رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


وطني حبيبي

13-12-2023 | 13:36


ميساء زيدان

ميساء زيدان

أناشيد الثورة تناولت جميع المناحي المرتبطة بالشعب الفلسطيني وعلاقته بحاضنته العربية وفضائه في العالم الحرّ، وجذَّرتْ الإيمان بالحق وعمَّقت كل مقومات الإرادة الراسخة
تسعى بعض الماكينات المتربصة لغرس مدارك ومفاهيم هي النقيض لحقوق إنساننا ومصالحه، فتشوه الحرف وتزيّف الصورة وتغسل اللحن من أصالة وجهه

الكلمة؛ خلاصة ما يختلج الصدر ويدور في العقل وموطن التواصل والوصول بين الناس، هي الإطار الناظم والمُحدِد لِملامح العلاقات وبيئاتها، والأداة التي أشعلت أو أطفأت صراعات عجّ بها تاريخ البشر،  والتي لأجلها نزلت أولى آيات القرآن على الرسول الكريم "محمد" عليه الصلاة والسلام وحثته على القراءة "اقرأ باسم ربك الذي خلق"، الفعل الذي يمد جسر العبور بين الإنسان ومحيطه بما يحتوي من عناصر، فما بالنا حين تقترن الكلمة باللحن وشجونه؟

قبل ما يقارب الأسبوعين استضافتني إحدى الإذاعات التونسية لتناول ما يعانيه الشعب الفلسطيني في خضم الصراع المستمر منذ ما يزيد على القرن، وقبل أن أبدأ مداخلتي بقيت حسب التعبير الدارج إعلاميا (تحت الهواء) فاستمعت لمفردات ما أنشده الفنان الراحل عبدالحليم حافظ بمغناته "فدائي فدائي فدائي.. فدااااائي" والتي يُقال إن الزعيم العربي "جمال عبد الناصر" هنأ الفنان الراحل فور أن سمعها، لم تسعفني دموعي التي اجتهدت في وأدها منذ أن بدأ العدوان على قطاع غزة فبدأتُ مداخلتي دون مقدرة على التماسك ليسيطر الإنسان الذي بداخلي على جوارحي، لقد تذكرت تلك الحقبة العظيمة التي شهدت القومية المتصاعدة في كل زاويةٍ في أقطارنا العربية، وكيف أن الكلمة النقية المتصلة بكرامة الإنسان العربي شكّلت ملامح وعي الجماهير بالشكل الذي صقل مداركها وصوّب توجهاتها.

"أناديكم" كانت أحدها؛ فهي مغناة لقصيدة الأديب والسياسي الفلسطيني "توفيق زياد"، رافقت أبرز مراحل الثورة الفلسطينية كان قد أدّاها الفنان العروبي اللبناني "أحمد قعبور" فقد نحتت مداركنا ونسجت علاقتنا مع الوطن المحتل رغم المسافات عنه بفعل لجوئنا، حالها حال العديد من الأناشيد التي عُرِفت بأناشيد الثورة، التي تناولت جميع المناحي المرتبطة بالشعب الفلسطيني وعلاقته بحاضنته العربية وفضائه في العالم الحرّ، لقد تطرقت للبعد الإنساني والاجتماعي والاقتصادي والنفسي والثقافي والروحي، وجذَّرتْ الإيمان بالحق وعمَّقت كل مقومات الإرادة الراسخة، فما أن نستمع لإحدى تلك الأناشيد حتى تتملكنا تلك الإرادة الواعية لنتجاوز مواطن الوهن والاستكانة، إلى الحد الذي دفع بالعدو استهداف فدائيّي الكلمة والريشة واللحن.

لم تفتْ على أيٍّ من الإرادات الوطنية الحرّة بالقائمين عليها في أقطارنا العربية أهمية وأثر بل عظمة المقدرة التي يمتلكها النشيد الوطني والقومي، النشيد الذي أطَّرَ الفعل النضالي وانتقلَ بالجماهير عبر السبل الأصدق نحو غاياتها المنشودة، الحقيقة التي تلقفتها قيادة الثورة الفلسطينية لتوظّفها بالشكل الذي يمكِّن المسار النضالي، فور أن استقتها نهجاً من الأناشيد القومية المصرية، كونها وصلت لوجدان الجماهير العربية، وكيف لهذه الجماهير ألّا تتيّقن من عظمة عروبتنا وما تكتنزه أقطارها من موارد ومقومات، فور أن تستمع للموسيقار العربي "محمد عبدالوهاب" وهو يُنشد "أخي جاوز الظالمون المدى" للشاعر المصري ابن مدينة المنصورة "علي محمود طه"!

لقد حرصّ الفلسطينيون على سلك كل دربٍ مُتاح يجسد العلاقة العضوية بالعمق العربي، لتأتي الكلمة أحد الأدوات التي اجترحوها ليعززوا هذا البعد في مدارك الجماهير الفلسطينية، التي كان قد تملّكها الشعور بالخذلان والخيبات فور النكبة التي ألمّت بهم وبوطنهم فلسطين الأرض والتاريخ، ليصبح النشيد أحد وسائلهم لتكريس هذا الوعي كالنشيد "عربي فلسطيني" من كلماته (دمي دربي بلدي اسمي عنواني... عربي فلسطيني)، وكانت القاهرة وفي شارع الشريفين رقم (4) تحديداً، هي العنوان الذي منه تم بث أولى أناشيد الثورة حيث مقر إذاعة "صوت فلسطين"، حيث أمُ القضايا العربية تتخذ من مصر منطلق صوتها الحرّ، ولِمَ لا وهي السد العروبي الثابت في مواجهة أعاصير الاستعمار ومخططاته التي لا زالت تُصرّ على النيل من الإنسان العربي وأقطاره وموارده وتاريخه المُشرق.

للكتابة أنماطٌ وقواعد، حيث الكلمة تجد قيمتها وميزانها وتحديداً عندما تكون عربية الجذر والمُنطلق، إذ أنّ اللغة هي قارب الشخصية وتكوينها والسبيل لتأطير مقدرتها، الثابت الذي دفع بالاستعمار بصوره المختلفة للنيل من أهم مقدراتنا القومية والعروبية فحارب اللغة العربية بلا هوادة،  وسعى بكل ما امتلك لتشويه عناصرها واستهداف مكانتها لصالح الثانوي والعابر، فبدلاً من أن تبقى الكلمة العربية منطلقنا ومجموع اللهجات الأصيلة التي جسدت تنوع وثراء أقطارنا، جيء بالضحل من المفردات والعبثي من اللحن بديلاً عمّا يضمن حصانة المُدرَك ووضوح المنشود، بل حرصوا على تعميق المفردات الكفيلة بالشراذم على حساب الجذور، بسياق الاستهداف الأشمل لثقة العربي بتاريخه وقيمه ومكانته ومصيريّة العلاقة فيما بينه وبين شقيقه، فهذا أحد أساليبهم لتكريس الطائفية وتعظيم شعور الأقليات على حساب الوطني والقومي.

وفي هذا المقام؛ تستحضرنا العديد من الأمثلة على مخطط تشويه الكلمة واللحن وكل ما يعكس إشراق إنساننا العربي، حيث تسعى بعض الماكينات المتربصة لغرس مدارك ومفاهيم هي النقيض لحقوق إنساننا ومصالحه، فتشوه الحرف وتزيّف الصورة وتغسل اللحن من أصالة وجهه، لنغدو سليبي الثقة ومشتتي المقدرة وفاقدي الإرادة بلا وجهة، لِتُدفع شعوبنا فينال البعض فيها من كل مُقَدّر وطني يكفل كرامتها، عبر ما أسموه بالـ"فوضى الخلّاقة"، وكذا حال البعض المُرتَجِف الذي يعيّ جيداً أثر النشيد في النفوس المتعطشة لمستقبلها المشرق فيحرص على إحلال زيف اللحن والكلمة محل تاريخٍ صانته وحفظته تلك الحناجر والأنامل الحرّة.

 لكن هيهات أن يحققوا مبتغاهم، إذ أننا رددنا مرةً أخرى واثقين بالثلاثين من يونيو عام 2013 كل الأناشيد التي حفظت لنا ثقتنا بعظمة الإرادة العروبية في وجه الاستعمار وعنجهيته، وأعلينا "يا حبيبتي يا مصر" لشادية و"بسم الله.. الله أكبر" و "وطني حبيبي الوطن الأكبر" و"المسيح" لعبدالحليم حافظ، ولا زلنا نردد "لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي" و"يافا" للسيدة فيروز، ورغم الجرم المستفحل في الجسد الفلسطيني، ورغم النزيف المستمر سنظل نردد "النصر إلك يا شعبنا" النصر للإنسان الذي يُعلي الأوطان وينشد الأمان والسلام بكرامة وإباء، للإنسان الذي يدرك أن استقرار قُطره لن يتَأتَ دون أن يضمن لشقيقه سلامه وكرامته حيث المصير واحد.