بقلم – خالد عكاشة
لم يكن الوزير الإسرائيلى «أيوب القرا» وهو الوزير من دون حقيبة ويعود لأصول درزية هو السياسى الأول لدى الكيان الإسرائيلي، الذى يتحدث بشأن حل القضية الفلسطينية على حساب (سيناء) وهى الأرض المصرية الخالصة، باعتبارات السيادة وبالحروب والدم الذى بذل لتحريرها واستردادها لحضن الوطن، فى المعارك المتتالية التى خاضها الجيش المصرى واتبعه السياسيون الذين أتموا استردادها لآخر قدم مربع لمصر الحق الكامل فيه، الوزير الإسرائيلى فى تصريحه المثير للجدل بشأن إقامة دولة فلسطينية فى (غزة، وجزء من سيناء) أراد أن يطلق بالونة اختبار كبيرة تزامنا مع وصول الإدارة الأمريكية الجديدة، والتى كان رئيس وزرائه نتينياهو يستعد للسفر فى أول زيارة لتلك الإدارة الجديدة التى يراهن عليها اليمين الإسرائيلى بأنها ربما تأتى بما لم تقدر عليه الإدارات الأمريكية السابقة .
خاصة مع حماسة تصريحات المرحلة الانتخابية التى تحدث فيها ترامب عن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، إيذانا منه بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل متجاوزا بذلك الخطوط كافة التى لم يجرؤ أى مما سبقوه أمريكيا أو من دول العالم المختلفة أن يقترب منها، لفرط تعقيدها وحساسيتها بالنسبة للقضية الفلسطينية وهى فى ذلك تضرب بعمق ما اصطلح على تسميته بـ «حل الدولتين»، كإطار استطاع مارثون تلك القضية أن يصل إليه كصيغة يمكن قبولها فلسطينيا وعربيا، على أن تكون الدولة الفلسطينية على حدود ٤ يونيو العام ١٩٦٧م وعاصمتها القدس الشرقية، خاصة أن المجتمع الدولى يصنف ما جاء بعد هذا التاريخ كونه احتلالا صريحا من قبل إسرائيل ولا يرتب للكيان المحتل أى حقوق قانونية أو سياسية عليه.
فى طرح الوزير الإسرائيلى المتعلق بسيناء إشارة ربما للإدارة الأمريكية الجديدة كى تتبنى أو تتعاطى مع هذا الطرح، الذى تدفع فيه إسرائيل وأطراف أخرى عديدة منذ عقود وتنظر إلى سيناء باعتبارها مخرجا لإشكالية الاستيطان التى التهمت أراضى الضفة الغربية؛ حيث لم يبقَ منها ما يمكنه أن يحل للفلسطينيين لغز الأراضى التى يمكنهم إقامة دولتهم عليها، خاصة مع التشدد الإسرائيلى المتكرر فيما يخص إمكانية تفكيك تلك المستوطنات غير الشرعية، وهذا يتفق مع الرغبة الكامنة لدى دولة الاحتلال فى التهام أراضى الضفة الغربية الثمينة والأكثر أهمية بالنسبة لها، فى مقابل أن تكون الدولة الفلسطينية المستقبلية تتمحور حول قطاع غزة جنوبا وما يمكن أن يحوطه من أراضٍ، تلك هى العقيدة التى تحرك كافة السياسيين الإسرائيليين منذ اتفاق أوسلو الذى نص على إقامة دولة فلسطينية مستقبلية فى مفاوضات الوضع النهائى والتى تشهد تعثرا كاملا أمام تلك الإشكالية، والتى هى عنوانها بوضوح (صراع الأراضي) ويتبعها فيه الصراع على مصادر المياه ومدينة القدس، وأمام تلك المتغيرات الجديدة رأينا أن الواجب يفرض علينا التسلح بأكبر قدر من الوعى المعرفى بتلك المخططات القديمة الجديدة، وهو تتبع هذه الخطة وما تم فيها سابقا وما قد يعاد طرحه أو التخطيط للوصول إليه بصيغ وأطروحات أخرى تهدد الأمن القومى المصري، فالحديث عن سيناء وتفاصيل ما يجرى فيها اليوم له جذور ربما تساهم هى الأخرى فى فك شفرة امتداد الإرهاب الذى يسكن تلك البقعة، التى ستقابلنا كثيرا أثناء السطور القادمة من تلك السلسلة التى تستهدف إلقاء الضوء الكاشف على محطات هذا الطرح الشيطانى بتفاصيله ومحطاته التاريخية وما تم فيها بأسماء من كانوا فاعلين إزاءه.
مشروع غزة الكبرى
برز مشروع (غزة الكبرى) فى إسرائيل باسم (وثيقة جيورا آيلاند)، وهو جنرال إسرائيلى احتياط يعمل في»مركز بيجن - السادات للدراسات الاستراتيجية»، وقد وضع هذه الوثيقة التى تضمنت بحثا كبيرا متكامل الأركان، باعتباره الحل الأمثل لمعضلة الصراع «الفلسطينى الإسرائيلي» فى ظل الظروف الحالية وتطوراتها فى المستقبل القريب، كانت إسرائيل فيما قبل العام ٢٠٠٠م إبان فترة رئاسة «إيهود باراك» لمجلس الوزراء قد نجحت بجهود سرية فى إقناع الولايات المتحدة للاشتراك فى حل إقليمى للصراع «الفلسطينى ـ الإسرائيلى»، يقوم على سيطرة إسرائيل عن طريق التوسع فى الاستيطان على مساحات ضخمة من الضفة الغربية، مقابل تعويض الفلسطينيين بمساحات من شبه جزيرة سيناء المصرية لإنشاء دولة فلسطينية مستقرة وقادرة على النمو والمنافسة، لتأتى عملية الانسحاب الأحادى الذى قام بها من أعقب باراك فى رئاسة الوزراء «إريل شارون» من غزة عام ٢٠٠٥متمثل الخطوة الأولى فى هذا الاتجاه.
وثيقة جيورا آيلاند
يؤكد مشروع الجنرال/ آيلاند - وهو يعد أحد الأكاديميين القريبين من صناع القرار المؤثرين فى إسرائيل - على أن حل القضية الفلسطينية ليس مسئولية إسرائيل وحدها، ولكنه مسئولية (٢٢ دولة عربية) أيضا، وأنه ينبغى على مصر والأردن بالذات أن يشاركا بصورة فاعلة وإيجابية فى صياغة حل إقليمى متعدد الأطراف، ثم أوضح آيلاند أن إسرائيل باتت ترفض بشكل واضح فكرة اقتسام المساحة الضيقة من الأراضى الفلسطينية لإقامة دولتين لشعبين، فهذا الحل يضرب نظرية الأمن الإسرائيلى فى مقتل، كما يستحيل على إسرائيل أن تخلى «٢٩٠ ألف مستوطن» من بيوتهم لما فى ذلك من كلفة اقتصادية باهظة، فضلا عن حرمان إسرائيل من عمقها الاستراتيجي، ناهيك عن انتهاك الخصوصية الدينية والروحية التى تمثلها الضفة الغربية بالنسبة للإسرائيليين.
ينص المشروع الإسرائيلى على تزويد الدولة الفلسطينية المستقبلية بظهير شاسع من الأراضى المقتطعة من «شمال سيناء»، تصل مساحتها إلى ٧٢٠كم٢، وهذه الأراضى عبارة عن مستطيل (ضلعه الأول، ٥٠ كم) يمتد بطول ساحل البحر المتوسط من مدينة رفح المصرية فى اتجاه الغرب حتى يصل إلى حدود مدينة العريش، أما (الضلع الثاني، ٣٠كم) فهو يصل من غرب معبر كرم أبوسالم ويمتد جنوبا بموازاة الحدود المصرية - الإسرائيلية، وبذلك تتضاعف مساحة (قطاع غزة) ثلاث مرات؛ حيث إن مساحته الحالية ٣٦٥كم٢ فقط، وباعتبار مساحة (الـ٧٢٠كم٢) توازى ١٢٪ من مساحة الضفة الغربية، يتنازل الفلسطينيون فى المقابل عن ١٢٪ من مساحة الضفة الغربية لتدخل ضمن الأراضى الإسرائيلية، على أن يتم تعويض مصر بمساحة مساوية (٧٢٠كم٢) من أراضى إسرائيل جنوب غربى النقب بالقرب من (وادى فيران).
يقدم هذا المشروع الإسرائيلى عدة مغريات (من وجهة نظر إسرائيل) أطلق عليها مكاسب للأطراف الأربعة المشاركة فيه، على النحو الآتى:
أ. على الجانب الفلسطينى: لا تستطيع غزة بمساحتها الحالية الاستمرار فى الحياة، حيث يعيش حاليا فى القطاع (١.٨ مليون نسمة) وسط قطعة أرض محدودة لا تسمح بالتطوير والتنمية، أما المشروع الإسرائيلى فيمنح قطاع غزة فى حجمه الجديد ٥٠ كم إضافية من السواحل المطلة على البحر المتوسط، ومياها إقليمية تتجاوز الـ(١٠ أميال بحرية)، مما يخلق فرصا وفيرة للحصول على حقول غاز طبيعى فى هذه المياه، كما أن إضافة (٧٢٠كم٢) لغزة تمكن الفلسطينيين من إنشاء مطار دولى على بعد مناسب من الحدود مع إسرائيل، فضلا عن بناء مدينة جديدة تستوعب مليون شخص على الأقل، وتشكل منطقة تطور ونمو طبيعى لسكان غزة والضفة الغربية، ليمكنها استيعاب أعداد من اللاجئين الفلسطينيين المقيمين فى دول أخرى، هذا إلى جانب فوائد اقتصادية تتمثل فى تحول غزة إلى منطقة جذب تفيض بفرص النمو الاقتصادى ومركز تجارى إقليمى ودولي.
ب - على الجانب المصرى: فضلا عن حصول مصر على مساحة مساوية (٧٢٠كم٢) من صحراء النقب، فإن إسرائيل ستسمح بشق نفق يربط بين مصر والأردن بطول (١٠كم)، يقطع الطريق من الشرق للغرب وعلى مسافة (٥كم) من إيلات، بما يسهل حركة الأفراد والبضائع بين مصر والأردن، وبعد ذلك شرقا وجنوبا إلى السعودية والعراق، كما سيتم مد (خط سكك حديدية) بين الميناء والمطار الفلسطيني، وكلاهما يقع على ساحل البحر المتوسط، مع النفق «المصرى الأردني» مع إنشاء طريق سريع وأنبوب نفط، كلها تسير داخل الأراضى المصرية بمحاذاة الحدود مع إسرائيل، وبما يحقق لمصر فوائد اقتصادية عديدة، حيث ستحصل مصر على نصيبها من الجمارك والرسوم مقابل كل حركة تتم بين الأردن والعراق ودول الخليج فى اتجاه ميناء غزة، كما سيتم ضخ استثمارات هائلة فى مجال تحلية وتنقية مياه البحر لحل مشكلة نقص المياه فى مصر وخاصة بسيناء، وذلك عبر البنك الدولى ومؤسسات مشابهة، هذا فضلا عن السماح لمصر بزيادة حجم قواتها فى المنطقة (ج) من سيناء الملاصقة للحدود مع إسرائيل، كما ستسمح دول أوربية (فرنسا ـ ألمانيا) ببناء مفاعلات نووية فى مصر تساعدها على حل مشكلة نقص الطاقة.
ج - على الجانب الأردنى: يعد الأردن رابحا من هذه الخطة - من وجهة النظر الإسرائيلية - حيث إنه غير مطالب بدفع ثمن لقاء ذلك، على الرغم من أن الأردن قد يتذمر من إزالة الحاجز الجغرافى المتمثل فى نهر الأردن بينه وبين إسرائيل؛ لكنه مقابل ذلك فإنه سيجنى مكاسب اقتصادية عديدة أبرزها منظومة الطرق والسكك الحديدية وأنبوب النفط، الذى سيربط الميناء الدولى فى (غزة الكبرى) عبر النفق «المصرى الأردني» بدول الخليج، وهكذا تحصل الأردن مجانا على إطلالة مثمرة على البحر المتوسط (ميناء غزة)، ومن ثم تحقق تواصلا مازال مقطوعا مع أوربا، هذا بالإضافة إلى أن الجزء الشرقى من النفق هو «عنق الزجاجة» الذى تتجمع فيه حركة البضائع القادمة من أوربا ومتجه إلى العراق والخليج، الأمر الذى يمنح الأردن ميزات اقتصادية واستراتيجية عظيمة.
د - على الجانب الإسرائيلى: تعد الأراضى التى ستحتفظ بها إسرائيل فى الضفة الغربية (١٢٪)، أكبر بكثير من المساحة التى يمكن أن تحصل عليها فى الحل الآخر (دولتين إسرائيلية وفلسطينية متجاورتين)، وهى نفس النسبة من الأراضى التى وصفها «إيهود باراك» عندما تواجد فى (كامب ديفيد،٢٠٠٠م)، وأطلق عليها أمام الأمريكان والفلسطينيين مصطلح «المساحة الحيوية» للحفاظ على المصالح الإسرائيلية، كما أن الخطة الرئيسة لبناء الجدار العازل احتفظت لإسرائيل بـ (١٢٪) من أراضى الضفة الغربية، إلا أن ضغوط المحكمة العليا فى إسرائيل حركت هذا الجدار غربا وجعل إسرائيل تحتفظ بـ (٨٪) فقط من المساحة التى تحتاجها، كما أن مساحة الـ (١٢٪) ستسمح لدولة إسرائيل أيضا بتقليص أعداد المستوطنين المطلوب إخلاؤهم من الضفة، من (١٠٠ ألف مستوطن) إلى (٣٠ ألفا) فقط، كما ستسمح لها بالاحتفاظ داخل حدودها بأماكن دينية ذات أهمية تاريخية مثل مستوطنتى «عوفرا ـ وكريات أربع»، كما سيسمح هذا التقسيم المتوازن بين غزة والضفة بمنح الدولة الفلسطينية فرصا كبيرة للاستثمار والنمو، وبهذا يمكن الوصول إلى تسوية سلمية مستقرة وغير معرضة للانهيار، لاسيما أن مشاركة الدول العربية الرئيسة خصوصا مصر والأردن كأطراف فى الحل يخلق فرصا أكبر فى الحفاظ على الاتفاقية وعدم نقضها فى المستقبل.
حسابات المكسب والخسارة
لا يحتاج الأمر لكثير من التفكير أو التحليل لفهم أن تفاصيل «مشروع جيورا آيلاند» الشيطاني، يصب مباشرة وبشكل رئيسى فى مصلحة دولة إسرائيل، فهو بعد كل هذه التفصيلات والتقاطعات ما بين دول المنطقة، يخرج إسرائيل من مفهوم الجلاء عن أرض فلسطينية محتلة، إلى مبدأ سماسرة المشروعات الدولية الذين يوفقون الأوضاع بين أطراف عديدة، مع الوضع فى الاعتبار أن المكسب الاستراتيجى المضمون هو دفن قضية تحرير فلسطين إلى الأبد، وأهم وأخطر ما فى المشروع حقيقة هو القفز على الثوابت التاريخية للقضية، وإحداث نقلة نوعية إلى الأمام لخلق أوضاع جديدة على الأرض، يستحيل معها العودة مرة أخرى للخلف، أبرزها بالطبع هو القطع الصريح والنهائى ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو أمل يراود أحلام قادة إسرائيل منذ الاحتلال، لم يستطيعوا ترجمته إلى واقع على الأرض إلا بعد ظهور مبدأ الاستيطان الكثيف ومثل هذا المشروع الخيالي.
هذا عن الطرح الأكاديمى والبحثى من وجهة النظر الإسرائيلية، والذى بدأ ونوقش مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ خروجه للنور، وأدخل عليه كثير من التعديلات وأشكال التطوير، وكان للعديد من الأطراف اللاعبة على الأرض أدوار مسجلة عليهم فى خدمة هذا المشروع، لعل الأبرز منها تنظيم الإخوان وذراعها الفلسطينية «حركة حماس» وهذا ما نتناوله فى الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.