د. شعبان عبد الجيِّد
● الجيل الحالي من شعراء المقاومة الفلسطينية فتح عينيه على وطن محتل، يحكمه الصهاينة بالحديد والنار، وجاء شعرهم باكيًا حزينًا بقدر ما كان ثائرًا وغاضبًا
● يؤدي أدب المقاومة رسالته في المعركة، مصوِّرًا وملهِمًا، معبِّرًا وموحِيًا. ولم يكن على الأدباء أن يذهبوا بعيدًا عن مأساة شعبهم ليجدوا مادة لإبداعهم
● كان إحساس المثقف الفلسطيني بالمؤامرة التي دُبرت لوطنه قويًّا منذ البداية، وكان إدراك الشعراء والكتاب لحجم المأساة التي وقعت بعد نكبة 1948 عميقًا وواضحًا
شـــعراءَ الأرضِ المحتلَّة
يا مَن أوراقُ دفـــاتـــرِكمْ
بالدمعِ مغمّسةٌ، والطـــينْ
يا مَن نبراتُ حناجـــركمْ
تشبهُ حشرجةَ المشنوقينْ
يا مَن ألوانُ محــــابركمْ
تبدو كرقابِ المذبوحـينْ
نتعلّمُ منكم مـــــنذُ سنينْ
نحنُ الشعراءَ المهزومينْ
نحنُ الغرباءَ عن التاريخِ
وعن أحزانِ المحزونينْ
نتعلّمُ منكمْ..
كيفَ الحرفُ يكونُ له شكلُ السكّينْ.
( نزار قباني )
حين يكون المجتمعُ هادئًا ومطمئنًّا، والوطنُ آمنًا ومستقرًّا، يكون من حقِّ الأديب أن يعبِّرَ عن شئونه وشجونه كيف يشاء؛ ولا لومَ عليه في ذلك ولا تثريب، ما دام يحفظ أصولَ الفن ويرعَى ضوابطَ الخُلُق. أمَّا في وقت الأزمات الكبرى والشدائد العُظمى، فإن انشغالَه بذاته يصبحُ ترفًا لا يليق وأثَرةً لا تُغتفَر. ساعتها لن يَقبلَ منه القراء أن يظلَّ يدور حول نفسه؛ ينظر إلى المرآة في نرجسيَّةٍ بغيضة فلا يبصر غيرَ وجهه، وينشغلُ بحياته الخاصة في أنانية مقيتةٍ فلا يحس بما يعانيه الناسُ من حوله، ويكون كمن رأى النارَ تلتهم بيت جاره فلم يَشغلْه إلا أن يذهب إليها ليشعل منه سيجارته!
لحظتها سوف ينصرف القراء عنه ويديرون له ظهورَهم، لأنهم لا يجدون أنفسَهم ولا أذواقهم ولا همومَهم فيما يقول، وساعتها أيضًا سوف يثور السؤال القديمُ الجديد: ما دورُ الأدب وما رسالته؟ وما هو المطلوب من الأديب حين تعصف المِحَنُ بوطنه وتحدق الأخطار بأمته؟ ولعلَّ أنسبَ إجابة يمكن أن نقدمها لهذا السؤال الآن، ودون خوضٍ في تفاصيلَ نقديَّةٍ أو فلسفية، هو ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي منذ ما يقرب من مائة سنة:
كانَ شِعري الغِناءَ في فَرَحِ الشَر
قِ وَكانَ العــــــــَزاءُ في أَحزانِه
قَد قَضى اللَهُ أَن يُؤَلِّفَنا الجُـــــــر
حُ وَأَن نَلتَقي عَــلى أَشجــــــانِه
كُلَما أَنَّ بِالعِــــراقِ جَــــريــــحٌ
لَمَسَ الشَرقُ جَنبَهُ فــــي عُمانِه
والمتتبع لمسيرة الأدب العربي، في مختلِفِ أعصاره وأمصاره، غالبًا ما سوف يجد الأدب مواكبًا لما يجري في حياة الناس، انفعالًا وتصويرًا، على تفاوت في ذلك بين زمانٍ وزمان؛ ولكنه، فيما أظنُّ، لن يجد أدبًا التزم بقضايا مجتمعه، منفعِلًا ومتفاعلًا، وعلى مدار عقود ممتدَّةٍ من الزمان، مثلما التزم "أدب المقاومة الفلسطينية"، حتى ليوشكُ أن يكون ظاهرةً فذَّة واستثنائيةً في تاريخنا الأدبيِّ كله.
صحيحٌ أن الأدب في ذاته نشاطٌ إنسانيٌّ يقاومُ عواملَ الضعفِ والخوَر التي قد تلمُّ بالنفس البشرية في لحظات الانكسار، وليس هناك عملٌ أدبيٌّ جادٌّ في تاريخ الإنسان القديم والحديث يمكنه أن يخلو من سمة "المقاومة"، أو فكرة الصراع بين الإنسان والكون على أقل تقدير، لكن يظل لأدب المقاومة الفلسطينية خصوصيتُه وتفرُّدُه. إنه "الكلمة المقاتلة" كما قال عنه الشاعر هارون هاشم رشيد في كتابٍ له يحمل هذا العنوان، وهو "أدب الأرض المحتلة" بتعبير الدكتور عبدالرحمن ياغي، الذي وصفه بكلماتٍ حماسيةٍ حين قال: إنه "أغنيات الحاضر المناضل، والغد المتفتح المنتصر، يحملها في جناحيه نَسْرٌ ماردٌ، ينطلق بها من وطننا الأسير ليزرعَ بها أغوار الحب والإيمان بالأرض وبالإنسان".
كان إحساس المثقف الفلسطيني بالمؤامرة التي دُبرت لوطنه قويًّا منذ البداية، وكان إدراك الشعراء والكتاب لحجم المأساة التي وقعت بعد نكبة 1948 عميقًا وواضحًا؛ لقد كان التحالف البغيض بين الاستعمار والصهيونية، وهما وجهان قبيحان لعملة رديئة واحدة، فاجرًا وإجراميًّا، وكانت الهزيمة التي مُنِيَت بها الجيوشُ العربية قاسيةً وفادحة، وكان الثمن الذي دفعه الفلسطينيون، ولا يزالون يدفعونه إلى يوم الناسِ هذا، باهظًا ومكلِّفًا، فقد فقدوا أراضيهم ومزارعهم، وقراهم ومدنهم، كما دُمِّرَت محلاتُهم وبنوكُهم، ومستشفياتُهم ومدارسُهم، وأحزابُهم ونواديهم، أي أنهم فقدوا وطنًا كاملًا. أمَّا دولة "إسرائيل"، فقد أَقَرَّت فور قيامها حقَّ كل يهوديٍّ بالهجرة إلى فلسطين، بينما منعت الفلطسينيين، أصحاب الوطن والأرض، من ممارسة حقهم بالعودة إلى ديارهم.
وقد واجه هؤلاء أولَ ما واجهوا، بعد الكارثة التي شرَّدت أهلَهم، وحملتهم رياح الشتات عبر كلِّ أرض، واجهوا الأسنان الكاسرة الحادة لذئبٍ مستكلبٍ دامي الأظافر، شرب حتى ارتوى من الدم والإثم، هدفُه الأول والأخير إفناءُ كل ما أمامه مما ليس يهوديًّا أو صهيونيًّا.
وتلفَّت الإنسانُ العربيُّ أسيرُ هذا الحكم الجائر ليرى مدنَه تُحتل، وقراه تُهَدَّم، ومزارعَه تُنهَب، وأرضَه تضيع، ومقدساتِه تُهان، وآمالَه تتهاوَى بعد كل قتاله وصبره وصموده خلال كل سنوات العسف البريطاني. ورغم هذا كله، وقف على قدمين قويتين، وحدَّق بعينين ناريتين، يستمد قوته وإرادته وعزيمته من أمجاد ماضيه، ومن أعماق تراثه وتاريخ أمته.
ولكن تلك النكبة لم تنل من عزيمة هذا الشعب الصامد شيئًا، بل زادته قوةً وصلابة، فعاد إلى الكفاح المسلح سنة 1965، واشتعل فتيل الثورة الفلسطينية المعاصرة بعد وقوع غزة والضفة الغربية والقدس في قبضة إسرائيل بعد نكسة يونيو 1967. وهي ثورة لا تزال محتدمة ضد الظلم والبطش والقهر، تسطر بالدم والنار قصة الفلسطينيين التاريخية، وهي قصة الحرمان من تقرير المصير الذي ارتبط بالاقتلاع والسحق والمعاناة، وخلق جدلًا فلسطينيًّا خاصًّا بالصراع؛ فأينما تكون "إسرائيل" فإن فلسطين تسعى لإثبات حضورِها، وحيث يَرفع العدوُّ عَلَمَه يرفع الفلسطينيون أعلامَهم، وأمام إرادته تقوَى إرادتُهم. إن صهيونيته أثبتت فلسطينيتهم، وعنصريته عمَّقَت عروبتَهم، ويهوديته عمقت إسلامَهم.
ومن هنا أيضًا، وقبل ذلك بطبيعة الحال، بدأ أدب المقاومة يؤدي رسالته في المعركة، مصوِّرًا وملهِمًا، معبِّرًا وموحِيًا. ولم يكن على الأدباء أن يذهبوا بعيدًا عن مأساة شعبهم ليجدوا مادة لإبداعهم؛ فحنين الغريب وراء الأسلاك الشائكة، والشهداء الذين يسقطون على الطرقات البعيدة، والأطفال الذين ينظرون إلى الغد بلا عيون، والشيوخ الذين زرعوا ولم يأكل أحفادُهم.. القيد الذي يُشَدُّ على الزنود، الشعور بالغربة في أرض الوطن، البيوت التي أصبحت أطلالًا، أخبار الكفاح التي ينقلها إلينا المذياع – كل هذه الأشياء الكبيرة والصغيرة، على حد قول محمود درويش، ثروة خالدةٌ لا تنضب، يستمد منها الأدبُ أروعَ تجاربِه وصورِه وألوانِه، ويؤلِّف منها أبدعَ ملامحِه وأروعَ نماذجه.
يذهبُ ظنُّ كثيرين إلى أن الأديب الذي يكتب عن الأحداث الجارية، وينشغل بملاحقة القضايا والمشكلات التي يمر بها مجتمعه، لا يقدم لنا في خاتمة المطاف فنًّا عظيمًا، وأن كل ما يصنعه هو أن يسجل اللحظة التاريخية ويوثقها، وهو بهذا يشبه شاعر المناسبات الذي يكتب كلامًا موزونًا ومقفًّى، مزيَّنًا ببعض الصور والمحسنات، لكنه ضعيفٌ باردٌ؛ لا تجد فيه روعة الفن ولا وهج الصدق. وقد يكون هذا صحيحًا، لكنه ليس قاعدة مطَّردة، بل لعله في كثيرٍ من الأحيان يكون الاستثناء الذي يثبتها. والأمرُ في النهاية يرجع إلى درجة انفعال الأديب بالأحداث، وقدرته على التعبير عنها بصورة فنية جميلة، تُرضِي الفن ولا تُغضِب التاريخ.
أزعم أن أكثر ما طالعتُه من أدب المقاومة الفلسطينية، شعرًا ونثرًا، وبخاصة عند أعلامه الكبار، قد حقَّق الشرط الأكبر في الكلام ليكون فنًّا حقيقيًّا، وهو أن يتجنب التورط في وهاد السذاجة والسطحية والإبقاء على العنصر السياسي فحسب، وأن يصدر في معاناته للتجربة عن وعيٍ عميقٍ بجوهرها الإنساني العام الذي ينفذ ببساطةٍ إلى ضمير العالم كله. ولعلَّ خيرَ مثالٍ يؤكد هذا هو ما نجده عند حليم بركات في رواية "ستة أيام" وغسان كنفاني في رواياته المتعددة، مثل "رجال في الشمس" و"عائد إلى حيفا" و"ما تبقَّى لكم"، وعامر سلطان في روايته "زمن القناطر" بل ونجد التماس والتداخل بين ما هو شخصيُّ ووجداني، وبين ما هو عام وإنساني عند الروائية المبدعة سحر خليفة، كما في رواياتها الكثيرة، مثل: "لم نعد جواري لكم" و"باب الساحة" و"مذكرات امرأة غير واقعية" و"أصل وفصل". ولا يتسع هذا المقالُ بداهةً لنقدم للقارئ نصوصًا من هذه الروايات، فلْيطالعها متفضِّلًا إذا أراد.
أمَّا الشعر، وهو الأكثر شيوعًا ودورانًا على الألسنة، فلم يكن اللسانَ المبينَ للمقاومة فحسب؛ بل كان الدافع إليها والمحرض عليها أيضًا. وليس بين عامة القراء والمثقفين من يجهل أسماء إبراهيم الدباغ ومحيي الدين الصفدي وإبراهيم طوقان وفدوى طوقان وعبدالكريم الكرمي ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيَّاد وعز الدين المناصرة ومريد برغوثي وهارون هاشم رشيد ومعين بسيسو، وكلهم من رواد شعراء المقاومة المعروفين، إضافةً إلى أسماء أخرى كثيرة من مجايليهم كانت أقل شهرةً، مثل: يوسف الخطيب وفواز عيد وخالد أبو خالد ومحمد القيسي وراشد حسين.
أمَّا الجيل الحالي من شعراء المقاومة الفلسطينية فهم أكثر من أن نحصيَهم هنا، ولكننا نذكر منهم: توفيق الحاج وياسر الوقَّاد وسامي مهنَّا وأمل أبو عاصي وعفاف الحساسنة وسناء الكباريتي، ومعظمهم في ريعان شبابهم، ومنهم من ولد بعد نكسة يونيو، ففتح عينيه على وطن محتل، يحكمه الصهاينة بالحديد والنار، وجاء شعرهم باكيًا حزينًا بقدر ما كان ثائرًا وغاضبًا، يطلبُ الكرامة ويحلم بالنصر ويتطلع إلى الحرية.
ولا أريد أن أختم الكلام قبل أن آتيَ القارئ ببعض النماذج من شعر المقاومة، قد لا تكون الأعلى فنًّا أو الأكثر ذيوعًا، لكنها تمثل هذه الروح الثائرة التي تُبغِض الظلمَ وترفُض القهرَ وتُحارب الطغيان.
يقول محمود درويش:
أنا في تــرابكِ يا بــــلادي نَفحةُ الأرضِ الغنيَّة
أنا في جــــروحِ التين والزيتـــون دمْعاتٌ شقيَّة
أنا في عروقكِ في جذوركِ رِعشةُ الدِّفْءِ الفتية
أنا في البيادر لا أزال وفي الحـــقولِ العسجديَّة
أنا في سفوحك في صخورك في روابـيكِ العَلِيَّة
فعـــــلامَ حين كبرت لم تكبر سـوى المأساةِ فيَّه
وعلام ردَّتني أيادي الليــــل فــــي أرضٍ قصيَّة
وهنا جــــــــــــذوري فــــــــــي ترابكِ سرمديَّة
وهنا جـــــــــــــــذوري كيف تقلعها أيادٍ أجنبيَّة؟!
ويقول سميح القاسم:
غضبتي.... غضبة جُـــــــرحٍ أنشبَت
فيـــــه ذؤبانُ الخَـنا ظُـــــــــفراً ونابا
و انتفاضـــــاتي عـــذابٌ.. ودَّ لــــــو
ردّ عـــــن صاحـــــبِهِ الشرق عـذابا
و أنا أومِــــــــــن بالحـــــق الـــــذي
مجـــــدهُ يؤخَــذ قسراً واغتـــــصابا
و أنا أومــــــــــن أنـــي باعــــــــثٌ
في غدي الشمسَ التي صارت ترابا
فاصبري يا لطخـــــــتة العـار التـي
خطَّها الأمسُ عــــــلى وجهـي كتابا
و انظـــــري النارَ التي في أضـلعي
تهزم اللــــــــــيلَ وتجـتاح الضــبابا
شعشعت فــــــي آسيــا فاستيقـــظت
وصحَت إفــــــــريقيا.. غــاباً فغـابا ط!
ويقول يوسف الخطيب:
قسَمًا بفيضِ الدمــع والدم والأنين على الــرغامِ
سيعود أهــل الدار رغم مخالب الظلم الدوامي
رغم الذئاب هناك في الكهف المبطن بالرخامِ
لا سِلمَ... إن اللاجئين اليـــــوم أعداءُ الـسلامِ
سيظــل هاتفهم يعيــــــد حكاية الدم والحـطامِ!
هذا، ولم يكتف كثيرٌ من هؤلاء الشعراء والأدباء بنضال الكلمة، بل إن منهم من انضم إلى حركة المقاومة ثائرًا ومقاتلًا، ومنهم من اعتقل أو اضطُّهِد، ومنهم من دفع حياته ثمنًا لشجاعته. لكنهم لم يضعفوا ولم يستكينوا، وظلوا يفضحون الطغيان ويُقِضُّون مضجعَه، وسوف يظل إبداعُهم الأدبي مصدر إلهام للمظلومين في كل مكان، وشعلةً هادية في طريق الحرية، وكأنني أسمع شاعرَهم الكبير معين بسيسو يقول لنا:
أنا إن سقطتُ فخُذ مكاني يا رفيقي في الكفاح!