رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


آكُلُ لَحْمَ مُغْتَصِبِي

14-12-2023 | 16:52


محمد الشربيني,

يظل الحفاظ على الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني أشدَّ ما تواجهه الشخصية الفلسطينية في مواجهة عوامل التذويب في المنافي أو القهر في ظل الاحتلال الصهيوني، ورغم قوة هذي العوامل وتياراتها  العاتية إلا أن الشخصية الفلسطينية استطاعت الصمود؛ لتظل القضية حاضرةً بقوةٍ سواء في الواقع الملموس أو في الضمير العالمي، إن آلة البطْش العمياء ووسائل التنكيل طوال العقود الماضية لم تستطع دفْن قضية فلسطين مثلما دُفنتْ قضايا كثيرةٍ لشعوبٍ تم إزالتها وإنهاء حضارتها على يد الرجل الأبيض في الأمريكتين الشمالية والجنوبية..!!

(سجِّلْ..أنا عربي.. ورقم بطاقتي خمسونَ ألفْ/ وأطفالي ثمانيةٌ وتاسعهُم.. سيأتي بعدَ صيفْ!! فهلْ تغضبْ؟!!

سجِّلْ..أنا عربي.. وأعملُ مع رفاقِ الكدْحِ في محجرْ/ وأطفالي ثمانيةٌ.. أسلُّ لهمْ رغيفَ الخبزِ.. والأثوابَ.. والدفترْ

من الصخرِ/ ولا أتوسَّلُ الصدقاتِ من بابِكْ!!/ ولا أصْغُرْأمامَ بلاطِ أعتابكْ/

فهل تغضب؟!!)

أجلْ...لم تكن قصيدة "بطاقة هوية"للشاعر"محمود درويش"إلا ترجمةً لمعاناةٍ حياتيةٍ يوميةٍ ومرآةً صادقةً تعكس إصرار هذا الشعب كل يومٍ في إثبات حقوقه المشروعة التي تشهد بها آثار خطاه المطبوعة فوق تضاريس الأرض.. على صخورها الحادة أو على صفحات وديانها..تلك الآثار التي ثبتتْ في مواجهة محاولات مَنْ مرُّوا بهذه الأرض من مستعمرين أو قبائلَ مهاجرةٍ اتخذتها سَكناً..!! تلك الآثار التي امتزجت بنبْض الحياة منذ آلاف الأعوام،وشكّلتْ هويةَ فلسطين الحضارية والثقافية..!! إن فلسطين لم تكن يوماً دولةً نشأتْ ثم انمحتْ وبادتْ مثل الكثير من الكيانات التي لم تعد موجودةً إلا في ذاكرة التاريخ...!!، إنها الحياة والحرب في صورةٍ مكثَّفةٍ منذ إدراك الغزاة فرادةَ موقعها، ومنذ إيمان أهلها بقدرتهم على الاستمساك بأسباب الحياة..فكانت فلسطين الجغرافيا..والتاريخ..!!

ورغم ما يكابده الشعب الفلسطيني من محاولات تقويض وجوده وتدمير تاريخه لإثبات دعاوىَ زائفةٍ لا توجد إلا في أوهام الصهاينة خصوصاً سنوات ما بعد نكبة عام ثمانيةٍ وأربعين، ليبرز دور الأدب الفلسطيني خصوصاً الشعر وقدرته على أن يلعب دوراً حاسماً في الحفاظ على الهوية وتشكيل الوعي في مواجهة تياراتٍ عارمةٍ من الفجائع والنكبات...!!

(سجٌّلْ..أنا عربي!! أنا اسم بلا لقبِ/ صَبورٌ في بلادٍ كلُّ ما فيها يعيشُ بفَوْرةِ الغضبِ/ جذوري قبلَ ميلادِ الزمانِ رستْ وقبلَ تفتُّحِ الحقبِ/ وقبلَ السرو..والزيتونِ..وقبل ترعرعِ العشبِ/ أبي.. من أسرةِ المحراثِ لا من سادةٍ نُجُبِ!!/ وجدّي كانَ فلاحاً
بلا حَسَبٍ.. ولا نسبِ!!

يُعَلّمني شموخَ الشمسِ قبلَ قراءةِ الكتبِ/ وبيتي كوخُ ناطورٍ منَ الأعوادِ والقصبِ!!/ فهل تُرضيكَ منزلتي؟!! أنا اسم بلا لقبِ!!)

تتشكَّل قصيدة"بطاقة هوية"من خمس دفقات أو مقاطع تتصدرها عبارة"سجِّلْ..أنا عربي" ولا يخفى علينا مافيها من التحدِّي في وَجْه كل من يحاول إنكار وجوده أو طمْس هويته؛ لتبدو براعةُ"محمود درويش"في إدارة حوارٍ مفترَضٍ مع الآخر مستخدماً لغةً شعريةً دونما إبهامٍ أو رمزيةٍ غامضةٍ..إنما هي اللغة البسيطة التي تنفتح من خلالها الأبواب على رحابةٍ للمعاني قدْر اتساع السماء، إن"درويش"يدير الحوار بحرفيةٍ رائعةٍ من خلال فِعْل الأمر"سجِّلْ" متلفِّعاً بعباءة العروبة التي تجعل من فلسطين قضية أمةٍ؛ لتأخذ الألفاظ أبعادًا تؤكد الأنَفَة العربية من رفْض الذل والحفاظ على الشرف ومقاومة العنصرية المقيتة..!! مازجاً كل ذلك بالمفارقة الساخرة البادية في تركيب"أمام بلاط أعتابك"!! إن"درويش"يصل  في تصويره الشخصية الفلسطينية إلى ما يجاوز حد الأسطورة مستخدمًا من الألفاظ ما يثبت الوجود الفلسطيني على هذه الأرض ما يسبق الزمان نفسه..!!

(سجلْ..أنا عربي!! ولونُ الشعرِ.. فحميٌّ!! ولونُ العينِ.. بنيٌّ!! ومَيْزاتي:

على رأسي عِقالٌ فوقَ كوفيّةْ..!!/ وكفِّي صلْبةٌ كالصخرِ..تخمشُ مَنْ يلامسُها..!! وعنواني:

أنا من قريةٍ عزلاءَ منسيّةْ/

شوارعُها بلا أسماءْ/ وكلُّ رجالها في الحقلِ والمحجرْ

فهل تغضبْ؟!!)

ويأخذ"درويش" القصيدة نحو بُعْدٍ طريفٍ يؤكد عروبة الفلسطيني، فهذي الملامح وتقاطيع الوجوه تعبِّر عن انتمائهم إلى هذه الأرض، وغيرهم الدخلاء وتؤكد انتسابهم إليها، ليرتفع صوت الاحتجاج الدرويشي في ختام القصيدة..!! إنه يتلبَّس رداء الوعيد..!! فهو بادئ الحوار وهو مدير عناصره وفقراته وهو الذي ينهيه بأشد درجات الوعيد.. إن القوتَ نقطةٌ فاصلةٌ، فإذا لامسها تهديدٌ أو تم استخدامها ورقةً للمساومة.. عندها يتحوَّل إلى كائنٍ يأكل لحم المغتصب..!!

ورغم شدة الإعجاب بشراسة التعبير الفطري"آكل لحْمَ مفتصبي"إلا أن تحديد" درويش"نقطة الانفجار التي ارتبطت بالصراع على الأقوات يقلِّل من وهج القصيدة...!! صحيحٌ.. لقد تجاوزَت القصيدةُ ما يزيد عن ستة عقود، وما زالت تشكل ألقاً شعرياً لا يغيب عن النفوس التائقة للانعتاق من ظلمات الصهاينة..!!

(سجِّل..أنا عربي..

سلبْتَ كرومَ أجدادي/

وأرضاً كنتُ أفلحُهاأنا وجميعُ أولادي/ولم تتركْ لنا.. ولكلِّ أحفادي سوى هذي الصخورِِ..فهل ستأخذُهاحكومتُكمْ..كما قيلا؟!!/ إذنْ..سجِّلْ.. برأسِ الصفحةِ الأولى:أنا لا أكرهُ الناسَ، ولا أسطو على أحدٍ، ولكنّي..إذا ما جعتُ آكلُ لحْمَ مغتصبي/ حذارِ.. حذارِ.. من جوعي ومن غضبي!!).