نقاد المسرح والقضية الفلسطينية.. «مقاربات نقدية»
● كتب الدكتور على الراعي فصلا كاملا في كتابه المهم (المسرح في الوطن العربي) عام 1980 بعنوان المسرح الفلسطيني" وفيه قدم صورة شاملة لواقع هذا المسرح
● أوضح غسان كنفانى أن أدب المقاومة في فلسطين المحتلة ربط ربطا محكما بين المسألة الاجتماعية والسياسية واعتبرهما طرفين من صيغه لابد من تلاحمهما لتقوم بمهمة المقاومة
● يرى د. حميد أن باكثير هو الأديب العربي الوحيد الذي حمل عبء متابعة مأساة فلسطين قبل حدوثها بسنوات، وصور أحداثها وتطوراتها من خلال كفاح فني طويل استغرق كل حياته
● رغم وجود عدد كبير من المؤلفين المصريين الذين عالجوا القضية الفلسطينية في نصوصهم، إلا أننا نلاحظ أن الحركة النقدية تقاعست عن مواكبة الأعمال المسرحية التي عالجت القضية
كيف تعامل المسرح مع القضية الفلسطينية؟.. سؤال كثيرا ما يطرح نفسه في أذهاننا وخاصة بعد أحداث غزة الأخيرة، تلك القضية التي كانت وما زالت تشغلنا من أجل تحرير الأرض المقدسة من أيدي المعتدين المحتلين الذين عاثوا فيها فسادا واستطاعوا أن يخربوا ويدمروا ويقتلوا ويذبحوا ويستحلوا كل الموبقات في حق الشعب الفلسطيني الأعزل.
وفي هذا المقال آثرت تناول الحركة النقدية التي تناولت عملية الإبداع بشأن مُعالجة هذه القضية، وهل تلك الحركة النقدية استطاعت بالفعل مواكبة الأعمال التي تناولت هذا الموضوع أم تقاعست بسبب ندرة الكتابات النقدية المنهجية بعيدا عن الكتابات الصحفية المتسرعة.
وهنا استعرض مجموعة من آراء النقاد الذين تناولوا بعض الأعمال المسرحية التي عالجت القضية الفلسطينية، وتم اختيارها بهدف تحديد وجهات النظر المتباينة؛ تحقيقا لفكرة المقاربة النقدية المعتمدة على مجموعة من الآراء بتعدد وجهات نظر أصحابها.
د. علي الراعي
"واقع المسرح الفلسطيني"
الدكتور (على الراعي) كتب فصلا كاملا في كتابه المهم (المسرح في الوطن العربي) عام 1980 بعنوان "المسرح الفلسطيني" وفيه قدم صورة شاملة لواقع هذا المسرح، وناقش من خلاله أعمال: سهيل إدريس ومسرحيته "زهرة من دم" عام 1968، وغسان كنفاني ومسرحيته "الباب"، وسميح القاسم ومسرحيته "قرقاش"، ومعين بسيسو ومسرحيته "ثورة الزنج"، وفتى الثورة ومسرحية "الطريق"، وهارون هاشم رشيد و مسرحيته الشعرية "السؤال".
وقبل استعراض رأيه في تلك النصوص، أود الإشارة إلى ما ذكره في مقدمة هذا الفصل "حين تناول بحثا للأستاذ عدنان أبو عشمة محددا أنه تحدث فيه عن بدايات النشاط المسرحي الفلسطيني تحت حكم الانتداب البريطاني ذاكرا أنه اعتمد على المترجمات، وقدم القليل من المسرحيين الفلسطينيين عددا من المسرحيات، وقبل النكبة عام 1948 كان عدد الفرق المسرحية في القدس وحدها أكثر من 30 فرقة مسرحية ولكنها كانت ضعيفة، وكان يعمل إلى جوارها كتاب غزيرو الإنتاج، وكان الغرض من تلك المسرحيات في تلك الفترة استنهاض همم الأمة العربية، وحث أفرادها على الالتفات إلى أمجاد الماضي للعبرة والحافز معا، وعرف المسرح الفلسطيني أيام الانتداب المسرحيات السياسية.. تلك المسرحيات التي فجرت أحزان الناس ونبهتهم الى مآسيهم، وخرجت في فترة ما بين الحربين مسرحيات تحارب الصهيونية وتحض على عدم بيع الأراضي لليهود، بالإضافة إلى النصوص الموجهة ضد النفوذ الأجنبي وتدخله في شؤون العرب الداخلية، ومع قيام الثورة الفلسطينية تطلع الثوار إلى إعادة النشاطات الثقافية والفنية التي أهدرت طوال سنوات النكبة، فقامت بمبادرة من حركة التحرير الوطني الفلسطيني "جمعية المسرح الفلسطيني" عام 1966 واتخذت من دمشق مقرا لها، وقد حددت الجمعية لنفسها أهدافا واضحة هي: التوعية بالقضية الفلسطينية، وعرض تجارب الثورة الفلسطينية النضالية على المسرح، وإحياء التراث الثقافي الفلسطيني.
وأسهمت الجمعية في تكوين نواة لفرقة فنون شعبية من أجل إحياء التراث الشعبي وحمايته من الضياع والسرقات المتتالية من إسرائيل للفنون الفلسطينية، وقدمت الجمعية عدة مسرحيات منها "شعب لن يموت- الطريق- حفلة سمر من أجل خمسة حزيران".
وقدم (الراعي) نماذج لأعمال مسرحية لأجيال جديدة منها مسرحية "قرقاش" التي كتبها الشاعر سميح القاسم، وتحكي قصة ديكتاتور بغيض اسمه "قرقاش" يقود قومه المضللين إلى السلب والنهب والقتل، وأكد على أن تلك المسرحية تصلح لأن تكون أول أوبريت سياسي يدين الفاشية والطغيان في أدبنا المسرحي، حيث استطاعت أن تستفيد من شعر سميح القاسم الذي تم استخدامه استخداما دراميا.
وعن هذه المسرحية تحدث الناقد (فاروق عبد القادر) في مقال له ذاكرا أنها تحمل الدلالة السياسية المباشرة، حيث أصبح "قرقاش" رمزا للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، هذه المؤسسة من حيث طبيعتها العنصرية العدوانية، وهي ما تحول دون قيام تعايش حقيقي بين اليهود والعرب في ظل دولة علمانية على أرض فلسطين.
ثم تحدث الراعي بعدها عن مسرحية "ثورة الزنج" لمعين بسيسو، وأنها وسيلة لإسقاط الأحكام على الثورة الفلسطينية، وكل الحركات الثورية التي توالت منذ ثورة الزنج حتى القرن العشرين، مشيرا إلى أن الهدف الأساسي من تلك المسرحية هو اتخاذها وسيلة لإضاءة ثورة فلسطين، وإصدار الأحكام عليها، بالإضافة إلى إنشاء علاقة بين النكبتين (نكبة فلسطين) و( نكبة الهنود الحمر على أيدي المستعمرين الأمريكان) وهي علاقة واضحة ومشروعة، فكل من الشعبين كان ضحية الاستعمار الاستيطاني والذي انتهى في أمريكا بإبادة الهنود الحمر، ولم تنتهي مثل هذه النهاية مع النضال الفلسطيني المستمر.
وفي مسرحيته التالية لها "شمشون ودليلة" تجنب بسيسو كثيرا من المآخذ التي ذكرت في السابقة فركز على موضوع واحد وهو الثورة الفلسطينية مشيرا إلى بوادر الحركة التي أدت إلى اندلاع الثورة، ولهذا استطاع الكاتب أن يخدم موضوعه بطريقة فعالة تتبع مجريات الأحداث في فلسطين قبل وبعد نكبة 67.
وانتقل الراعي إلى مسرحية "زهرة من دم" لسهيل إدريس والتي تناول فيها فلسطين وآلامها وكفاح أبنائها وآلامهم وتطلعهم إلى استعادة وطنهم المسلوب، تلك المسرحية التي أصر فيها الكاتب (سهيل إدريس) أن يُنقي الجانب العربي من كل شيء، فالدم العربي -على حد- قوله إذا اعتكر يوما لا يلبس أن يعود إلى نقائه، أما الجانب الإسرائيلي فمشكك منهار رغم النصر المادي، هذه المسرحية التي رأى فيها "الراعي" نقص موهبة كاتبها والتي بسط فيها القضية الفلسطينية وسطحها، وعلى الرغم من ذلك لم يرفض أحد هذا العمل لارتباطه القوي بالقضية الفلسطينية، وهو ارتباط عيبه الوحيد أنه ارتباط عقلي لا تخفف العواطف الإنسانية من جفافه.
و أشار الراعي إلى المسرحية الشعرية "السؤال" لهارون هاشم رشيد، والتي قال عنها أنها تمتاز بوضوح خطها الفكري والسياسي وضوحا تاما حيث تحتوي الشعر الدرامي متعدد الطبقات والذي يخدم المسرحية بغير بروز، وأيضا تمتاز بأنها تضرب بعيدا في تاريخ القضية الفلسطينية، وتوضح أن الثورة الفلسطينية ضد الاستعمار البريطاني والغزاة الصهاينة كانت ثورة فلاحين وعمال، الأمر الذي أفزع الحكام العرب فتآمروا على وأد الانتفاضة الشعبية، واستبدلوا بها حرب نظامية أمسكوا خيوطها ووجهوها إلى قبول التقييم، وتقف المسرحية وقفة سياسية صحيحة من الأحداث التي سبقت مجازر "أيلول الأسود".
غسان كنفاني
" الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال"
أشار الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني في كتابه "الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال "١٩٤٨- ١٩٦٨" عام 1968 أن أدب المقاومة في فلسطين المحتلة يتميز برؤية عميقة، ولذلك فهو يقاتل على أكثر من جهة، وأشار إلى أن الدارس لإنتاج أدباء الأرض المحتلة، سيدرك لكثير من معطيات الموقف الذي اكتشفه الأدباء العرب أو على وشك أن يكتشفوه في مختلف البلدان العربية في أعقاب ٥ حزيران 1967، فأوضح في كتابه أن أدب المقاومة في فلسطين المحتلة ربط ربطا محكما بين المسألة الاجتماعية والسياسية واعتبرهما طرفين من صيغه لابد من تلاحمهما لتقوم بمهمة المقاومة، بالإضافة إلى الترابط العضوي بين قضية مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وبين قضايا التحرر في البلاد العربية والعالم، وأوضح أن على هذه الجبهات جميعها بكل تعقيداتها خاصة أدب المقاومة في فلسطين المحتلة معركة التزاماته، واتخذ كنفاني مسرحية "بيت الجنون" لتوفيق فياض نموذجا لذلك الربط المعقد، فهذه المسرحية علامة بارزة في أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، فهي تعد شكلا ومضمونا أكثر من صرخة شجاعة.
د. محمد أبو بكر حميد
"علي أحمد باكثير رائد قضية فلسطين في المسرح العربي"
وفي دراسة قدمها الناقد اليمني الدكتور محمد أبو بكر حميد "بعنوان" علي أحمد باكثير رائد قضية فلسطين في المسرح العربي "عام 2009" ذكر فيها أن علي أحمد باكثير هو الأديب العربي الوحيد الذي حمل عبء متابعة مأساة فلسطين قبل حدوثها بسنوات، وصور أحداثها وتطوراتها من خلال كفاح فني طويل استغرق كل حياته، حيث سخر قلمه للقضية الفلسطينية منذ عام 1944، وكتب خمس مسرحيات طويلة وحوالي 50 مسرحية قصيرة، وكانت أولى مسرحياته "شيلوك الجديد "، واستندت فكرته في المسرحية على أنه لا يمكن أن تقوم لليهود دولة في فلسطين العربية دون أن يسيل الدم من الشرق العربي كله، وقد تنبأ "باكثير" في هذه المسرحية بقيام دولة إسرائيل في فلسطين وخروج أهلها منها، كما اقترح أن الحل الوحيد أمام العرب هو فرض الحصار الاقتصادي على هذه الدولة حتى تموت.
وفي مسرحية "شعب الله المختار" 1956 والتي أخرجها كرم مطاوع 1958، كشف فيها "باكثير" حقيقة شعب الله المختار وحقيقة الحياة المادية الداعرة التي يعيشها الإنسان هناك.
ومسرحية "إله إسرائيل" التي كتبها 1959 واستمد حقائقها من الكتب المقدسة "التوراة والإنجيل والقرآن"، والتي استوعبت المشكلة اليهودية منذ أقدم عصورها، وتتضمن ثلاثة أجزاء تحت عنوان "الخروج، ملكوت السماء، الحية" وهي المسرحية التي حذر فيها باكثير من الخطر الصهيوني على العالم كله وليس فلسطين وحدها.
وفي عام 1963 كتب باكثير مسرحية "لباس العفة" حينما دعا الحبيب بورقيبة إلى الصلح مع إسرائيل، وتخيل باكثير في هذه المسرحية زيارة بورقيبة لإسرائيل، وكأنها النبوءة لزيارة السادات التي تمت بعد ذلك بـ 20 عاما.
ثم مسرحية "التوراة الضائعة" التي كتبها في أعقاب هزيمة 1967 وظهور المقاومة الفلسطينية، وصدرت عام ١٩٦٨ وختم بها متابعته لقضية فلسطين وختم بها حياته.
تلك المسرحية جمعت بين الواقع والخيال وبين شخصيات تاريخية لها صلة بالحركة الصهيونية مثل "ريتشارد قلب الأسد وصلاح الدين الأيوبي وهتلر وهيرتزل".
وأشار الناقد أبو بكر إلى سلسلة المسرحيات السياسية القصيرة، والتي بدأها باكثير 1906، واستمر يكتبها حتى سنة 1954 وكلها تفضي إلى اهتمام واع عميق بقضية فلسطين وفهم دقيق لها، ومنها " سأبقى في البيت الأبيض، أضغاث أحلام، رسالة الرجل الأبيض، ثماني عشرة جلدة، مصرع مادلين هيتكليف، جلسة مع الشيطان، إمبراطورية في المزاد، الهدية المسمومة، ماخور الأمم المتحدة، في سبيل راشيل، راشيل والثلاثة الكبار، السكرتير الأمين، نقود تنتقم، شهيد القسطل، الطابور الخامس، ليله 15 مايو، معجزة إسرائيل، الخطة المزدوجة… وغيرها.
فاروق عبد القادر
"وطني عكا والنار والزيتون"
وفي كتابه "أعمال في النقد المسرحي -مساحات للضوء مساحات للظلال- "عام 1986 تحدث الناقد فاروق عبدالقادر عن مسرحية "وطني عكا" من تأليف عبدالرحمن الشرقاوي، في فصل عنوانه "جيش الدفاع الإسرائيلي في خدمة القضية العربية"، محددا أن المسرحية تُعالج موضوع المقاومة، وتدور أحداثها قبل حرب يونيه وبعدها، بين مجموعة من المقاومين وجماعة من العسكريين الإسرائيليين في عدة مناطق من الأراضي المحتلة "سيناء وغزة وتل أبيب وما بينها"، وتنعكس مشاهد الصراع على العالم الخارجي.
وتهدف المسرحية إلى تصوير الصراع الدائر على الأرض المحتلة، كجزء من الصراع الذي تحتشد له الدول العربية، وتناقش من خلاله عدة قضايا، وأشار إلى أن المسرحية كلها تصدر عن فكر قاصر لا يستطيع أن يدرك أبعاد الصراع الدائر والذي سيشتد مستقبلا بين العرب وإسرائيل.
وحدد في مقالته أن هذه المسرحية تُعد تجربة مخيبة للآمال، ضعفها الأساسي كامن في نص متخلف فكريا، ومتوسط فنيا، ومستسلم للكليشيهات السائدة حول أخطر القضايا، مؤكدا على أن حصادنا في هذا النص هو كلمات عبدالرحمن الشرقاوي المكررة في قاموسه الشعري.
وعلى عكس "وطني عكا" التي وجه إليها الناقد كلاما لاذعا مستندا إلى أسباب موضوعية بالفعل، جاء رأيه عن نص "النار والزيتون" لألفريد فرج، لصالح معالجة مؤلفه للقضية الفلسطينية في بعدها المهم، وأعني به (المقاومة) مؤكدا على أن النص يعد نموذجا لاستخدام شكل من أكثر الأشكال المسرحية حداثة وطواعية للتعبير عن قضايا العصر، حيث اختار مؤلفه تقديم هذه القضية في شكل "المسرح التسجيلي" الذي يستعين بكل وسائل العرض -عند تنفيذه- الدراما والغناء والرقص والمسرح السحري، وجمع مادته من كل المصادر المتاحة (المعلومات الموثقة والإحصاءات والشهادات الواقعية وأقوال قادة المؤسسة العسكرية ومن ساندوا قيام إسرائيل)، ليقدم لنا كل الأسس التي يتحتم بعدها أن نحدد مواقفنا، لكنه لم يقف عند هذا الحد بل تجاوزه إلى الحث والتحريض وإثارة الفكر والشعور، ودعوة جمهوره للالتفاف حول موقف واحد بعد أن عرض قضيته، بحيث لا يبقى أمامه اختيار آخر.
وأشار الناقد "عبد القادر" في نقطة مهمة حددها من خلال مشاهدته لهذا النص حين عرض على خشبة المسرح من إخراج سعد أردش محددا أن مسرحنا في حالته الراهنة، ويقصد العام الذي قدم فيه هذا النص على المسرح عام ١٩٦٩ كان عاجزا عن تنفيذه عرض متقن من عروض المسرح الشامل.
والخلاصة -كما رأى عبدالقادر- أن هذا النص عظيم متألق يحتضن فكرا واضحا وتقدميا، ويقول الكلمة التي يجب أن تُقال اليوم فيتجاوز الإقناع إلى الحث والإثارة.
وعلى الرغم من وجود عدد كبير من المؤلفين المصريين الذين عالجوا القضية الفلسطينية في نصوصهم، إلا أننا لاحظنا أثناء قيامنا بإعداد هذا المقال أن الحركة النقدية تقاعست عن مواكبة الأعمال المسرحية التي عالجت القضية الفلسطينية، علما بأن معظم ما كُتب جاء على شكل مقالات متسرعة، إما أنها تعرضت لعروض مسرحية في هذا الإطار أو نصوص كُتب عنها في سياقات لم تتح الفرصة أمام الناقد كي يواكبها بالشكل الذي ينبغي أن يكون.