أ.د. الحسن عبد اللطيف اللاوي
● من المفارقات التي ترد على الذهن ذلك العنوان "سقطت يدُه" لديونه الأول والأخير؛ لأنَّ سقوط اليد يعنى الموت، وهو ما تحقَّق عند استشهاده بعْد شُهور من صُدور الديوان
● الأندلس أم فلسطين؟ أم أنَّ الأندلس هي فلسطين وفلسطين هي الأندلس؟ أسئلة تُنبئ عن شيء مِمَّا كان يدور في ذِهن الشاعر وهو يكتب الإهداء على صدر ديوانه.
● قام الديوان على جناحي المقاومة والغزل، فلم يقفْ حضورُ المقاومة عند القصائد التي اختُصَّتْ بها في الديوان، بل حضرَتْ أيضا في بعض قصائد الغزل من خلال ذِكْر أدواتها
في يوم الاثنين الموافق 27 من فبراير عام 2023م احتفل مجلسُ طلاب الجامعة الإسلامية بغزَّة والهيئةُ العامة للشباب والثقافة في قاعة المؤتمرات بمبني كلية العلوم بالجامعة الإسلامية بصدور الطبعة الأولى من ديوان "سقطتْ يدُه" للشاعر الفلسطيني الشاب الطالب في الجامعة الإسلامية، المُقيم في مخيم جباليا "محمد عبد الرحيم صالح" عن مطبعة وهْبة في غزة.
وفي يوم الاثنين الموافق 6 من مارس 2023م كرَّم رئيس لجنة متابعة العمل الحكومي، بغزَّة عصام الدعليس الشاعر الشاب محمد صالح صاحب ديوان "سقطت يدُه"، والذي حصل بموجبه على لقب أصغر شاعر يصدر ديوانًا في فلسطين.
وفي يوم الاثنين الموافق 9 من أكتوبر 2023م صعدتْ روح الشهيد الشاب الشاعر محمد صالح إلى بارئها إثْرَ قصف الطيران الإسرائيلي على غزة الذي ما زال مستمرًّا حتى كتابة هذه السطور، بعد أكثر من شهر.
ومن المفارقات التي ترد على الذهن عند معرفة خبر استشهاد الشاعر محمد صالح اختياره ذلك العنوان "سقطت يدُه" لديونه الأول والأخير؛ لأنَّ سقوط اليد كِناية عن الموت، وهو ما تحقَّق للشاعر عند استشهاده بعْد شُهور قليلة من صُدور الديوان.
ولعلَّ هذه المفارقة دعَتْ الدكتور أيمن العتوم الذي كتب مقدمة ديوان "سقطت يدُه" أن يكتب في صفحته على "فيس بوك" ناعيًا محمد صالح: "كان قد سألني قبل بضعة أشهر أن أكتب مقدّمةً لديوانه الشّعريّ الأول "سقطتْ يدُه" فكتبتُها حُبًّا وكرامة.
اليوم محمّد صالح لم تسقط يده، بل ارتقى شهيدًا في غزّة. ما أضيق الدُّنيا وما أوسعَ رحمة الله!
تقبّلكَ الله في عِلّيين يا محمّد."
وكان د. أيمن عتوم قد قال من قبل في مقدمة الديوان: "فشاعرنا رغم شبابه وصغر سنِّه إلَّا أنَّنا يُمكن أن نطلق عليه صفة الشاعر، وإذا أُطلقتْ هذه الصفة على شخص دلَّتْ واستشرفتْ بمستقبله الشعري وبصمته الواضحة - إن شاء الله -.
يمتلك محمد موهبة فذَّة وأرى أنَّه شاعر مُجيد ومُتمكِّن من الإيقاع والموسيقا، ويستخدم قوافي ورويًّا صعبًا، وهذا يدلُّ على شيء من تمكُّنه، ونراه يطوِّع اللغة له، ويستعرض عضلاته اللغوية حينًا، ويتبع السهل الممتنع واللين والبساطة في الألفاظ حينًا آخر....
وشاعرنا الجميل في الحقيقة أبدع في شعر الغزل كما أبدع في شعر المقاومة، وأرى أن الديوان قام على هذين الجناحين."
والديوان فياض بشعر المقاومة، وأول تجلِّياتها في الإهداء الذي قال فيه محمد صالح: "إلى تكبيرة الفتح على جبل طارق، وإلى صهلة الوداع على باب الحمراء، إلى سيف ابن تاشفين وجناحي عباس وموشَّحات الخطيب، إلى الغيث الذي همى والكأس الذي هوى والأُنس مع حُلو اللمى، إلى أندلس الجمال أهدى هذا الكتاب."
الأندلس أم فلسطين؟ أم أنَّ الأندلس هي فلسطين وفلسطين هي الأندلس؟ أسئلة تُنبئ عن شيء مِمَّا كان يدور في ذِهن الشاعر وهو يكتب هذا الإهداء.
يزداد اليقين بهذا عند مطالعة عناوين بعض قصائد الديوان التي تحمل اسم "الأندلس" مثل قصيدة "طروادة الأندلس" و قصيدة "أندلس الزمان وسيف البيان".
وكذلك عند مطالعة قصيدة "يا مُزْجٍيَ العِيس" نقرأ قوله في مقدمتها: "ما زلنا نتجرَّع الغُصَّة الأندلسيَّة حتى ثُمالتنا."
ويُحذِّر الشاعر من الأسباب التي أوصلت الأندلس إلى نهايتها المعروفة، حتى لا تؤول فلسطين إلى ما آلت إليه الأندلس فيقول في ذات القصيدة:
تقلَّب الدهر حتَّى قالَ قائله *** يا أهلَ أندلسٍ ماذا بِكُمْ نَزَلا!!
ما عادَ فردوسُكُم دارًا لساكِنِه *** وذنبُ آدَمِهِ أنْ لمْ يعُدْ رَجلا
وحتَّى لا تصير فلسطين إلى مصير الأندلس يدعو الشاعر إلى عدم الصبر على ظُلْم المُغتصِب المحتلّ فيقول في قصيدة "تنهيد":
ولا تُنِلْ ظالمًا ما قد ألمَّ به *** والصبرُ إلا على الظُلًّام محمودُ
إنَّ العدوّ ليس مُجرد ظالم، لكنه ظَلَّام، لا ينتهي ظلمه ولا يقف عند حدّ، مِمَّا يجعل بعضَ ضِعاف النفوس ييأسون، لكن هذا اليأس لن يردع هذا الظلم أو يدفع هذا الضيم، ولا يردع هذا الظلم أو يدفع هذا الضيم إلَّا المقاومة والثأر؛ فيقول في قصيدة "جدِّي":
والضيْم لَيْسَ يَردُّه *** إلَّا الردَى والثَّار
والمجد لا يتحقَّق بالأمنيات، لكنه يتحقَّق من خلال ما يبذله المجاهدون في ساحات الجهاد، فيقول في ذات القصيدة:
والمجْد يَطْلب فَارسا *** تقْضىَ به الأَوْطَار
وقد يتعلَّل اليائسون بعدم قدرتهم على ردْع الظلم و دفْع الضيم؛ لهذا يُوقٍد محمد صالح شُعلة الأمل الذي يفقده اليائسون المتخاذلون، فيقول في قصيدة "سرب النور":
وإنَّ لَنا بعُمق الليل جُنْدا *** ستَفْتح في بِحار العزِّ بابا
ستُشعِل في شواطئهم لهيبا *** وتُلْقي في منازلهم عُبابا
هذا الأمل في النصر والتحُّرر لا يأتي من فراغ، لكنه وليد إيمان عميق بالله االذي ينصر الحقَّ، وهو على كلِّ شيء قدير؛ لذا يقول الشاعر في قصيدة " الله أكبر":
"الله أكبر" كمْ هزَّت منَ الدوَل *** وشقَّت الجيشَ قبْل السيفِ والأُسلِ
الله أكبر فرْدا لا شريك له *** الناصر الحق مُعْطٍ غيْرِ ذي بخَلِ
كمْ سمَّرتْ من عدوٍّ حين يسمعها *** يذوق منها جروح السُّمْر والذُّبُلِ
هذا الأمل يغذيه تاريخٌ عريقٌ من المجد والعزَّة والفخار، يقول في قصيدة "علْقَم":
نحن أحفاد الأسود *** ونحن من قاد الأمم
ومع هذا الإيمان العميق يأن النصر آت ذات يوم يشكو الشاعر إلى سيدنا عمر بن الخطب – رضي الله عنه - قلَّة النصير وندرة الظهير فيقول في قصيدة "طروادة الأندلس": "لم يبق سيف لنصْرِ الحقِّ يا عمرُ".
وما كانت قلَّة النصير وندرة الظهير إلَّا لأنَّ القوم يخشون الحرب وينفِرون منها؛ لهذا يتعجَّب الشاعر ويوبِّخ هؤلاء الذين يخشون الحرب وينفرون منها، جاء هذا التعجُّب والتوبيخ من خلال الاستفهام، إذ يقول في قصيدة "دأْب المنايا":
أفَتَتَّقون لهيبَ حَرْبٍ بَعْدَما *** جَزَّ اليهود نساكمُ وتناشلوا؟َ!
ويرى الشاعر أنَّ الجُرح مِنْحة له، ومِحْنة على جارحه، وأنَّ البطولة لا تكون بغير تضحيات؛ فيقول في قصيدة "ترنيمة":
الجرح مِحْنَة جارحيه…
فإنَّما
يُضفى على ذا ت الجريح جَلالا
يا أيها الأبطالُ …
هذي " غزةٌ "
من صيَّرتْكم في الوغى أبطالا
هي في الحقيقة "عِزَّةٌ" وكرامةٌ
أعطَتْ لكلِّ العالمين مثالا.
ولأنَّ البطولة لا تكون بغير تضحيات فهو يطلب الموت الذي طال انتظاره فداء لهذا الوطن وتضحية لرفعته وعزَّته ومجده، والموت ليس بغريب عنه، فالموت خاله وعمُّه، يقول في قصيدة "علْقَم":
نَمتطِي الموتَ افتخارا *** للمعارك نبتَسم
قد سأمنَاه انتظارا *** وهو فينَا قد هَرِم
بلْ وأسهَرناه دهرًا *** بلْ وضَرَّجْناه دم
يا فلسطين اشهديني *** إنَّني أفدي الحرم
واعلمي أني بأرضي *** خير من حفِظَ القَسَم
سيِّدٌ وسطَ الحُروب *** الموتُ لي خالٌ وعم
هذه التضحيات لن تضيع هباء؛ لأنَّ الذين يقتلون في سبيل الله شهداء عند ربِّهم يرزقون، ويرى الشاعر أنَّ جميع أهل فلسطين شهداء، من قضى نحبه ومن ينتظر، فيقول في قصيدة "سقطت يدُه":
وأرى فلسطيَنَ الحبيبةَ قد تجمَّعَ أهلُها
بجوار حمزةَ سيِّد الشهداء
ويفاخر الشاعر بهؤلاء الجنود الذين يقفون في وجه المحتلِّ الغاصب، يُذيقونه بعضَ ما يذوقون من ويلاته، فيقول في ذات القصيدة:
لكن بغَزَّة يا رسولَ اللهِ ها *** جندٌ أعادوا عزَّنا وفخَارَنا
لم يقفْ حضورُ المقاومة عند القصائد التي اختُصَّتْ بها في الديوان، بل حضرَتْ المقاومة في بعض قصائد الغزل من خلال ذِكْر أدواتها، وقد سبق عَرْضُ ما ذَكّرّه د. أيمن العتوم في مقدمة الديوان من أنَّ الديوان قام على جناحي المقاومة والغزل، ففي قصيدة "هل لي" يقول الشاعر:
أشعلتَ حربًا في منابتِ أَضْلعي *** والنبض منِّي إن دَنوتَ قَنابلُ
ويقول في قصيدة "يا ضاد":
وتساقطَتْ بفؤادكَ الجرحى كأنْ *** قد لامستْكَ من العيون خَناجر
ويقول في قصيدة "صَمُوت":
رمتْني بسهميها غَدَاةَ التقيتها *** فما أخْطَأَتْني إذْ رَمَتْ وَهْيَ تُتْقِن
وما "ليلى" في قصيدة "فِدَى لعينيك" سوى رمز للحبيبة فلسطين التي يحبُّها فوق حبِّه لنفسه، ويفديها بروحه وجسمه تلبية لندائها، فيقول:
مالي أُصبِّر نفسي كلَّما خَطَرَتْ *** ليلى وما يَنْبَغي صَبرٌ ولا سَكَنُ
أُحِبُّها فوقَ نفْسي بل أُقَدِّسُها *** وما يُفارق عيْني طيْفُها الحَسَنُ
تَكَاد لو سألتْنِي الرُّوحَ لافْتلتَتْ *** ولاستجابَ لها من فَوْرِه البَدَنُ
وفي الختام أضع أمام القارئ ما قاله الشاعر في خاتمة ديوانه عندما قال عن قصيدة "سقطت يدُه": "وحالي فيها كحالِ مقاتلٍ أصمٍّ وسط حرب وسلسلة كبيرةٍ من الانفجارات، فلا صمَمُه يحْميه من الشظايا، ولا الشظايا ستُغَيِّر طريقَها عنه لأنَّه لم يسمعْ وجودَها."
هذه الكلمات كأنَّها نبوءة استشرف فيها الشاعر خاتمة حياته في خاتمة ديوانه.
هل كان الشاعر يصف حياتَه عندما قال في قصيدة "سقطت يده":
يا صاحبي
إنَّ الحياةَ مريرة، إنَّ الحياةَ قصيرةٌ
محْضُ اختبار
أو كراحة عابرٍ، أفضى إلى ظلِّ الشجيرةِ
وانتهى نحوَ الطريق
هي بِضْعُة أيامٍ، وبَعْضُ دقائقٍ
فحذارِ ثُمِّ حذارِ إنَّا لنْ نُطيل
كأنَّ الشاعر رضي فِراق هذه الدنيا تحقيقًا لِما قاله في قصيدة "بانت سعاد":
" بانت سعاد" فذرْ لله من بانا *** وأرْضَ الفراقَ فهذا دينُ دنيانا
كأنَّه يُعزِّي نفسَه ويُعزِّينا معه بهذا الرضا الذي لا نملك سواه، مع اليقين بأنَّ هذه حال الدنيا وطبيعتها التي لا تتغيَّر.
وعزاؤنا أنَّه رحل إلى أحبابه الذين بكاهم عندما سبقوه إلى الشهادة، حيث قال في ذات القصيدة:
يا رُبُّ دمعٌ على الأحباب نذْرِفُه *** يُغدي الخلاءَ غداةَ البين ريَّانا
رحل إلى أحبابه بعد أن كان يموت حنينًا إليهم، إذ يرى أنَّ الحنين هو الموت الذي لم يَحِنْ أجلُه، وأنَّ لقاء الأحباب هو عين الحياة، فيقول في قصيدة "ذِكْرَى":
وما الحنين سوى موتٍ بلا أجَلٍ *** وما المعيشةُ إلَّا في تلاقينا
وفي قصيدة "بانت سعاد" يُعلن محمد صالح أنَّ أولئك الأحباب لن يعودوا إلى منازلهم في الدنيا مهْما نَظَم فيهم من شعر، يُجلِّي محمد صالح هذه الحقيقة من خلال استفهام يُظهرُ حسْرَته بقدْر ما يَكشِف عن إقراره وتسليمه بأنَّ النفي هو الإجابة المؤكَّدة لهذا الاستفهام:
فهلْ يُعيدُ نظيمُ الشعر منزلَهَم؟ *** وهلْ يُعيد سنا الأشواق مَنْ خانا؟
ومهما كتَبْنا عن شعر محمد صالح فلن تُعيده الكتابة إلى الدنيا ولن تُعيد منزله كما كان، لكننا نكتب وفاء لبعْض حقوقٍ وجبت علينا، فرحِمَ الله الشاعر الفلسطيني الغزّيّ الشهيد الشاب محمد عبد الرحيم صالح وأسْكَنَه الفردوس الأعلى من الجنَّة وجميعَ الشهداء.