الفيلسوف النمساوي الفرنسي آندْري غورتز.. حكاية حب ما قبل الانتحار
هذا الكتاب احتفاء واحتفال بالحب الذي يدوم، بالعاطفة والالتزام والولاء الذي يتغلب على المرض وخيبة الأمل. إنه رسالة حب مفتوحة كتبها الفيلسوف النمساوي الفرنسي آندْري غورتز، أحد أهم الفلاسفة الاجتماعيين الرائدين في القرن العشرين وعالم البيئة الرائد وشريك جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، إلى زوجته دورين، التي التقى بها بالصدفة قبل 60 عامًا وقضى معها حياته بعد أن تزوجا خريف 1949، كتبها ونشرها بينما كانت دورين تحتضر في عام 2006، وبعد مرور عام، في 24 سبتمبر 2007، عُثر عليهما في غرفة النوم منتحرين يرقدان جنباً إلى جنب بسلام.
الكتاب/ النص/ الرسالة الذي تم الاحتفاء به عالميا أكثر من أي عمل فكري وفلسفي لـ "غورتز"، ترجمه أخيرا للغة العربية الشاعر التونسي أشرف القرقني تحت عنوان "رسالة إلى د.. حكاية حب" وصدر عن دار صفحة، يمثل رسالة الحب النهائية من رجل إلى المرأة التي يحبها أكثر من الحياة نفسها. لا يتعلق بالموت بل بالحياة والحب، ويا له من حب تجاوز تأثير كلماته القليلة ملايين الكلمات التي كتبها غورتز في أعماله الفلسفية والفكرية.
"أحتاجُ إلى إعادة تشكيل حكاية حُبّنا، كي أمسك بجُملة معناها. إنّها هي التي أتاحت لنا أن نصير من نحن، الواحدَ بواسطة الآخر، والواحدَ من أجل الآخر. أكتب لك كي أفهم ما عشتهُ، ما عشناهُ معا".. يقول غورتز ويعود إلى أول لقاء بينه وبين دورين وبدايات علاقتهما. كما أنه يعود إلى طفولتهما غير المستقرة للغاية، حيث انفصل عن عائلته من سن الـ 16 إلى الـ 25 بسبب الحرب، وهي نفس الحرب التي خاضها والدها.
بعد الحرب، تركت والدة دورين والدها، وفي النهاية أصبحت مؤسسية لما يبدو أنه ضغوط ما بعد الصدمة، لسلسلة من أصدقائها. من المحتمل أن يكون أحد هؤلاء الأصدقاء، الذين أطلقت عليهم دورين "الأب الروحي" قام برعايتها عندما تخلت والدتها عنها. نتيجة لذلك أصبحت دورين شخصية مكتفية ذاتيًا بدرجة عالية، وكما يلاحظ غورتز "لم تحبّي الحديث عن ماضيك. وفهمتُ لاحقا، شيئا فشيئا، أيَّ تجربة مُؤسِّسة ظلّت تقرّبنا قسرا، الواحد من الآخر".. "أنّنا متّحدان منذ البداية. فرغم أنّنا مختلفان إلى حدّ بعيد. إلاّ أنّني كنتُ أشعر على الأقلّ أنّ شيئا مّا أساسيّا كان مشتركا بيننا، نوع من الجرح الأصليّ ـ لقد تحدّثتُ سلفا عن "تجربة مؤسِّسة": تجربة انعدام الأمان".
بينما كان قراره بالزواج هشًا، كان قرارها واضحا وصريحًا؛ لقد تعلمت أن تكون قوية في وقت مبكر. قراره بالزواج كان مهتزا نتيجة شكه في قدرته على الزواج، ولديه اعتراضاته الأيديولوجية على مؤسسة الزواج. إنه أيضًا - وهذا يتكرر - يدرك تمامًا عدم قدرته على التوقف عن العمل، ويخشى أن الطبيعة الانفرادية لعمله ستقف بينهما.
طوال حياتهما معًا عملت دورين خلف الكواليس لدعم كتابات غورتز ومسيرته المهنية في الصحف عندما بدأت أخيرًا في الظهور. يحدد غورتز تقلبات حياتهما معًا من خلال علامات عادية جدًا، بما في ذلك سلسلة من الشقق المستأجرة في جميع أنحاء أوروبا، والوظائف بدوام جزئي، والبطالة، وفترات العمل الشاق للغاية. في سنواتهما الأولى كان يشعر بالذنب لأنه لا يكسب، بينما كانت هي تكسب لقمة العيش من خلال سلسلة لا نهاية لها من الوظائف الصغيرة مثل التدريس، والعمل كسكرتيرة، والترجمة وما شابه ذلك. إنه معجب بقدرتها على العمل في العالم الحقيقي، وعلى مستوى ما، يبدو أنه قلق بشأن قدرته على تقديم المساعدة.
يتذكر غورتز أنه ودورين عاشا بشكل مقتصد، بتواضع كبير وبدون الكثير من الموارد المالية، بميزانية كانت دورين تعدها كل شهر لتغطية نفقاتهما، رافضة شخصيا أي نوع من الإملاء من الموضة؛ إنها ترتدي ما تريد أن ترتديه. لم يكن لديهما تكلفة الذهاب إلى أماكن باهظة الثمن عندما يكونان في إجازة. هناك نقد قوي للنظام الحديث ولطريقة العيش بطريقة فاسدة وغير عقلانية للغاية.
كان لقاء غورتز مع رجال مهمين من أمثال جان بول سارتر تحولا مهما في حياته الفلسفية، حيث أتاح له العديد من الفرص للكتابة والعمل، وهنا تبقى دورين، في هذه الأثناء، على مقربة منه دائمًا، تناقشه وتقترحه عليه وتلهمه وتشجعه بإخلاص في كتاباته.
مقدمة المترجم الشاعر أشرف القرقني جاء أيضا حملت الكثير من الحب للنص ومؤلفه، يقول "ليست جملةَ استهلالٍ متحذلقة تلك التي تقولُ إنّ آندري غورتز هو على الأرجح التّحقّقُ العينيّ لأنموذج الفيلسوف الذي ينحته آلان باديو، أي اجتماعُ العالِم والشّاعر (الفنّان) والنّاشط (سياسيّا) والحبيب في شخص واحد. إنّها جملتي. وأصوغها انطلاقا من موقع محبّة نشأت في القراءة والكتابة في الآن ذاته. فهذه ليست المرّة الأولى التي أكتب فيها عن غورتز. ولكنّها أوّل مرّة أترجمه – يُترجمُ - فيها إلى العربيّة. ولمسألة التّرجمة هذه قصّة أخرى غير حكاية الحبّ التي تُسردُ هنا. من المستحيل بالنّسبة إلى فيلسوف أن يسرد حكاية حبّه دون أن يكتب المسار الذي أحدثته في حياته، وبالتّالي تاريخيّتها وما يمكنُ أن يكون معنى لها. ففي هذه الرّسالة يقف آندري في موقفه، ممتلئا برؤيته الوجوديّة الفلسفيّة متحدّثا بإيقاعها - لا متحدّثا عنها على نحو البسط والبرهان - عن رحلة طويلة بين ضفّتين. ولعلّه من الطّريف أن تكون الضّفّة الأولى نصّا أدبيّا كذلك، بالنّسبة إلى فيلسوف ماركسيّ متمحّض بماركسيّته المتجدّدة لتقلّبات القرن العشرين، وربّما القرن الذي يليه أيضا. لقد نشر جيرهارت هيرش، وهو اسم غورتز الأوّل، كتاب "الخائن" ووسمه بكونه سيرة ذاتيّة فينومينولوجيّة. وروى فيه، في ما رواه، علاقته بحبيبته التي اصطدمت آنذاك بقناعته الرّاسخة المتمثّلة في أنّ الزّواج مؤسّسة برجوازيّة تدفع ذاتين إلى إشراك الآخرين والمجتمع بصفة عامّة في ما هو الأقلّ قابليّة للمشاركة: الحبّ".
ويضيف القرقني "ومع ذلك تزوّج ميشال بوسكيه، وهو قناع آندري أو جرهارت الصّحفيّ من حبيبته. وترافقا حتّى كتابة هذا الكتاب الذي يسبق النّهاية أو يكتبها. لكنّ زواجهما كان قران ذاتين على نحو لم يكن متوقّعا مطلقا. إنّه الحبُّ، حدثانٌ ينفلتُ من سكك الحياة التي عُبّدت سلفا ومن عَروضها وميزانها وعيارها. ولذلك يظلّ عسيرا دوما عقْلُه. ولا مهرب من محاولة تعقّله استنادا إلى الإصغاء الحميميّ لذلك الحدثان. ولهذا السّبب أيضا يفتحُ حدثانُ الحبّ دوما على المفاجأة والدّهشة التي لا تحدث خارج ذواتنا. إنّه تمزّقٌ في الكينونة يدفعها إلى التّشكّل من جديد وإلى الصّيرورة على نحو آخر. بفضل الحبّ لا يأسنُ ماء الحياة، بغضّ النّظر عن الثّنائيّات السّاذجة المتعلّقة "بسعادة" مآله أو "حزنه".
وير ى القرقني أن "رسالة إلى د، حكايةُ حبٍّ"، هي رسالة ما قبل الانتحار، شهادة فيلسوف مُثبِتٍ للحياة في فلسفته عن استحالة الاسترسال في الكينونة خارج ذاتٍ مشتركة، هي ذات آندري ودورين معا. كان السّرطان يهدّد هذه الذّات بالقسمة. ولم يرد غورتز أو لم يستطع أن يتخيّل إمكان وجود لحظة لا أيس فيها لدورين. "يريدُ كلّ منّا ألاّ يُجبر على البقاء حيّا أمام موت الآخر". ولذلك، كان لا بدّ من كتابة هذه الذّات المشتركة في هذه الرّسالة. ففي الحبّ لا يظلّ المرأ هو ذاته. و"في الحبّ يربط الإنسان نفسه بآخر من أجل أن يشكّل ذاتا معه أو معها". إنّ ذات حُبٍّ ظلّت تنشأ وتصير في اللّقاء المتوتّر بين آندري ودورين، هي التي شكّلت مشروعا فكريّا طريفا حمل توقيع آندري غورتز في شقّه الفلسفيّ الأكبر وقناع ميشال بوسكيه في شقّه الصّحفيّ الملتزم سياسيّا. "معكِ كنتُ في السِّوى، في مكان غريب، غريب عن ذاتي نفسها. كنتِ تهبينني النّفاذ إلى بُعدِ غيريّة إضافيّة - أنا الذي لطالما ألقيتُ عنّي كلّ هويّةٍ وأضفتُ الواحدة إلى الأخرى، دون أن تكون أيّ منها ملكا لي".
ويذكر القرقني أن جيرار هيرش ولد في فيينّا سنة 1923 من أب يهوديّ، تاجرِ خشب وأمّ كاثوليكيّة أصغر من الأب بخمس عشرة سنةً. سنة 1930، اختارت العائلة لقبا أقلّ إحالة على يهوديّتها: هورست، اللّقب الذي شاع في الأوساط الفرانكفونيّة على أنّه لقبه الأصليّ، إذ لن تتوقّف المسألة هنا. سيواصل جيرار تبديل أسمائه كأنّها أقنعةٌ تحميه من العالم الخارجيّ المُرعب. وبعد دراسته في سويسرا، تحصّل على شهادة الهندسة في الكيمياء. ثمّ أبدى اهتماما كبيرا بالفلسفة والفكر، خصوصا بعد اطّلاعه على كتاب "الكينونة والعدم" لجون بول سارتر. فتجاذبه إثر ذلك منزعان: الأوّل وجوديّ تغذّيه أسئلة الطّفولة وهواجسُ حضوره في عالم الحرب العالميّة الثّانية بجذور يهوديّة، والثّاني ماركسيّ اقتصاديّ. وقد حملهما معا اسم آندري غورتز، مُنظِّرا وجوديّا سارتريّا في مرحلة أولى وناقدا لماركسيّة اقتصادويّة. ودون انفصال عن غورتز، ظهر ميشال بوسكيه اسمه المستعار الآخر، الذي يحمل شخصيّة الصحفيّ المهتمّ بالمجال السّياسيّ الاقتصاديّ وعلاقاته خاصّة بما هو إيكولوجيّ والشّريك في تأسيس مجلّة "الملاحظ الجديد" ذات الشّعبيّة الكبيرة في الأوساط الثّقافيّة الفرنسيّة .
ويلفت إلى أنه انتبه منذ سنوات إلى هذا الفيلسوف، وإلى شهرة كتابٍ له، في غير الفلسفة والفكر، تفوق شهرة كتبه الأخرى. ويقول "إنّه هذا الكتابُ الرّسالةُ، الذي يسردُ "حكاية حبّ"، والوسمُ مدوّنٌ من قبل مؤلّفه عنوانا فرعيّا، ربّما لشدّة اختلاف كلّ حبٍّ وحكايته في عين صاحبه، وربّما أيضا لشدّة اختلاف هذه الكتابة التي تقول الحبّ وشعريّته على نحوٍ يخصّها. فمن عادة الكتابة العشقيّة أن تزدهر في الحبّ المستحيل للعشّاق اليافعين. أمّا الحبّ المسرودُ هنا، فهو مثل أثر فنّيّ يختزل تجربة فنّان برمّتها، نُحت في الزّمن، شيئا فشيئا، في كنف اللّحظات الصّغيرة للحياة اليوميّة، تلك اللّحظات التي قد تبدو مبتذلة وعاديّة إذا ما نظرنا إليها بعينٍ تُجدولُ وتصنّف وتعدّ الأرباح وتقسم الحيّ إلى أقطاب ثنائيّة ضيّقة، ولكنّها أبديّات مستغلقة على القول النّهائيّ بالنّسبة إلى من شكّل في داخلها عوالم غير محدودة. إنّها حالة آندري ودورين. وهو يكتبُ لها هنا، وقد تجاوز كلّ منهما عتبة الثّمانين، ما عجز طيلة حياته عن قوله أو تمثّله أحيانا، يكتبُ إذ يستكشفُ أنّ قرانه بها قد شكّل أهمّ ما حدث - وظلّ يحدُث - في حياته. يتذكّر ارتباكه أمام مؤسّسة الزّواج وإصرارها على أنّه الحبُّ دوما، الحبُّ ما يجعلهما يكونان ما يفعلانه معا، ميثاقا يتجّدد انطلاقا من إرادةِ حبٍّ لا تحطّمها أيّ مطرقة تأتي من الخارج.
ويختم "من قال إنّ فيلسوفا مّا بإمكانه أن يدفعنا إلى تمثّل مفاهيم أو إبداعها أو استشكال العالم الذي نقيم فيه فحسبُ؟ إنّ غورتز يقدّم هنا درسا عظيما في الحبّ، وهو درسٌ ليس للتّعلّم بل للتّشرّب حتّى العظم، لأنّه جوابُ ما سأله رامبو في "فصل في الجحيم" : "إنّ الحبّ، كما نعلم، يجبُ أن يُبتكر من جديد". إنّ هذا الابتكار ضرورة لا بدّ منها، لكلّ واحد منّا، في زمن الفايسبوك ومواقع التّعرّف، ضرورة في كلّ الأزمنة، إذ في الحبّ يستعيد الإنسانُ شيئا مّا يراوغ من خلاله تفاهة الوجود وعبثيّته، في الحبّ، يمكن القول إنّ في الإنسان شيئا آخر".