د. حسين علي ,
إننا نعيش اليوم في واقع متغير، هذا الواقع «حدث جدلي» شامل نتحرك فيه مع إخواننا في الإنسانية، نحن جميعًا مسئولون عنه وأمامه، مشاركون في حركته واتجاهه، ملتزمون بتطويره والتقليل من شروره وآلامه.
فما الذي ينتظره الناس من الفيلسوف إن كان هناك من ينتظر منه شيئًا؟ هذا ما حاول الإجابة عنه الدكتور عبد الغفار مكاويفي كتابه الذي عنوانه «لِمَ الفلسفة»، مشيرًا إلى معالم فلسفة قريبة من العمل والواقع ومشكلاته اليومية التي نحيا فيها ونتعذب بها، واستكشاف الدور الذي يمكن أن ينهض به الفيلسوف لإيجاد حل لهذه المشكلات بالتعاون مع زملائه من العلماء المتخصصين.
يقول الدكتور عبد الغفار مكاوي: «سنحاول أن نغوص معًا في فعل التفلسف نفسه، ونجرب معه قدرتنا على الحرية ومعرفة النفس، وبالتالي معرفة الآخرين والعالم المشترك بيننا». (لِمَ الفلسفة؟ ص ٢١) لنبدأ محاولة الاقتراب من التفلسف بأن نقول إنه فعل نتجاوز فيه عالم العمل اليومي.
ولا بد بطبيعة الحال أن نحدد ما نقصده «بعالم العمل» ثم بالتجاوز (أو الارتفاع والعلو والتخطي).
وعالم العمل هو العالم الذي نضطرب فيه كل يوم لنكسب قوت يومنا. ونؤدي (واجبنا) و(وظيفتنا)، هو عالم (الجهد) و(النفع) و(الإنجاز). (لِمَ الفلسفة؟ ص ٢١).
إن الوجه الحقيقي لفعل التفلسف هو «الحرية»، فالفلسفة لا تُسْتـَخدم في سبيل هدف غريب عنها، لأنها هي نفسها هدف في ذاتها، إنها معرفة «حرة» لا معرفة «نافعة».
الفلسفة تحمل هدفها وتنطوي على غايتها، وكل ما يحمل معناه وهدفه في ذاته لا يمكن أن يكون وسيلة لتحقيق هدف آخر، وكما أننا نحب إنسانًا لذاته لا لكي نحقق هذا الهدف أو ذاك من وراء الحب، فنحن لا نستطيع أن نتفلسف لهدف خارجي عن الفلسفة، وإلا قضينا عليها وسلبناها حرية النظر والنقد والمقاومة.
هذه الحرية التي يقوم عليها التفلسف مرتبطة ارتباطًا حميمًا بالطابع «النظري للفلسفة». فالفلسفة هي أنقى صور التأمل، وحينما ينظر الإنسان إلى أي شيء أو أي موجود نظرة فلسفية، فهو في الحقيقة يسأل عنه سؤالًا نظريًا خالصًا من كل غرض نفعي أو عملي، وتحقيق هذا النظر الخالص مرتبط بدوره بوجود علاقة بين الإنسان والعالم، علاقة خالية من كل غرض، اللهم إلا الرغبة فى معرفة ماهيته وواقعه، ولن تتيسر له هذه النظرة حتى يكون العالم أو الواقع أو الوجود أكثر من مجرد مجال أو مادة خام لنشاطه وفعاليته، ولن تكون هذه النظرة فلسفية بحق حتى تحيط بالوجود كله، وتحاول أن تجربة في مجموعة، وبذلك تحقق تلك العلاقة الأصيلة التي نبعت من حرية التفلسف، وجعلت الفلسفة ممكنة. (لِمَ الفلسفة؟ ص٢٥).
في فعل التفلسف يرتفع الإنسان فوق عالم كل يوم ليتجه إلى «العالم»، يعلو فوق البيئة التي يحتاج إليها ويتكيف معها، ليندفع إلى مجموع الموجودات. ولكن هل يفهم من هذا العلو أنه يغادر مكانًا ليدخل مكانًا آخر، أو أنه يترك أشياء في عالم كل يوم ليستقبل أشياء أخرى في «العالم»؟ (لِمَ الفلسفة؟ ص ٢٨).
إن الفيلسوف لا يحول وجهه عن عالم العمل اليومي عندما يرتفع فوقه، ولا يشيح ببصره عن أشيائه الواقعية والعملية الملموسة عندما يسأل عن معناه وحقيقته، ولا يوجه عينيه من مجال إلى مجال آخر يرى فيه عالم «الحقائق» و«الماهيات»، فليس الأمر هنا أمر مجالين للواقع بحيث يترك أحدهما لينفذ في الآخر.
ليس الأمر كذلك مهما تبادر للظن من كلمات «العلو» و«الارتفاع» و«التجاوز» التي ترددت من قبل. (لِمَ الفلسفة؟ ص ٢٨).
عالم العمل اليومي، هذا العالم بأشيائه وكائناته، بموضوعاته التي نلمسها بأيدينا نتعرف عليها بحواسنا وعقولنا، هو موضوع التأمل الفلسفي، السؤال الفلسفي ينصب على هذا الشيء أو ذاك مما يقع أمام بصرنا، إنه لا يتجه إلى شيء يقع «خارج العالم»، أو في «عالم آخر وراء عالم التجربة اليومية».
لكنه يسأل عنه بطريقة تمس جذوره، وتفتح فيه أعماق الدهشة المتجددة. (لِمَ الفلسفة؟ ص ٢٨).
السؤال الفلسفي هو الذي يتجه إلى الأشياء التي تقع أمام أعيننا كل يوم، ولكن هذه الأشياء تشف أمام السائل، تفقد كثافتها وبداهتها المعهودة، تكشف عن وجهها العميق الذي لم تألفه من قبل.