شعر المقاومة الفلسطينية.. النزال في ميدان الكلمة!
د. عصمت رضوان
● غسان كنفاني هو أول من اصطلح على تسمية الشعر المناصر للقضية باسم شعر المقاومة بعدما أدرك أن القوى الناعمة من أهم الأسلحة الفتاكة للشعب الفلسطيني، فهى صوت الشعب الحر
● شعر المقاومة الفلسطينية جهاد في ساحات البطولة، ونزال في ميدان الكلمة، وقتال باللسان يكافئ القتال بالسنان.. غصة في حلق العدو ، يقض مضجعه، ويعكر صفوه
لا يخفى ما للكلمة من تأثير بالغ في نفس الإنسان بالإيجاب أو بالسلب، فالكلمة قد تغير مسار حياة الإنسان، وقد تبدل نظرته إلى الأشخاص والأشياء، وقد تغير مواقفه تجاه موضوع أو مسألة أو قضية.
وللكلمة في أوقات الصراع والخلافات والحروب تأثير لايقل عن تأثير الأسلحة الفتاكة، والجيوش الجرارة.
وإن المطالع لدواوين الشعر العربي ليجد هذا التأثير البالغ للكلمة في حسم الصراعات من لدن الحرب الكلامية في المفاخرات والمنافرات الجاهلية، والصراعات القبلية.
فقد كانت العرب تحتفل بالشاعر المجيد احتفالها بالفارس المغوار، وتضع الشاعر النابه في أعلى مراتب الإجلال، وما ذلك إلا لأنه لسانها الناطق، وسلاحها المشهر في وجوه أعدائها.
ومع ظهور الإسلام كان التوظيف الفاعل للكلمة في ساحة الدعوة الإسلامية، وفي ميدان الصراع بين الحق والباطل، الإيمان والكفر.
وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم الشعر في هذا الميدان نصرة للدين ، وجهادا موازيا بطريقة الكلمة.
وليس أدل على ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: "ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم، أن ينصروه بألسنتهم"، فقال حسان بن ثابت _ رضي الله عنه_ : "أنا لها يا رسول الله"، وأخذ بطرف لسانه، وقال : "والله ما يسرني به مِقْول بين بُصرى وصنعاء".
ويقول صاحب أسد الغابة: وكان رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينصب لحسان منبرًا في المسجد، يقوم عليه قائمًا، يفاخر عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورسول اللَّه يقول: إن اللَّه يؤيد حسان بروح القدس، ما نافح عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كما كان للشعر الحماسي دوره المقاتل في الغزوات النبوية، والفتوحات الإسلامية على مر العصور.
وفي العصر الحديث كان للشعر دوره الفاعل في الصراعات والخلافات، وفي الحركات الشعبية والثورات التحررية، تنطلق قصائده تذكي العزائم، وتستثير الحفائظ، وتشعل لهيب الصدور ، وتدعو الشعوب الضعيفة إلى استعادة حقها المغصوب من قبل المحتل الغاشم.
وفي ميدان القضية الفلسطينية كان للشعر حضوره القوي في الدفاع عن القضية، ومناصرة الشعب الفلسطيني، والتنديد بجرائم عدوه الوحشية.
لقد كان شعر المقاومة الفلسطينية يمثل ظاهرة أدبية فريدة داخل الأدب العربي كما وصفه غسان كنفاني رائد دراسة الأدب الفلسطيني المقاوم ، وهو أول من اصطلح على تسمية الشعر المناصر للقضية باسم شعر المقاومة بعدما أدرك أن القوى الناعمة من أهم الأسلحة الفتاكة للشعب الفلسطيني، لأنها بمنزلة صوت الشعب الحر حيث تحدَّى أدب المقاومة الاحتلال، وأصبح حلقة الوصل مع باقي شعوب العالم.
وهو القائل: ( سأظل أُناضل لاسترجاع الوطن لأنّه حقي، وماضيّ ومستقبلي الوحيد؛ لأنّ لي فيه شجرة وغيمة، وظل وشمس تتوقد، وغيوم تمطر الخصب، وجذور تستعصي على القلع. حياتِي جَميعها كانَت سلسلةً من الرّفض، ولذلك استطعْتُ أن أعيش، لقد رَفضت المدرَسة، ورفَضْت الثّروة، ورفضْت الخضُوع، ورفضت القبول بالأشْياء...).
وقد برز في ساحة شعر المقاومة الفلسطينية كثير من الشعراء، من هؤلاء: عبد الرحيم محمود، عبد الكريم الكرمي "أبو سلمى"، إبراهيم طوقان، هارون هاشم رشيد، راشد حسين، محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، سالم جبران، خليل زقطان، معين بسيسو، عصام العباسي، حنا أبو حنا، شكيب جهشان، فدوى طوقان، عز الدين المناصرة، أحمد دحبور، خالد أبو خالد، عصام ترشحاني، عادل أديب آغا، ومريد البرغوثي، وتميم البرغوثي، وغيرهم كثير.
لقد عاش أدباء المقاومة وشعراؤها في فلسطين المحتلّة تحت ظرف استعماري قاسٍ فرض عليهم حصارًا ثقافيًا، حرّمهم مع امتدادهم الثقافي الاجتماعي والسياسي والاجتماعي والأدبي في الوطن العربي، ورغم كل هذا كان الشعر المقاوم سلاحا ماضيا في هذه القضية المصيرية.
وقد وضع بعض النقاد تعريفا لشعر المقاومة بأنه: ( تلك الحالة التي يعبر فيها الشاعر و بعمق و أصالة عن ذاته الواعية لهويتها الثقافية و المتطلعة إلى حريتها الحقيقية في مواجهة المعتدي في أي صورة من صوره، منطلقا من موروثه الحضاري وقيمه المجتمعية العليا التي يود الحياة في ظلها والعيش من أجلها).
حقا، لقد قاوم هذا الأدب ضد القمع والاحتلال الإسرائيلي ونادى بالوصول للحرية والاستقلال، رغم كتابته تحت ظروف الحكم العسكري الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي على المناطق المحتلة.
وتتسم قصائد المقاومة بالثورية ونبرة التحدي العالية كما في قصيدة خطاب في سوق البطالة (يا عدو الشمس) لسميح القاسم التي يقول فيها:
ربما أفقد –ما شئت- معاشي
ربما أعرض للبيع ثيابي وفراشي
ربما أعمل حجاراً، وعتالاً، وكناس شوارعْ
ربما أبحث، في روث المواشي، عن حبوب
ربما أخمد عريانا، وجائع
يا عدو الشمس لكن لن أساومْ
وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم..
ربما تسلبني آخر شبر من ترابي
ربما تطعم للسجن شبابي
ربما تسطو على ميراث جدي
من أثاث وأوانٍ وخوابِ
ربما تحرق أشعاري وكتبي
ربما تطعم لحمي للكلاب
ربما تبقى على قريتنا كابوس رعب
يا عدو الشمس لكن لن أساوم
وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم ....
كما تتجلى في شعر المقاومة روح الأمل ، والتطلع إلى الحرية كما في قصيدة "حرية الشعب" لفدوى طوقان التي تقول فيها:
سأظل أحفر اسمها وأنا أناضلْ
في الأرض في الجدران في الأبواب في شرف المنازلْ
في هيكل العذراء في المحراب في طرق المزارعْ
في كل مرتفعٍ ومنحدر ومنعطف وشارعْ
في السجن في زنزانة التعذيب في عود المشانق
رغم السلاسل رغم نسف الدور رغم لظى الحرائق
سأظل أحفر اسمها حتى أراه
يمتد في وطني ويكبر
ويظل يكبر
ويظل يكبر
حتى يغطي كل شبر في ثراه
حتى أرى الحرية الحمراء تفتح كل باب
والليل يهرب والضياء يدك أعمدة الضباب ...
وقد أكد شعراء المقاومة في قصائدهم على معاني العزة والإباء ورفض الخضوع والذل وتجريم الخيانة، كما في قصيدة الشاعر معين بسيسو التي يتحدث فيها عن مدينته غزة قائلا :
مَديِنتي زَنبقةٌ خضراءُ لمْ تَنمْ على سَريرِ فَاتحْ..
ولمْ تَصُبَّ الزَيتَ في مِصباحِ خَائنْ
رُموشُهُ بِساطُ كُلِّ مُقبلٍ ورائِحْ، مِن صَانعي المَذابحْ
ولمْ تَهبْ ضَفيرةً، أسلاكَ مُعتقلْ، ولَمْ تُقبِّل سَوطَ طَاغِيه، كجارية
مَدينَتي رأيت كيفَ تَنسِجُ الأمَلْ، خُطى حَبيبِكِ البَطلْ
وكَيفَ قدْ نَشرتِ مِن دِمائِكِ الشِراعْ يَمخَرُ الحَرائقْ
النَّارُ لا تَمسُّهُ ولا الصَواعِقْ ولا الرَصاصُ طائراً حَصى مِن البَنادِقْ...
لقد كان شعر المقاومة الفلسطينية جهادا في ساحات البطولة، ونزالا في ميدان الكلمة، وقتالا باللسان يكافئ القتال بالسنان.
كان شعر المقاومة غصة في حلق العدو ، يقض مضجعه، ويعكر صفوه ، وهذا ما يفسر لنا هذه المواقف العدائية من جانب العدو لشعراء المقاومة، فقد زج بكثير منهم في السجون حتى إن الشاعر ( فايز أبو شمالة) كتب مجلدا ضخما عن الشعراء السجناء الفلسطينيين في الـمعتقلات والسجون الإسرائيلية منذ حرب يونيو عام 1967 وحتى عام 2001، وقد صدر هذا الكتاب عن الـمؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي عام 2003، بعنوان "السجن في الشعر الفلسطيني 1967 – 2001" .
لقد كان شعر المقاومة الفلسطينية ولا يزال مصباح نور في خضم عتمة الأحداث في فلسطين الحبيبة، وشعاع نور يضيء الطريق للأجيال القادمة، في أرض ارتوت بالدماء، وتطمع في إنبات شجرة الحرية.