بقلم – عبدالقادر شهيب
سوف أقيم مناطق آمنة فى سوريا وستدفع دول الخليج تكاليفها ويجب أن تتحمل الدول الأوربية نصيبها فى نفقات حلف الناتو، وسوف أبنى جدارًا مع المكسيك وتساهم فى تكاليفه!.
هكذا يتحدث الآن دونالد ترامب حتى بعد أن صار رئيسًا للولايات المتحدة.. أنه لا يستخدم فنون الدبلوماسية ولا يلجأ إلى التصريحات الدبلوماسية غير المباشرة والمغلفة بالعبارات والكلمات الهادئة أو «المزوقة»، وإنما يتحدث بصراحة كاملة تمامًا، يرى فيها البعض تصريحات غير مسئولة وصادمة وتخالف الأعراف الدولية التى يغلف فيها المسئولون ما يبغون بالعبارات الدبلوماسية.
فهل ما يفعله رئيس الولايات المتحدة هو إيذان بانتهاء عصر الدبلوماسية فى العلاقات بين الدول.. أم أن دونالد ترامب هو استثناء مؤقت لن يدوم طويلًا، سواء بإجباره على ترك منصبه كما يتوقع ويأمل البعض أو بنجاح المؤسسات السياسية فى احتوائه وترويضه، وبالتالى دفعه إلى التخلى عن هذه الصراحة والمباشرة فى تصريحاته، خاصة أنها تسبب له متاعب وتجلب له انتقادات، وصلت إلى درجة اتهام السيناتور ماكين وهو أحد قيادت الجمهوريين له بأنه يؤسس لحكم ديكتاتورى بعد أن فاجأ الأمريكيين بهجوم سافر حاد للإعلام والصحافة فى أمريكا وتحديدًا لخمس وسائل إعلامية اتهمها فيه بأنها تروج للأكاذيب وأنها معادية للشعب؟
للإجابة على هذا السؤال يتعين علينا أن نلاحظ أن ما يفعله ترامب ليس استثناء بخصوص التخلى عن الدبلوماسية سواء فى خطابه الخارجى أو الداخلى.. أى أنه لم يكن المبادر الأول فى هذا الصدد سبقه قادة ومسئولون آخرون فى أنحاء العالم.
ولعلنا نتذكر ما فعله سلفه الرئيس أوباما مع الرئيس المصرى الأسبق حسنى مبارك عندما طالبه بترك السلطة الآن وفورًا فى الأسبوع الأول من شهر فبراير ٢٠١١، ولم يكتف بمحادثته تليفونيا ليطلب منه ذلك وإنما أعلن ذلك على الملأ فى تصريحات صحفية نقلتها كل وسائل الإعلام وقتها، رغم أن الأغلب الأعم من مستشاريه لم يشاطروه موقفه، بل إن مبعوثه الخاص إلى القاهرة أطلق تصريحات متناقضة أثارت غضبه وقتها كما قالت هيلارى كلينتون وزيرة خارجيته فى هذا الحين فى مذكراتها.
وهذا ما فعله أوباما عمليا وليس كلاميا فقط عندما أطحنا بحكم الإخوان المستبد والفاشى.. فقد سارع باتخاذ قرار بتجميد المساعدات العسكرية لمصر ومنع تسليم الجيش المصرى عددًا من الطائرات الأمريكية التى كان يستخدمها وأرسلت إلى واشنطن لإجراء عمرة فيها.
وهكذا كان أوباما رغم أنه يمتلك ناصية القول ويراه البعض أنه يجيد فن الكلام ويعتبره آخرون بياع كلام، تصرف وتحدث فى مواقف بطريقة تخاصم الدبلوماسية وتتناقض مع مقتضياتها ومارس ضغوطه الفجه والمباشرة على مصر وتدخله السافر فى شئونها دون أن يغلف ذلك بكلام دبلوماسى كما درجت الدول على ذلك حتى وهى تخوض صراعات فيما بينها.
وقبل أوباما تصرف الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش الابن بذات الطريقة التى تخاصم الدبلوماسية.. ولعلنا نتذكر ما فعله وما اقترفه من أكاذيب فجة من أجل تبرير غزوه للعراق، سواء بادعاء أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل «نووية وكيميائية» أو بادعائه الآخر بأنه يستهدف خلاص العراقيين من حكم صدام حسين الدكتاتورى لكى يصنع لهم ديمقراطية ستكون نموذجًا يحتذى لكل شعوب المنطقة.. وقد اعترف الأمريكيون أنفسهم فيما بعد وبعض حلفائهم الأوربيين أنهم كانوا يكذبون ويخدعون ليس فقط شعوبهم وإنما الشعوب العربية كلها بما روجوه من مزاعم وادعاءات فى هذا الصدد.
وأيضًا لعلنا نتذكر كيف فعل الرئيس الأمريكى الأسبق بوش الابن دفاعًا عن د. أيمن نور بعد أن تم حبسه تنفيذًا لحكم قضائى صدر بحقه لتورطه فى تزوير توكيلات تأسيس حزب الغد.. لقد كان بوش يتدخل بشكل سافر وفتح هو وبقية أفراد إدارته فى الشئون الداخلية المصرية، واتهم القضاء المصرى وقتها بالأكاذيب.. وعندما زار مصر للمشاركة فى منتدى دافوس الذى استضافته مدينة شرم الشيخ أصر على أن يتحدث فى كلمته بالاسم عن أيمن نور مطالبًا السلطات المصرية بالإفراج عنه، لولا أنه تم إبلاغه بأن الرئيس المصرى الأسبق مبارك سوف يرد عليه إذا فعل ذلك، فاكتفى بالحديث عن كلمته أمام المنتدى بالمطالبة بالإفراج ممن أسماهم بالنشطاء السياسيين وتعمد أن يتغيب عن حضور الجلسة الافتتاحية للمنتدى، حتى لا يكون موجودًا أثناء إلقاء مبارك كلمته، ورد عليه الرئيس المصرى الأسبق بمغادرة قاعة المنتدى وعدم التواجد أثناء إلقاء بوش كلمته.
وهكذا لم يكن ترامب المبادر الأول فى التخلى عن الدبلوماسية، سواء فى تصريحاته أو تصرفاته.. لقد سبقه رؤساء أمريكيون منهم من انتمى لحزبه الجمهورى ومن انتمى للحزب المنافس والحزب الديمقراطي.
بل إن هناك مسئولين غير أمريكيين فعلوا ذلك بشكل صارخ ومثير أيضًا.. ولعلنا نتذكر ما فعلته المستشارة الألمانية ميركل قبل سنوات مضت عندما ألمت باليونان. وهى أحد أعضاء الاتحاد الأوربى ومنطقة اليورو أزمة اقتصادية حادة كادت تعرضها لإشهار إفلاسها بعد أن عجزت عن سداد ديونها الخارجية.. فإن المستشارة الألمانية اشترطت على اليونان الالتزام ببرنامج تقشف اقتصادى مؤلم للغاية مقابل حصولها على مساعدات وقروض من صندوق النقد الدولى وشقيقاتها الأوربيات.. وعندما أبدت اليونان تبرمًا قال الألمان بصراحة جارحة إذا لم تمتثل اليونان لشروطنا فليس أمامهم سوى بيع إحدى أو بعض جزرها، حتى تسدد ديونها المستحقة عليها.
ومؤخرًا شاهدنا كيف تخلى مسئول سعودى رفيع، هو المندوب السعودى فى مجلس الأمن، عن الدبلوماسية التى ظلت السعودية تلتزم بها، وخرج ليهاجم تصويت مصر على مشروعين لقرارين بخصوص سوريا أحدهما فرنسى والآخر روسى وذات الشىء فعله مسئول سعودى آخر هو الأمين العام السابق للمؤتمر الإسلامى عندما تحدث بشكل غير لائق عن الرئيس المصرى بعد أن خلط بين اسمه واسم الرئيس التونسي.. وفعله مسئولون سعوديون سابقون فى ظل التوتر الذى شاب العلاقات المصرية السعودية مؤخرًا.
إذن.. لقد سبق مسئولون أمريكيون وعرب أيضًا ترامب فى الخروج على مقتضيات الدبلوماسية سواء فى كلامهم أو تصرفاتهم.. غير أنه يبقى للرئيس الأمريكى أنه لا يفعل ذلك كنوع من الاستثناء وإنما يفعله باعتبار هو القاعدة التى تحكم تصريحاته وتصرفاته، سواء فيما يتعلق بالسياسات الداخلية أو السياسات الخارجية.. وهذا السلوك غير الدبلوماسى الذى ينتهجه الرئيس الأمريكى سيدفع، بل لعله دفع بالفعل مسئولين غير أمريكيين لأن يجاوره فى ذلك أى يرددون عليه بذات أسلوبه.. وقد شاهدنا وتابعنا ذلك بالفعل بعد أن أصدر ترامب قراره الذى يحظر دخول مواطنى نحو سبع دول إسلامية من بينها ست دول عربية.. فقد تخلى مسئولون أوربيون وغربيون عن الدبلوماسية وانتفضوا يهاجمون هذا القرار علنا وبصراحة.. وهذا سبق أن فعله مسئول حلف الناتو والاتحاد الأوربى أيضًا ردًا على تصريحات ومواقف ترامب التى طالت الناتو والأوربيين، وفعله رئيس المكسيك الذى ألغى زيارته لواشنطن احتجاجا على تصريحات ومواقف الرئيس الأمريكي.. فكما يقال عن المنافسات الرياضية أن الفرق تتنافس على فرض طابع وأسلوب لعبها على الفريق الآخر، فإنه يمكننا القول أن ترامب بدأ فى فرض أسلوبه الخالى من الدبلوماسية على بقية الفرقاء فى العالم.. لقد بدأت الدبلوماسية تتوارى فى المواقف وتتراجع فى التصريحات.. وصارت الصراحة والمباشرة تفرض نفسها أكثر.. هذا من شأنه أن يزيد من حالة التوتر العالمى إذا استمر الحال على هذا المنوال، ولم يضبط الفرقاء سلوكهم وألسنتهم ويتحلون بقدر من الدبلوماسية وهو الأمر المرهون بما سيفعله أو ينتهجه الرئيس الأمريكي، وهذا احتمال ليس مستبعدا.. فهو فى ذات الوقت الذى يمضى بقوة فى الهجوم على الإعلام الأمريكى تراجع عن خوض حرب سافرة ضد القضاء الأمريكى الذى أوقف العمل بقراره منع استقبال أمريكا مواطنى سبع دول إسلامية، وآثر أن يصدر قرارا معدلا يتفادى الاعتراضات القضائية.
ويبقى فى النهاية أن نسجل أنه فى الوقت الذى نشاهد ونتابع فيه تراجع الدبلوماسية فى العالم وفى منطقتنا، فمازالت مصر تعتصم بمقتضيات الدبلوماسية إلى حد كبير حتى الآن.. ويشهد على ذلك أنها لا ترد إلا دبلوماسيًا على ما تفعله تركيا وقطر من تصرفات وتنهجه من مواقف معادية لنا.. كما يشهد على ذلك أيضًا اعتصام مصر بأقصى قدر من ضبط النفس تجاه التوتر الذى شاب العلاقة مع السعودية.. فحتى الآن لم يصدر تصريح رسمى واحد حول هذا التوتر الذى انفجر علنا بعد تصريحات مندوب السعودية فى الأمم المتحدة، ثم توقف شركة أرامكو السعودية عن تنفيذ اتفاق تجارى أبرمته مع الحكومة المصرية لمدنا بكميات من المنتجات البترولية.