رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


المقاوَمَة في شعر سميح القاسم

12-12-2023 | 09:01


محمود قنديل

محمود قنديل

● جمعت قصائد سميح القاسم بين الحماسة والتحريض والشجاعة، غير مكترثةٍ بقدرات الأعداء وتفوقهم، لأن المسألة في النهاية تتعلق بقداسة الوطن ولا شيء آخر غيره

● كان سميح القاسم يرى كل شعراء العرب الملتزمين شعراء مقاومة، ويؤمن بالقصيدة كأداة فُضْلى بالنسبة للعرب للتعبير عن أنفسهم، فالقصيدة تطلق صيحة الألم والأمل في نفس الوقت

 

تُعَد المقاومة حقًا مشروعًا في الدفاع عن الأرض والعِرض ومقدرات الأوطان، ولا تخضع المقاوَمة – بشكلٍ عام – لحسابات القوى والتوازن بين طرفي الصراع، وإلا لما كانت لدينا مقاومة في مصر ضد الإنجليز، وأخرى في ليبيا تجاه الغزاة الإيطاليين، وثالثة في الجزائر نحو الفرنسيين، وغيرها من سائر البلدان التي تعرضت للعدوان والاحتلال.

إن لحسابات المقاوَمَة تصورًا آخر يضمن استمرارية الزخم المُداَفِع عن البلاد، وعدم كسر الإرادة تحت كل الظروف، وإبقاء العدو في حالة من انعدام الأمن والطمأنية لكي لا ينعم بالراحة أو الهدوء.

وفي هذا الصدد فإن آلاف الشهداء - الذين يرتقون إلى بارئهم يومًا بعد يوم – يؤكدون على صلابة المقاومة وقوة إرادتها، وإصرارها على تحقيق أهدافها المشروعة في إنهاء العدوان، وطرد العدو من أرضٍ لم تكن يومًا له.

وتتعدد أشكال المقاومة بدءًا من حمل السلاح، وانتهاءً باستخدام الكلمة المُحرِّضة على مجابهة العدو الغاشم الذي يريد كسر إرادة المقاومين وهزيمتهم، والتَّنعم باحتلال أراضيهم.

يحدث هذا في فلسطين المحتلة بفعل قوى الصهيونية الجاسمة فوق صدر الوطن المقدس، بمعاونة قوى خارجية تؤيد جرائمها وتمنح لها غِطاءً سياسيًا لكي ترتكب المزيد من هدم آلاف المنازل على رؤوس سكانها المدنيين العُزل؛ من الأطفال والنساء والشيوخ.

وفي ظل ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين تصبح الجرائم الإسرائيلية دفاعًا عن النفس، ويَلْقى هذا المفهوم رواجًا إعلاميًا واسعًا لدى كافة الدول المساندة للظلم والقهر والقتل.

وبجانب المقاومة بالسلاح لا يجب أن تغيب عن سماء أفكارنا أهمية المقاومة بالكلمة؛ خاصة الكلمة المبدعة؛ كالقصة أو القصيدة أو الرواية أو المسرحية، فكلها وسائل تحث على مواصلة النضال، وتكشف عن بشاعة المشهد المترع بالأشلاء والدماء، وتضع أمام الجيل الحالي والأجيال اللاحقة حقائقَ دامغةً لا تقبل الزيف أو الخداع.

ولعلنا هنا بصدد الكلمة الشعرية، وتحديدًا ما خطه قلم الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم (رحمه الله)، فقد جمعت قصائده بين الحماسة والتحريض والشجاعة، غير مكترثةٍ بقدرات الأعداء وتفوقهم، لأن المسألة في النهاية تتعلق بقداسة الوطن ولا شيء آخر غيره.

يقول شاعرنا:

دم أسلافي القدامى لم يزل يقطر مني

وصهيل الخيل مازال، وتقريع السيوف

وأنا أحمل شمسًا في يميني وأطوف

في مغاليق الدجى.. جُرحًا يغني

هو – في حقيقة الأمر – لم ينسَ ثأره القديم، مستلهمًا قرع السيوف (القوة)، وراجيًا أملًا لا يأفل (الشمس)، ومصرًا على التطواف المُجَابِه. ورغم الظلمة الحالكة إلا أنه يجعل من جراحه غناءً يؤكد وجوده غير القابل للفَناء.

وفي نَصِّه الشعري "أمطار الدم" يصيح بأعلى صوته بُغية إيقاظ النائمين أو الغافلين من بني بلاده ليتصدوا لقوى الاحتلال الباغي:

ألقى عباءته المبللة العتيقة في ضجر 

ثم ارتمى..

- يا موقدًا رافقتَني منذ الصِغَر

أتُراكَ تذكُر ليلةَ الأحزان. إذ هزَّ الظلام

ناطور قريتنا ينادي الناس: هبوا يانيام

دهمَ اليهود بيوتكم..

دهم اليهود بيوتكم

أتُراكَ تذكُر؟.. آهٍ.. ياويلي على مدن الخيام

ويذكِّرنا سميح القاسم – ضمنيًا – بوعد بلفور المشؤوم الذي أعطى ما لايملك لمن لا يستحق، راصدًا مرارة المشهد بإيقاع ينم عن المأساة الكبيرة، نتبين ذلك من خلال نصه "أطفال سنة 1948":

كومٌ من السَّمك المُقَدَّد في الأزقة.. في الزوايا

تلهو بما ترك التتار الإنكليز من البقايا

أنبوبة.. وحطام طائرةٍ.. وناقلة هشيمة

ومدافع محروقة.. وثياب جندي قديمة

وقنابل مشلولة.. وقنابل صارت شظايا

ويستلهم تراثنا الإفريقي من خلال قصيدة "توتم"، وتوتم هي رقصة إفريقية تمثل – كما هو معروف - صراع القبيلة مع وحشٍ أسطوري مخيف يهاجم ضاربها من الغابة، ولكنها تنتصر عليه.

وكأن الشاعر – بهذا – يدعو إلى الصبر، والبشارة بانتصار قادمٍ لا محالة.

ألسنة النار تزغرد في أحشاء الليل

ويدمدم طبل

وتهدُّ بقايا الصمت طبول ضارية وصنوج

ويهيج الإيقاع المبحوح.. يهيج

فالغابة بالأصداء تموج

 

وتتبدى مشاعر البوح في خضم الأحداث والخطوب؛ عبر سطورٍ عنونها مبدعنا بــ "رماد":

ألا تشعرين؟

بأنا فقدنا الكثير

وصار كلامًا هوانا الكبير

فلا لهفة.. لا حنين..

ولا فرحة في القلوب، إذا ما التقينا

ولا دهشة في العيون

ويتكئ على شعر الحماسة بهدف شحذ العزائم، وحث المناضلين والمقامين على مواصلة الكفاح، مؤكدًا لهم أنَّ قتل الأطفال والشيخ ومشاهد الأمهات اللائي فقدن أبناءهن لا يجب أن يكون مدعاة للتهاون أو الاستسلام، وأن صور التشرد والهدم واليُتم لا يجب أنْ تكون سببًا في كسر الإرادة أو الهزيمة: 

- تقدموا.. تقدموا

كلُ سماءٍ فوقكم جهنمُ

كلُ أرضٍ تحتكم جهنمُ

تقدموا..

يموت منَّا الطفلُ والشيخُ لا يستسلمُ

وتسقط الأم على أبنائها القتلى ولا تستسلمُ

تقدموا بناقلات جندكم

وراجمات حقدكم

وهددوا وشردوا ويتموا وهدموا

لن.. لن تكسروا أعماقنا

لن تهزموا أشواقنا

نحن القضاء المبرمُ

وفي قصيدته الشهيرة "أمشي" يحسم الأمر، ويبين أن جهاده ضد الأعداء له ما يبرره، ومع ذلك يمد يده للسلام والعيش الآمن، وكأنه يدعو إلى إنهاء الاحتلال مقابل السلام، وأنه – في سبيل ذلك – لا يهاب الموت ولا يخافه، فهو – في كل الأحوال – يزهو بنفسه وبعروبته ووطنه:

منتصب القامة.. أمشي

مرفوع الهامة.. أمشي

في كفي.. قصفةُ زيتون وحمامة

وعلى كتفي.. نعشي

ولا عجب؛ ذلك أن سميح القاسم كان يرى كل شعراء العرب الملتزمين شعراء مقاومة، ويؤمن بالقصيدة كأداة فُضْلى بالنسبة للعرب للتعبير عن أنفسهم، فالقصيدة – برأيه – تطلق صيحة الألم والأمل في نفس الوقت.

وكان شاعرنا يجزم بأن النكبة الحقيقية لأبناء الشعب الفلسطيني بدأت مع وعد بلفور، كما كان يجهر بحبه لبلاده لأن بلاده – أيضًا – تحب أبناءها.

ويقول بضرورة محاربة معاهدة "سايكوس بيكو" التي أُبرِمَتْ – سِرًا - سنة 1916، تلك المعاهدة  التي قسَّمت الوطن العربي إلى مناطق نفوذ للدول الكبرى.

لقد كانت ومازالت وستظل قصائد الراحل العظيم سميح القاسم أنموذجًا يحتذى للشعر العربي المقاوِم في فلسطين وخارجها.