد انتصاراتها العظيمة، وهنا لا مكان لأحاسيس الشاعر ومشاعره الذاتية، بل اقتصر فيها على ذكر البطولات والانتصارات والأمجاد والهزائم، ومن هنا أصبحنا جميعًا في حيرة من هذا الشاعر العظيم، الذي تنازعت على انتسابه لها كل المدن اليونانية حتى يكون لها شرف هذا الانتساب، لكننا بالنظر إلى المصادر الأخرى نجد أن مؤرخًا مثل هيرودوت الذي عاش فى القرن الخامس قبل الميلاد، والذي يعد هو العصر الذهبي للحضارة اليونانية، ذكر هيرودوت ان هوميروس قد عاش قبله بأربع قرون، أي في القرن التاسع قبل الميلاد، ولكن المؤرخ هيرودوت والذي لا نختلف علي قيمته كمؤرخ ومصدر مهم نعتمد عليه، يجب أن نعرض رواياته التاريخية للنقد ونتأكد من صحتها ومقارنتها بالمصادر الأخرى، ونتيجة للغموض الذي اكتنف الإلياذة ومؤلفها طرحت عدة تساؤلات من بينها هل كانت الإلياذة من عمل رجل واحد او ان من نظمها مجموعة من الشعراء ؟ على اى حال لا نستطيع ان ننكر ان الإلياذة تعتبر سجلا وافيًا عبر عن الحضارة الهللينية، ويمكن أن نعتبرها بداية التاريخ اليوناني بل مصدرًا يمكن اللجوء إليه عند التعرض لفترة ما قبل التاريخ اليوناني، وموضوع الإلياذة يدور حول قصة من قصص الحرب، وهى الحرب التى قامت بين بلاد اليونان ومدينة طروادة والتي كانت تنافس المدن اليونانية فى ذلك الوقت، ولقد كان السبب المباشر لها هو حادث اختطاف الأميرة ( هيللينا )، واستمر الآخيون ( كما يذكرهم هوميروس وهم اليونانيون ) يحاربون أمام أسوار طروادة عشر سنين، وفى السنة الأخيرة وقع نزاع بين أجاممنون وأخيليس، وقتل الامير الطروادى هكتور وفى النهاية سقطت مدينة برياموس ( طروادة ) بالحيلة والخديعة ( حصان طروادة ) حيث اختبأ الجنود في حصان خشبي، إلى ان اطمأن الطرواديون وتحققوا من الفوز، فابغتهم الآخيين على حين غفلة ونالوا منهم ودمروا المدينة، وعلى أي حال فهذ الملحمة تصور الانتصارات والبطولات ولا تقتصر على ذلك فقط بل تصور اشتراك الآلهة المختلفة فى الحرب، وكيف كان التأثير الديني كبير فى حياة الإغريق، وهذه الملحمة الحماسية اعتبرها الكثيرون اسطورة، وجاء أحد النقاد قائلا ( انه لم يولد الشخص الذي يمتلك كل هذ الخيال الواسع، بل يرجع ذلك إلى ان هناك حقيقة واقعة بالفعل وهي حدوث تلك المعارك والحوادث، وهذا الناقد هو ( شليمان ) الألماني الأصل والأمريكي الجنسية، والذي طرح على نفسه سؤال، وهو لماذا لا تكون هذه الحرب حقيقة تاريخية ؟ وبالفعل مكث على اثبات تلك الحقيقة ولجأ إلى المؤلفات الأثرية وبعد رحلة بحث طويلة اثبت صدق اعتقاده بعد ما نال من سخرية الحكومات فى ذلك الوقت، وتوصل بالفعل إلى حقيقة هذه الحرب العظيمة وإلى مكان حدوثها، وارتفع شأنه واستطاع ان يبهر العالم، ويعد شليمان من واضعي اللبنات الأولى فى علم الأثار، واستطاع أن يثبت للجميع ان الياذة هوميروس هى حقيقة واقعة عبرت عن حضارة عظيمة وشعب عريق، فليس من العجب إذا ان يعتبرها اليونانيين هي سجل وافي لتاريخهم العريق.
وأصبحت الإلياذة والأوديسية موسوعة تاريخية يرجع إليهما الكُتاب والمؤرخين فى الكشف عن معالم الحضارة اليونانية فهي سجل حافل وطويل عبر عن طبيعة الشخصية اليونانية، وكيف تطورت، لدرجة جعلت الشعوب الأخرى مثل الرومان تفخر بنسبهم إلى اليونانيين، كما سنرى بعد ذلك عن التعرض لإنيادة فرجيليوس .
لقد كان يطلق على اليونانيين اسم الآخيين، ومن حيث التسمية التاريخية لليونانيين فقد اطلق عليهم الرومان اسم الإغريق، حيث ان الرومان كانوا يطلقون اسم ( الجراكيين ) على السكان المجاورين لهم، وقد ظهرت كلمة إغريق فى القرن السادس والسابع قبل الميلاد، اما كلمة ( يوناني ) فهي تحريف لكلمة ايونيين، وهذا يوضح لنا أهمية أيونيا والساحل الأيوني في التاريخ اليوناني .
ولقد مرت الحضارة اليونانية فى ثلاث أطوار وهى 1- الفترة القديمة: ونستطيع أن نطلق عليها الحضارة الهيلادية، والتي وجدت فى القرن السابع قبل الميلاد، وهذه الحضارة هي التي تنعكس فى الياذة هوميروس، ومن المدن التي تمثلها مدينة ( موكيناى ) وكان القائد ( أجاممنون ) الذي تزعم حروب طروادة هو أمير موكيناى . 2- الفترة الوسيطة: وتسمى بالحضارة الهللينية والتي استمرت حتى القرن الرابع قبل الميلاد. 3- الفترة الأخيرة: وهى تمثل عصر الإسكندر الأكبر والتي يطلق عليها (الحضارة الهللينستية ) والتي امتزجت فيها الحضارة اليونانية بالحضارات الشرقية في ذلك الوقت .
وكل هذه تقسيمات واصطلاحات نستطيع ان نميز فيها بين عصور التاريخ اليوناني وملامح الحضارة اليونانية في كل عصر، والتي كانت مرجعاً لباقي الحضارات الأخرى وخاصة الرومان كما ذكرنا من قبل، فحضارة اليونان استطاعت أن تفرض نفسها في العالم القديم.
د. محمد رمضان العرجة
مدرس التاريخ اليوناني والروماني- كلية الآداب جامعة القاهرة