رئيس مجلس الادارة
عمــر أحمــد ســامي
رئيس التحرير
طــــه فرغــــلي
د. محمود رمضان.. أخصائى التخدير والرعاية بمجمع الشفاء الطبى بغزة: نعيش أيام الرعب.. ونفسى أشوف ولادى بيكبروا
د. محمود رمضان أخصائى التخدير والرعاية بمجمع الشفاء الطبى بغزة
حوار تكتبه: إيمان النجار
فى طرق خالية، مليئة بالأنقاض، فوقه مختلف أنواع الطائرات، قصف مدافع هنا وهناك، يقطع مسافة ما بين 2 أو 3 كيلو مترات سيرًا على الأقدام للوصول للمستشفى، تاركًا خلفه أسرة مكونة من خمسة أبناء وزوجة، إنه الدكتور محمود رمضان سعد الدين، أخصائى تخدير ورعاية بمجمع الشفاء الطبى بقطاع غزة، الذى تحدث عن الوضع بالقطاع الصحى وما يعانيه من نقص فى الإمكانات والمستلزمات الطبية، وبحكم أنه عاصر 6 حروب وعشرات الاجتياحات تحدث أيضا عن الاختلاف فى هذه الحرب من حيث نوعية السلاح المستخدم الذى أصبح خبيرا فى أصواته وما يسمعه من أصوات مختلفة هذه المرة، ونوعية الإصابات التى يرونها.
د. محمود كشف عن كارثة انقطاع الكهرباء ونقص الوقود وخطورة ذلك على تقديم الخدمة الطبية، وحتى على انتقال المرضى للمستشفيات وتحدث أيضا عن مشاهد حُفرت فى ذاكرته لن ينساها.
أجواء الحديث مختلفة هذه المرة، أرسلت للدكتور محمود سعد الدين طلبًا لمراسلته على «الماسنجر»، لم يرد لأيام، فوسائل الاتصال كانت مقطوعة. وفور عودتها وعودة الإنترنت لديه بادر بالموافقة، لكن حتى التسجيل الصوتى لم يكن مجديًا لأنه يأخذ حجما كبيرا ويتأخر فى الإرسال، اتفقنا على أن الكتابة هى الأنسب، أيضا الحديث سيكون أثناء تواجده بالمستشفى، فهو الأنسب لأنه المكان الوحيد المتوفر به إنترنت بحكم انقطاع الكهرباء فى المنازل.
الحديث تم على فترات متقطعة، بمجرد وصول حالات لمصابين يتوقف الحديث ليدخل غرفة العمليات، وبعدها يعود لنستكمل مرة أخرى.
الدكتور محمود بدأ حديثه، قائلا: «أعمل فى مجمع الشفاء الطبى وهو تقريبا أكبر مستشفى موجود فى قطاع غزة، بل فى كل أراضى السلطة بشكل عام، كنت مقيما فى السعودية وأعمل هناك وعند اندلاع انتفاضة الأقصى قررت العودة إلى غزة خاصة أننى كنت لا أزال فى بداية مشوارى المهني، ومنذ ذلك الوقت وخلال 23 سنة قضيتها فى غزة عاصرت وشهدت 6 حروب وعشرات الاجتياحات لمناطق قطاع غزة قبل انسحاب إسرائيل من غزة فى 2005 والتى كانت تقريبا كحرب صغيرة، حيث تجتاح قوات الجيش مناطق فى غزة مثل الشجاعية وجباليا وبيت حانون وخلفت عددا كبيرا جدا من الإصابات كانت فى حينها تنقل جميعها إلى مجمع الشفاء، هذا بخلاف أحداث الانقسام الفلسطينى، والتى كانت أيضا عبئا ثقيلا علينا ككادر صحى».
فى مرارة وحزن استكمل د. محمود، قائلا: «خلال هذه السنوات وكل ما مر بنا من حروب ونكبات كنت أعتقد أننى رأيت أقبح ما يمكن للحرب أن ترينا إياه، إلا أنه فى هذه الحرب ومنذ أيامها الأولى نرى فظائع لا يمكن تخيلها، ونعيش أجواء رعب حقيقى، ففى هذه المرة الوضع مختلف من حيث نوع الأسلحة، لقد أصبحنا خبراء فى التفريق بين أنواع الأسلحة من صوتها، وما نسمعه هذه المرة هو أصوات جديدة علينا وما نراه من إصابات على المرضى شىء مختلف، فالمصابون يصلون إلى المستشفيات بحروق من الدرجتين الثالثة والثانية مغطين بطبقة من السخام الأسود وتفوح منها رائحة بارود فظيعة».
معظم مستشفياتنا قدراتها الاستيعابية متواضعة، فمجمع الشفاء هو أكبر المشافى وقدرته الاستيعابية 450 سريرا أغلبها كانت مخصصة للجراحات والباطنة والنساء والتوليد، لكن مع الحرب تحولت إلى استقبال المصابين.
يحدثنا الدكتور محمود وكان فى ذلك اليوم يعمل مناوبا لـ24 ساعة بمستشفى آخر: «المستشفى الذى أعمل فيه اليوم هو مستشفى شهداء الأقصى فى دير البلح، قدرته الاستيعابية الأساسية 190 سريرا، تم رفعها الآن إلى 500 سرير وتم تحويل المستشفى بالكامل إلى مستشفى جراحى».
تعودنا فى السابق على العمل بأقصى طاقاتنا وبأقل الإمكانات المتوفرة لدينا خلال الحروب السابقة، ولكن هذه المرة عدد الحالات والمرضى الذين يصلون إلى المشافى فى كل لحظة يجعل من الصعب علينا استيعاب كل الإصابات والتعامل معها، ومن أصعب المواقف التى قد تمر علينا كأطباء وفريق طبى أن نقف عاجزين أمام مريض بإصابات بليغة، يلفظ أنفاسه، ولا شىء لدينا نستطيع أن نقدمه له، فالإمكانات الفنية لمستشفيات القطاع تعانى نقصا شديدا فى المستلزمات والمستهلكات الطبية».
يعود الدكتور محمود بنا إلى البداية فى السابع من أكتوبر 2023 قائلا: «فى أول أيام الحرب تقريبا عملنا من الساعة الثامنة صباحا حتى الخامسة صباح اليوم التالي، مع أكثر من 200 إصابة فى العمليات بخلاف الإصابات المختلفة فى الطوارئ، وهذا العدد كبير جدا بالنسبة لمستشفياتنا، بمجرد بدء الأحداث أسرعنا للمستشفيات، نحن بالعادة لا ننتظر اتصالا من أحد، فبمجرد حدوث أمر كبير نتوجة جميعا إلى المستشفى دون استدعاء، وهذه ليست المرة الأولى، ففى كل حرب نبادر جميعا للوصول إلى المستشفى».
مضيفا: «تخيلى البلد فى حرب وقصف عنيف فى كل مكان وعلينا أن نترك عائلاتنا، وأن نتوجه طواعية إلى المستشفيات، دون حتى أن نحاول تأمين عائلاتنا وتأمين احتياجاتها وضرورياتها».
وعن عائلته، قال: «أنا أب لـ5 أطفال ونعيش جميعا شأننا شأن معظم عائلات غزة فى بيت العائلة الكبير، يقطن إلى جوارنا عمى وأولاده ونعيش أنا وإخوتى وأمى فى بيت من طابقين، فى حى الرمال وسط غزة، وهو من الأحياء الراقية فى مدينه غزة».
يعود مرة أخرى لليوم الأول: «إحنا نزلنا جرى على المستشفى ومش عارفين إيه اللى صاير فى البلد، كنا فاكرين أن الموضوع لن يتصاعد أكتر من هذا، فى البداية لا أحد كان يعلم ما الذى يحدث أو ما الذى سيحصل بعد ذلك، عملنا من أول يوم بنظام الطوارئ 24 ساعة كل 24 ساعة، مجموعتنا على سبيل المثال كانت مكونة من 12 طبيب تخدير ما بين أخصائى ومقيم، لكن كنا نغطى 16 غرفة عمليات، كانت تعمل على مدار الساعة معظم أوقات اليوم، لأن القصف يستهدف بيوتا كاملة بسكانها وجيرانها، فكان عدد الإصابات مهولا، مرة واحدة يصل 20 مصابا، ممكن أقل أو أكثر يحتاجون إلى عمليات، وهذا العدد الكبير ينتج عنه انتظار عدد كبير من المرضى فى أروقة غرف العمليات، فعلى سبيل المثال أتذكر مريضا كان ينتظر أمام الغرفة التى كنت أعمل بها وكلما جاء دوره يصل مريض آخر يحتاج إلى تدخل أسرع منه فنبقيه لينتظر، نظرا لأن الحالات التى كانت تصل كانت لأطفال فى وضع حرج للغاية».
فجأة يتوقف الدكتور محمود عن الحديث، ورسالة سريعة يقول فيها: «نستكمل فى وقت لاحق أنا ذاهب للعمليات»، ليجد أمامه حالة «إصابة فى البطن بالكبد والطحال وإصابة بالغة فى الرجل اليسرى قد تحتاج إلى بتر».
بعد ساعتين عاد د. محمود للتواصل متحدثنا عن مشاهد حُفرت فى ذاكرته قائلا: «مواقف كثيرة أثرت فى كثيرا وباعتقادى أنها تركت أثرا فى شخصيتى لا أعتقد أنه سيُمحى أبدا، أكثرها إيلامُا الشهداء الأطفال الذين يصلون مضرجين بدمائهم يكسوهم غبار القصف والركام المتناثر فوقهم».
مضيفا: «كنا نعمل فى اليوم الرابع أو الخامس لا أذكر، فى مجمع الشفاء مع شاب فى أوائل العشرينيات أو أصغر ربما كانت إصاباته صعبة وتوقف قلبه، فقررنا أن نعلن وفاته، ووقتها علمنا أنه وحيد والديه ووُلد بعد انتظار 20 عاما، أنعشنا قلبه ولم نتوقف، حاولنا أكثر من مرة، ووالده ينتظر غير بعيد عنا يجلس مطمئنا أن ابنه بخير ولم نخبره، واصلنا إنعاش القلب، اشتغل قلب المصاب فرحنا جميعا، ووالده كان يجلس وهو لا يعلم أن ابنه كان ميتا لولا عناية ولطف الله، وقد لا يعلم حتى الآن ما حدث وهذا غير مهم بالنسبة لنا، المهم إنقاذ الشاب.
مضيفا: «مواقف أخرى منها عندما كنا نتعامل مع أطفال رضع، ومنهم طفلة مصابة لا يتعدى عمرها 10 أشهر، مصابة بكسر فى عظمتى الفخذ، وإصابة فى البطن وشبه بتر فى إحدى يديها، وكل عائلتها استُشهدت، كنا نتعامل معها، نرى مصيرها، ستعيش هذه الطفلة معاقة يتيمة، لكن القدر كان له رأى آخر، فاستُشهدت الطفلة بعد يومين».
يضيف د. محمود: «منذ يومين أتتنا امرأة مصابة بشظايا فى بطنها وكسر فى ساقيها، استُشهد جميع أطفالها وعائلتها فى القصف، علمنا بعد ذلك أن زوجها كان قد استُشهد صباح ذات اليوم».
كل حالة تمر علينا وراءها حكاية فريدة من نوعها ومؤلمة فى تفاصيلها لكنها تشترك فى تفصيل واحد وهو الجرائم الوحشية للاحتلال.
أحيانا أشعر برهبة شديدة عندما يكون علىَّ اتخاذ قرار بإيقاف إنعاش قلب لمريض أو مصاب وأن أعلن وفاته، من أنا حتى أحرم أبًا من ابنه أو طفلًا من أمه أو أخًا من أخيه»، ففى أحد الأيام الضارية كدت أنهار، خمس حالات فى يوم واحد كان علىَّ - بوصفى كبير أطباء التخدير فى الشفت - أن أتخذ القرار بإعلان الوفاة والاستشهاد».
تهديد القطاع الصحى والمستشفيات باستمرار منذ بدء العدوان فى السابع من أكتوبر بل وقصف بعضها، تحدث عنه الدكتور محمود قائلا: «بالنسبة لتهديد المستشفيات بالقصف فهذه ليست المرة الأولى، ففى 2014 تم تهديد مجمع الشفاء ولم نخلِ، فى 2021 تم قصف الشفاء ولم نخلِ، وحتى الآن كل مشافى قطاع غزة مهددة ولم نخلِ ونؤدى دورنا».
الذهاب للمستشفى معاناة أخرى تحدث عنها د. محمود: «أمشى تقريبا 2 إلى 3 كيلو فى طرق خالية، وفوقى كل أنواع الطائرات التى ممكن تخيلها، أباتشى، مسيرات، f16، وقصف مدافع هنا وهناك، بمشهد يصعب على أى أحد تخيله، أنا كل يوم قبل ما أروح الشغل أتشاهد وأنا طالع وبخاف أودع أولادى حرفيا، ليس خوفا من الموت، ولكن الخوف على أولادى، أنا أول يوم كنت ماشى بتلبد بجانب الحائط، المنطقة كانت جديدة علينا ولا أعرف فيها شيئا».
يتوقف قليلا، يلتقط أنفاسه، قائلا: «أنا أول أمس رجعت البيت ما حكيت مع أولادى ولا مع زوجتى، والسبب أن الليلة التى قبلها تم قصف منزل وكنت فى الطوارئ وقتها، كل الواصلين كانوا خمسة أطفال وسيدة شهداء، انتابنى الخوف واترعبت ولم أقدر على الوقوف مكانى وغادرت، اترعبت كأب وليس كطبيب، فهم نفس أعداد أسرتى!».
نقص المستلزمات والإمكانات الطبية معاناة حقيقية أثناء تقديم الخدمة الطبية، يقول عنها د.محمود: اليوم أطلب دواء معينا للتخدير، أخبرونى أنه غير متوفر، دواء اسمه «كيتامين» وهو دواء تخدير مهم فى حالات الطوارئ، محاليل بدأت تنفد.
وقبل إلقاء سؤالى قال د. محمود: «أنا راح أخدك فى جولة فى المستشفى، هذا ممر العمليات، بعد ما ضاقت جنبات المستشفى تم نصب خيام إغاثية كعنابر للمرضى، الكهربا قطعت وهذا عن جد وليس نوعا من الهزار، الناس فى كل مكان بالمستشفى، عائلات من غزة ليس لها مكان تذهب له، هذه خيمة الشهداء، الثلاجة لم تعد تستوعب العدد الكبير من الشهداء، المستشفى بالأساس يستوعب 190 حالة، الآن يستوعب أكثر من 500 حالة، إيجاد مكان فى الرعاية يحتاج إلى معجرة الآن، عدد الحالات كبير جدا ومعظمها تحتاج عناية غير متوفرة فى غزة الآن».
واستطرد قائلا: «فى أوقات ما، الوضع يكون هادئا، ولا يوجد تقريبا قصف من فترة، لكن قصف منزل واحد كفيل بقلب المستشفى هنا، وملء غرفة الطوارئ ذات الـ25 سريرا».
سألت د. محمود عن رسالة يحب قولها فقال: «رسالتى أننا شعب يريد أن يعيش فى أمان شأنه شأن باقى شعوب العالم، أنا نفسى أشوف أولادى حولى بيكبروا وعايشين من غير خوف».
مضيفا: «المشكلة الآن ليست فقط فى مصابى الحرب، لكن أيضا هناك مرضى السرطان والفشل الكلوي، فوالدتى مريضة فشل كلوى وتحتاج إلى غسيل كلوى 3 مرات فى الأسبوع لمدة 4 ساعات يعنى 12 ساعة، الآن بيغسلوا ساعتين ونصف فقط، بواقع مرتين فقط أسبوعيا، بما يعادل 5 ساعات من الـ 12 ساعة، هؤلاء المرضى بحاجة مستمرة للرعاية وإلا معناه أنهم يموتون بصمت، أنا معى عربية تقريبا فيها نصف تانك تركتها فقط لمشوار والدتى للمستشفى لعمل جلسات الغسيل والرجوع للمنزل، لأنه للأسف لا يوجد بنزين فى غزة، وعندما يخلص البنزين الموجود بها، راح نروح ونيجى مشى أو على عربية كارو، فهذا حالنا».
فجأة يتوقف عن الحديث ثم يعود بعد فترة، قائلا: «وصلنا الآن 3 أشقاء واحد شهيد واتنين سيتم تحويلهم للعمليات، والدهم معهم، عقله مش فيه حرفيا، لكن صابر بطريقة تخوف».
د. محمود يقول: «مصر طالما كانت شريان حياة غزة، ومصر حكومة وشعبا لطالما كانت ومازالت داعما صلبا لأهل غزة، ونعلم أن الحكومة المصرية لن تتأخر فى بذل كل جهد من أجل وقف شلال الدماء المسال فى شوارع غزة، فمصر قوة إقليمية وعربية لها وزنها وكل الحروب السابقة على القطاع أوقفت بجهود مصرية وأتمنى أن تواصل مصر دورها فى حماية الشعب الفلسطينى وقضيته العادلة، ونتمنى أن نرى فى الأيام المقبلة دورا عربيا أكبر وأكثر فاعلية من أجل وقف العدوان الهمجى الوحشى على المدنيين الفلسطينيين».