قصة قصيرة .. حضرة الصول ..عايش
بقلم : عمرو على بركات
"عايش"، ليس خبراً للمبتدأ، ولكنه اسم علم لحضرة الصول"عايش محروس عايش"، مساعد أول شرطة، ويُعرف"صول" فى قاموس اللغة من "الصؤل" وهو ذو النفوذ، والقوى الذى يصول ويجول، ومنها الصولجان، عصا الحكم، وعندما كان عم "عايش" مساعداً فقط كان يضع على كتفه إسبلايت معدنى مكسواً بقماشة زرقاء خالية من أى علامة، إلا أنه عندما رقى بالأقدمية إلى مساعد أول، قام بتثبيت قطعة نحاسية مستطيلة على طرف الإسبلايت، وأصل رتبة عم "عايش" فى لغة الشرطة تركى مختصر من "صول قول أغاسى" أى رئيس الجناح الأيسر، ربما لهذا السبب كان "عم عايش" يشبه الأتراك العثمانلية، فهو بين القصير القامة والطويل، عيناه زرقاوتان، تحمر عند الغضب، له كرش صغير بدون ترهل، لا يبدو عليه اقترابه من الستين، خفيف الحركة، نشيط دائماً، لا تفارق السيجارة فمه حتى ترك الدخان أثراً واضحاً على شاربه الأصفر المبروم، مولود،ومقيم، ويعمل فى مرور نجع حمادى بقنا، قابلته لأول مرة عندما جمعنا معاً قرار انتداب واحد فى أحد مواسم الصيف لتعزيز الخدمات المرورية برأس البر، والتى تبدأ من أول شهرمايو حتى شهر أغسطس، فانتدبت أنا من مرور دمياط، واستقبلت حضرة الصول "عايش" ضمن دفعة شهر يوليو التى ضمت ثلاثين فرداً من مختلف الرتب من مرور بنى سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا، وتوجهت بهم على الفور إلى محل إقامتهم بمدرسة "بنت الشاطئ" الابتدائية، ونظرعم "عايش" للافتة المدرسة، والذى كان اسمه قد علق بذاكرتى قائلاً:"وهى بنية الشط دى اللى هنبات عنديها..أهلها خابرين؟"، وقبل أن أعرض السيرة الذاتية للدكتورة "عائشة عبد الرحمن" رحمة الله عليها، قاطعه زميل آخر قائلاً:" ملناش صالح يا ولد عم"، وكانت هذه أول مرة أتعامل فيها مع رجال الشرطة الصعايدة، وأسمع لهجتهم على الهواء مباشرة، وعينت عم "عايش" لكبر سنه، وتعاطفاً مع شكله بخدمة منع مرور السيارات عكس الاتجاه على الكوبرى العلوى على طريق "دمياط ـ رأس البر"، والموازى لفرع النيل، وعند توصيلى لعم "عايش" عند الكوبرى قال لى:" وحنا ماهنستلمش دفاتر مخالفات؟"، فقلت له:" لا مفيش"، فقال بقرف:" يعنى واجفين زى جلتنا!! التساهيل على الله"، وبعد يومين فقط، وكنت أقف على مدخل مدينة رأس البر عند بوابات تحصيل الرسوم، فوجئت بتجمع أكثر من عشرة ميكروباصات أجرة، ونزل سائقوها منها ليخبرنى مفوضهم قائلاً:" شوف لنا حل يابيه فى حضرة الصول اللى واقف على الكوبرى!؟"، فقلت باندهاش منزعجاً:" ماله؟"، فقال:" إسأل السواقين كلهم.. بيثبتنا على الطريق وبيطلب منا فلوس أو يعمل لنا مخالفات عكس الاتجاه.. ويإما يسحب الرخص.. واحنا ماشين عدل!! وهم الصولات من حقهم يسحبوا رخص؟"، وعلى الفور ركبت ميكروباص أحدهم، واصطحبتهم معى، وتعمدت الجلوس فى الخلف، وتوجهت لعم"عايش"، فإذا به يمسك فى يده اليمنى نوتة، واليسرى قلماً، ويشير للسائق بالوقوف، قائلاً:" عاوزين نُفطر"، فما كان منى إلا اندفعت خارج الميكروباص، وما أن لمحنى عم "عايش" حتى انطلق يعدو، وأنا خلفه، فقمت بإخراج طبنجتى من جرابها حتى لا تسقط منى، فإذا به يصل إلى شاطئ النيل، ويلقى بنفسه، فنزلت خلفه لإنقاذه من الغرق بملابسى الميرى، وأنا رافع الطبنجة لأعلى، وتم إنقاذه بمساعدة السائقين، وخرجنا مبللين من النيل، وأخذنا نضغط على صدره لإخراج مياه النيل التى شربها، واصطحبته فى الميكروباص إلى مستشفى رأس البر، ونجا عم "عايش" من كل أخطائه، أمام الإطمئنان على حياته، ونجاته من الغرق أثناء محاولته للإنتحار، وذهبت بنفسى وأنا مبلول لإحضار أوفارول عم "عايش"، واشتريت له حذاء من محلات "أبو طوق"، وإنتابنى إحساس أنى ظلمت عم "عايش"، فمنحته يوم أجازة، وأجرت له شمسية على البحر، وجلست معه وهو يتناول ربع كيلو كباب مشكل إشتريته من عند "بزوم"، وفطيره حلوة من "دعدور"، قلت له:" كنت عاوز تنتحر، وتغرق يا عم عايش، وتودينى فى داهية؟"، ففوجئت به بدلاً من أن يعتذر! يهاجمنى قائلاً:" ما سعادتك اللى طلعت ترمح ورايا.. ورافع الطبنجة..عاوز تطخنى.. فماكنش جدامى إلا إنى أرمى نفسى فى البحر"، فتراجعت بظهرى على الشازلونج وسرحت فى أمواج البحر، قائلاً لنفسى:" يعنى عم عايش ممكن يلبسنى جناية هذا الوقت ويعمل بلاغ إنى اللى دفعته للانتحار..أو الشروع فى قتله..وأنا اللى رميته فى البحر!!"، فقلت له بتنكيت:" ياعم عايش..ياعم عايش.. ده أنا شايفك بتثبت العربيات.. وماسك نوتة عاملها دفتر مخالفات؟؟"، فبرم شاربه وقال ضاحكاً:" إثبت كده؟!"، فقلت له:" السواقين شافوك"، فقال وهو يقهقه:"سهلة.. هيشهدوا معاك لإنهم خايفين منك..والبيه مفتش الداخلية هيصدجنى أنا"، فسألته مستفسراً:" أنت بجد كنت عاوز تنتحر؟"، فقال:" أنا عويم..بس جلت لنفسى.. الباشا ده واعر.. ولازم أهته..لا يلبسنى جضية..واخد غطس وياه..مش مصيف بجه؟!"، وبت ليلتى أُفكر فى عم "عايش" وقد تملكنى القلق، فربما توجه غداً بشكوى إلى السيد اللواء مفتش الداخلية يتهمنى فيها بأنى دفعته للانتحار بإلقاء نفسه فى النيل، خوفاً منى لأنى جريت خلفه بالطبنجة، بل ممكن يُنسب إلىّ فى التحقيق، لو فلت من الشروع فى قتله بالاتهام الذى نصه:"منسوب إليك الإخلال بمقتضى الواجب الوظيفى، وإساءة معاملة مرءوسيك، مما دفع المساعد أول عايش سيف الدين عايش والمنتدب من إدارة مرور قنا إلى وحدة مرور رأس البر إلى محاولة الانتحار"، فقررت وأنا فى حيرة أن أغير خدمته باكر، وقمت بتعيينه بخدمة بعيدة عن خط سير السيارات الأجرة، عند شاطئ البحر ليمنع دخول السيارات إلى الشاطئ لمنع حوادث التصادم مع المشاة، وقمت بتسليمه مفتاح قفل الجنزير الحديدى، لكى لا يسمح إلا بدخول سيارات الإسعاف فقط، وقمت بالإمعان فى التأكيد عليه قائلاً له بحزم:" عم عايش.. ممنوع تعدى أى عربية..إلا الإسعاف.. يقولك ظابط.. مش ظابط ..جن أزرق..ممنوع"، فهز لى رأسه قائلاً:" تمام ياباشا"، فزدت فى القول:" ممنوع.. حتى لو قالك أنا المحافظ..قلوله ممنوع"، وقبل أن أصل إلى البوابات كانت الأجهزة اللاسلكية كلها تصرخ فى وجهى لمقابلة السيد المحافظ فى مكتب رئيس مجلس المدينة، وفور دخولى عليه قال لى:" بقى أنا أجى أعدى من الجنزير علشان أمر على نقط إسعاف الشاطئ.. الصول بتاعك يقولى ممنوع.. أقوله أنا المحافظ افتح القفل.. يقولى أهو إنت بقى بالذات اللى البيه منبه علىّ بالاسم معدكش؟؟"، وانصرفت بعد الاعتذارات المطولة، واصطحبت عم "عايش"، معى فى السيارة متوجهاً إلى البوابات، وفى الطريق قلت له لائماً:" بقى تقول كده للمحافظ؟"، فقال لى ببجاحة:" مش سعادتك اللى جايلى لو جالك المحافظ؟"، وإذا به يُشهد سائق السيارة علىّ أنى أصدرت الأمر هكذا بالنص!! "، فقمت بتعيينه خدمة ثابتة على البوابات، وتركت رأس البر كلها بمصطافيها، وتمركزت بجوار عم "عايش" بحجة حملة على السيارات القادمة، وبعد مرور حوالى الساعة، وتفتيشى على سيارة ربع نقل محملة بالبطيخ، وبعدها سيارة ملاكى، فوجئت بقائد السيارة الملاكى، يتوقف بعد مغادرته لنقطة التفتيش، ويعود سيراً على الأقدام، ويهمس فى أذنى قائلاً :"حضرة الصول اللى واقف معاك سرق بطيخة من صندوق العربية النقل اللى عدت وأنت واقف"، فما كان منى إلا أن بحثت بنظرى عن عم "عايش" فوجدته يخرج من دورة مياه النقطة، فتوجهت إليه مسرعاً، ودخلت إلى دورة المياه، لأجد خمس بطيخات على أرضية الحمام، فسألته معنفاً قائلاً:" إيه ده؟!"، فأجاب بثبات:" ده علشان زمايلى فى الاستراحة يا بيه، هو بدل السفر اللى بنخده من الوزارة هيكفينا أكل، وشرب،وكمان نجيب بطيخ؟!"، وتحول حضرة الصول"عايش" فجأة إلى حضرة الصول"سبارتاكوس" محرر البوليس، فقلت له مستسلماً لقدرى:" لو عرفتنى كيف تستغفلنى وأنا جانبك؟ وتسحب البطيخة من العربية من غير ما أشوفك أنا، ولا السواق؟ هديك براءة"، فانتظرنا حتى جاءت عربية نقل أخرى محملة بالبطيخ، وقام عم "عايش" بعمل بيان عملى على كيفية سرقة البطيخ؟ فكان يستغل انشغال سائقها بإخراج رخصه، وانشغالى بالاطلاع عليها، ويقوم بالوقوف عند نهاية السيارة النقل عكس السائق، ويسحب بطيخة بيده اليمنى، ويناولها ليده اليسرى، ثم يجعلها فى منتصف جسده، ثم يسحب أخرى بنفس الطريقة ويضعها فوق الأولى، بحيث لا يظهر من الخلف أنه يحمل بطيختين، ويدخل الى دورة المياه، فقلت له:" يعنى أنت استغفلتنى خمس مرات؟"، بعدد البطيخات، إلا أنه أجاب وقد أحمرت عيناه:" لا يا بيه ثلاث مرات بس.. كنت بشيل كل مرة بطيختين، وفى آخر مرة بطيخة واحدة بس"، فلا حيلة لى مع عم"عايش" سوى انتظارإنتهاء انتدابه، وعودته إلى نجع حمادى بقنا، وبعد انتهاء شهر يوليو، ومغادرة عم "عايش" رأس البر، صدرت الحركة العامة لتنقلات الضباط فى منتصف شهر أغسطس، وفوجئت بنقلى قائداً لمرور نجع حمادى بقنا، لأنزل من القطار وأجد عم "عايش" فى انتظارى على محطة القطار، مرحباً بى وهو يبرم شاربه، وفى أول يوم لى وأثناء مرورى على الخدمات وجدت عم "عايش" يقف أمام محطة السكة الحديد بملابسه الميرى يبيع بطيخ على سيارة ربع نقل، وعند مشاهدتى قام بطعن بطيخة على السكين، وقدم لىّ منها شريحة قائلاً:"حمرا ياباشا".