رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


عندما يكتب السعدنى عن ولده عاصم حنفى ..

21-2-2017 | 15:03


بقلم –  حمدى رزق

أترك هذه المساحة لصاحب هذه الصفحة طيب الذكر الساخر الكبير محمود السعدنى ، ليقدم فيها أنبغ تلاميذه الساخر الجميل عاصم حنفى ، حرفيا هنا مقدمة السعدنى المتجددة لكتاب عاصم «حواديت سفر» الصادر فى طبعة حديثة عن الشقيقة «روز اليوسف» فى سلسلة « الكتاب الذهبى « العائدة بعد غياب ..  وإلى مقدمة السعدنى الراقية . 

إذا كانت كل الطرق تؤدى إلى روما، فكل الظروف التى أحاطت بالكاتب عاصم حنفى كانت تؤدى إلى السخرية، السخرية من نفسه ومن الناس ومن الزمان، فهو وُلد ونشأ وعاش فى حى من أغرب أحياء القاهرة، حى يلاصق من الناحية الغربية أرقى وأفخر أحياء العاصمة وهو حى جاردن سيتى، ويجاور من الناحية الشرقية حى المدبح وتلال زينهم والبغالة وشارع السد، أما الحى نفسه فهو سكلانس عجيب من كل الألوان والأصناف، صغار موظفين على عمال على عدد كبير من أصحاب الدكاكين، هو نفسه ابن صاحب دكان، والده صاحب محل ترزى فى حى الغالبية الساحقة من سكانه يرتدون الجلابية، ومن يرتدى منهم ملابس أفرنجية يكتفى بالبنطلون، وأشهر شخصية فى الحى كان يدعى أحمد الإنجليزى، فقد كان شديد الشبه بعساكر الإنجليز، وكان يرتدى البنطلون والقميص والنظارة البيرسول، ويقف على ناصية شارع قصر العينى وقفة تأمل وتحفز وتأهب لأمر خطير، ثم فجأة يصيح بصوت كالجاعورة.. البلى بلى باى، ويكرر العبارة أكثر من مرة، ثم ينصرف ليحتل موقعاً جديداً يطلق خلاله صواريخ.. البلى بلى باى!!

ومع أنه لايوجد فى أسرة عاصم فلاح واحد أمسك بالفأس واستعمل المحراث، فقد فرضت عليه الظروف أن يدرس الزراعة، هو نفسه لم يسأله أحد عن رأيه فى دراسة الزراعة، ولكن مجموعه فى الثانوية العامة هو الذى قاده إلى هناك، وهكذا أوجد عاصم حنفى نفسه يحمل شهادة جامعية وعاطلاً عن العمل، فلا هو يصلح للخياطة فى دكان الوالد، ولايصلح للزراعة التى درسها فى الكتب.

حظه الحسن أنه من مواليد ثورة يوليو، عاش فترة الأحلام العريضة والتحديات الكبرى، واتصل ببعض المثقفين وتأثر بهم، ولكنه اكتشف بعد قليل أن الشعارات شيء والواقع شيء آخر، عمل موظفاً بعض الوقت فى مصنع بإحدى مدن الدلتا، واكتشف أن أكثر الناس تشدقاً بالاشتراكية هم أشدهم نهما إلى المال العام، وأن أكثر العمال تشنجا هم أقلهم عطاء وأبعدهم عن الثورية، وعندما انتابه القرف من سوء الأحوال، استقال من المصنع، وآثر أن يعيش عاطلاً فى القاهرة، وفى بداية حكم السادات وجد له مكاناً فى جريدة تابعة لمنبر من المنابر ووجد نفسه فى الصحافة، ولكنه أخطأ البداية الصحيحة، فانهمك فى كتابة مقالات ثورية عن الحنجورى المتشامخ والشواشى العليا للبرجوازية، ثم غادر مصر فى أواخر السبعينيات، وعرضوا عليه العمل فى الخليج، حيث الهدوء والفلوس، ولكنه رفض العرض، وذهب إلى لندن وعمل محرراً فى مجلة ٢٣ يوليو، ومن أول مقال «ثورى» كتبه، اكتشف العبدلله أن مصر فى محنة، بدليل أنها خلت من نوع «البقال» الأستاذ، أما البقال فهو مكتشف نجوم كرة القدم فى عصرها الزاهر، كان عبده البقال يجوب الحوارى والنجوع، والكفور، بحثاً عن مواهب جديدة.

وكان له عين صقر لا تخطىء الموهبة، وكان جاهزاً لتوريد كل أنواع المواهب فى الهجوم والدفاع وحراسة المرمى، وعلى من يريد الاتصال به أن يتصل به عند عبده البقال فلم يكن فى بيت عم عبده العارف والخبير جهاز تليفون.

وبموت عبده البقال خلت ملاعبنا من المواهب، يبدو أن الحال نفسه وصل إلى مجال الأدب والصحافة بعد أن رحل جميع البقالين، فلم يعد يوجد منهم أحد وعندما جاء عاصم حنفى إلى لندن كان لايزال يلتزم بأسلوب الحنجورى، ولكن العبدلله لمح بين سطور الحنجورى عينا ناقدة وساخرة، وروحاً قلقة لا يعجبها العجب ولا الصيام فى رجب وأشرت له على الطريق فاندهش واستنكر، ثم جرب نفسه مرة ومرة فإذا به يعثر على نفسه وصار عاصم حنفى من الكتاب الساخرين، واستطاع أن يفرض سخريته على الصحف المصرية والعربية أيضاً، وكما عاش فى حى المتناقضات واكتوى بنارها، إلا أنه لم يلجأ إلى الخداع لكى يعيش، فلم يكذب ولم ينافق ولم يبحث عن باب للارتزاق، وعندما اشتغل بالصحافة لم ينضم لجانب ضد جانب ولم يرفع شعارات جوفاء، ولكنه انحاز إلى جانب الشعب والتزم الصدق ودافع عما يعتقد أنه الحق، ثم وصل عاصم حنفى إلى قمة التناقض، عندما التقى ببنت سويسرية واسعة الثقافة صارمة النظام، أحبت عاصم حنفى ابن حى المواردى وقررت أن تتبعه إلى آخر الأرض، سويسرية نقلته من أكل الطواجن والاكتفاء بأكل السلاطة، وحرمت عليه البدلة أم صفين ونقلته إلى البنطلون والسويتر، وعلمته أن الحياة ليست مناظر أو مظاهر، ولكنها سلوك ثم مبدأ وهدف محدد، السويسرية تزوجت عاصم حنفى، مع أنه فى علم الأجناس ينتهى إلى الجنس المضطهد فى الولايات المتحدة، لعل هذه التوليفة التى فرضتها عليه الحياة هى التى شقت طريقه فى عالم السخرية، ليصبح واحداً من أبرز كتابها من الجيل الوسيط.

يبدو أننى نسيت نفسى فتكلمت أكثر مما ينبغى وفعلت نفس ما يفعله البلياتشو الواقف أمام خيمة السيرك، يشرح للزوار مزايا البلياتشو فى داخل الخيمة، ولو أنصف البلياتشو الذى فى الخارج، لترك مكانه وسمح للناس بالدخول إلى الخيمة ليروا ويحكموا بأنفسهم على مدى مهارة البلياتشو الذى فى الداخل.

والآن أدعوكم إلى دخول الخيمة لكى تروا وتحكموا بأنفسكم على قلم عاصم حنفى وهو يقفز على الجبال، والعبدلله واثق أنكم ستضحكون من الأعماق، ولكنه ضحك لسوء الحظ أو لحسن الحظ - كالبكاء!