بقلم: د. حسين عيسى
رئيس لجنة التخطيط والموازنة بمجلس النواب
شهدت الآونة الأخيرة لغطًا شديدًا حول مساهمة القوات المسلحة فى تنفيذ المشروعات القومية العملاقة الجديدة، وأثر ذلك على دور القطاع المدنى فى هذا المجال، مما دعا رئيس الجمهورية إلى التصريح أكثر من مرة بأن القوات المسلحة ليست بديلًا للقطاع المدنى ولكنها تدعم وتساعد وتضيف إلى إمكانيات هذا القطاع.
وأود أن أطرح وجهة نظرى بشأن هذا الموضوع الشائك من خلال النقاط التالية : يحدثنا تاريخ العلوم الإدارية والاقتصادية أنه ومنذ بداية الحرب العالمية الثانية حدث تطور ضخم متشابك الأبعاد والمحاور فى العلوم والنظريات والأساليب الإدارية والاقتصادية، وقد تم تطبيق كل ذلك بصفة أولية فى القوات المسلحة للدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة وروسيا ودول أوروبا الغربية مثل أساليب فرق العمل وتفويض السلطات والمساءلة المحاسبية ونطاق الإشراف وأساليب بحوث العمليات، وكذلك أساليب التخزين والنقل والتوزيع.. كل ذلك تم تطبيقه بنجاح مشهود فى وحدات القوات المسلحة ثم التقط المجتمع المدنى والأكاديمى الخيط وتم التأصيل العلمى والنظرى لهذه الأساليب فظهرت فى مراجع علمية مختلفة وتم تطبيقها فى الشركات المساهمة الكبرى فى تلك الدول المتقدمة ثم انتقلت نتائج التطبيق والدروس المستفادة والنظريات والأساليب الجديدة إلى مختلف دول العالم خلال حقبتى الخمسينيات والستينيات وما بعدهما.
فى مصر.. أتصور أن أولى محاولات القوات المسلحة فى التأثير على الحياة المدنية وتحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة قد بدأت مع ثورة ١٩٥٢ وما تلتها من قرارات اقتصادية تحولية هامة فى مجالات الزراعة والصناعة والخدمات ، فالكل لاحظ وجود أهداف اقتصادية لثورة يوليو وشهدت الفترة من ١٩٥٢ وحتى ١٩٦٧ تحولات اقتصادية شاملة وبصرف النظر عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا معها بمعايير ٢٠١٧.. إلا أنها فى وقتها كانت تمثل ثورة فى الفكر وتغييرا جذريا فى أساليب الإدارة الاقتصادية للدولة وسط تهديدات وأعاصير ومخاطر دولية كانت تهدف باستمرار إلى وأد التجربة والعودة دائمًا إلى نقطة الصفر.
خلال الفترة من ١٩٦٧ وحتى حرب أكتوبر ١٩٧٣ شهدت مصر أولى تجارب اقتصاد الحرب، وكانت من التجارب الرائدة على مستوى العالم فمع تقلص موارد الدولة والحاجة إلى إعادة بناء القوات المسلحة استعدادًا لمعركة التحرير واستعادة الكرامة.. قامت الدولة بإرساء قواعد ومبادئ اقتصاد الحرب بالاعتماد على تعبئة الموارد الذاتية وخفض الإنفاق العام وتدعيم شركات القطاع العام الذى لعب دورًا تاريخيًا فى هذه المرحلة وشهدنا تكاملًا وتلاحمًا حقيقيًا بين القوات المسلحة والقطاع المدنى فى سبيل دعم الموقف الاقتصادى من جهة والاستمرار فى إعادة بناء القوات المسلحة من جهة أخرى.
وخلال فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات شهدت مصر تجارب التحول إلى سياسة الانفتاح الاقتصادى والسماح لرؤوس الأموال العربية والأجنبية بالدخول إلى مصر وإنشاء شركات مشتركة مع شركاء مصريين ومع إعادة افتتاح قناة السويس وعودة آبار البترول المصرية وتدفق المصريين للعمل فى دول الخليج وانتعاش السياحة حدثت طفرة اقتصادية ملموسة خلال تلك الفترة التى لم تستمر طويلًا.
ومع تولى الرئيس مبارك مقاليد الأمور تم إنشاء جهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة وكانت تجربة رائدة بقيادة المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة وشاهدنا جميعًا المشروعات العملاقة فى مجالات الإسكان والبنية الأساسية وتوصيل المرافق (مياه – غاز – كهرباء، واستطاعت القوات المسلحة أن تمارس أساليب اقتصادية جديدة تحقق أهدافها دون الضغط على موازنة الدولة المثقلة والمنهكة بالأعباء والنفقات، وكانت الفلسفة وراء ذلك تكمن فى الاستفادة من القدرات والإمكانات الإدارية والتنظيمية للقوات المسلحة بحيث تقوم بالأعمال شركات مدنية ولكن تحت إشراف القوات المسلحة وبمعايير الجودة والتكلفة وجداول التسليم الزمنية التى تحقق أهداف التنمية الاقتصادية للمجتمع.
ومع تولى الرئيس السيسى زمام الحكم فى يونيو ٢٠١٤ وإيمانه وتبنيه لعدد كبير من المشروعات القومية العملاقة فى مجالات استصلاح الأراضى وبناء الطرق والكبارى وإنشاء قناة السويس الجديدة وتنمية إقليم محور قناة السويس، وكذلك المجالات الخاصة بالصوب الزراعية والمزارع السمكية والتوسع فى إنشاء شبكات الصرف الصحى ومحطات توليد الكهرباء وإنشاء عشرات الآلاف من المساكن الجديدة.. كانت قناعة الرئيس، وهو على حق فى ذلك أنه لا يمكن إتمام هذه المشروعات التى تخاطب مصر المستقبل بعيدًا عن القوات المسلحة فكان الاعتماد على مؤسسات القوات المسلحة للإشراف على تنفيذ هذه المشروعات، حيث التخطيط والمتابعة والتنظيم والرقابة والاستلام والتمويل ويتولى التنفيذ شركات مقاولات مدنية وصل عددها الآن إلى مايقرب من ٢٠٠٠ شركة توفر فرص عمل لعدد لا يقل عن ٢ مليون عامل فى كافة التخصصات الفنية والإدارية.
يمكن النظر إلى مساهمة القوات المسلحة الحالية فى إنجاز مشروعات التنمية الاقتصادية على أنها إضافة إلى إمكانات الاقتصاد المصرى.. قوة تضيف ولا تخصم.. قطاع عام جديد قائم على أسس علمية جديدة يقوم على الجدية والانضباط واحترام المواعيد والتعاقدات ويبتعد عن الأمراض التقليدية من بيروقراطية وفساد وتعقيد الإجراءات مما أصاب الجهاز الإدارى للدولة بشكل عام وشركات قطاع الأعمال العام بشكل خاص.
والسؤال الذى يدور فى الأذهان: هل ما يحدث يمثل تغولا من القوات المسلحة على دور القطاع المدنى فى تحقيق التنمية الاقتصادية.. هل بالغت وأفرطت القوات المسلحة فى الحصول على معظم مشروعات التنمية ولم تترك إلا القدر اليسير؟..
فى اعتقادى أن الإجابة على هذا السؤال تبدو واضحة فى إطار التحليل السابق فلم يحدث تغول أو إفراط أو تجاوز.. بل هناك مساهمة طبيعية تتفق مع طبيعة المرحلة التى نعيشها الممتلئة بالتحديات والمصاعب والمخاطر، فكان لابد أن نعتمد على مقومات وإمكانيات مؤسسة مركزية منظمة كالقوات المسلحة فى سبيل إنجاز تلك المشروعات التى تخاطب مصر المستقبل وتساهم فى الغد المشرق للأبناء والأحفاد فى إطار أن التنفيذ يأتى دائمًا بسواعد المصريين فى الشركات المدنية، ولكن من خلال مدرسة إدارية منضبطة تتبناها دائمًا القوات المسلحة.
بقيت نقطتان.. الأولى تتعلق بالدعوة إلى المزيد من التعاون والتكامل والتناسق بين القوات المسلحة وشركات وهيئات القطاع المدنى حتى نعمل سويًا على رفع معدلات الكفاءة والفاعلية لشركات وهيئات هذا القطاع..
والثانية هى التأكيد على مبدأ أساسى أن مساهمة القوات المسلحة فى تنفيذ خطة التنمية الاقتصادية لا تتعارض مع المهام الرئيسية التاريخية للقوات المسلحة وهى الحفاظ على الأمن القومى للبلاد وحماية الحدود فهى دائمًا الدرع الواقية لمصر والعام العربى تجاه أى عدوان أو تهديد.
مصر ترحب دائمًا بكل من يساهم ويشارك فى صنع مستقبل أفضل والقوات المسلحة هى إحدى أهم مؤسسات الدولة المصرية التى نعتز بها دائمًا ونفتخر فى جميع مجالات السلم والحرب.