رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


حكايات من زمن المماليك (1)| سلار.. من السلطة وفحش الثراء إلى أكل الحذاء

7-1-2024 | 18:04


د. محمد أبو الفتوح,

لم يكن سوى مملوكاً صغيراً، اشتراه الملك الصالح نور الدين علي بن قلاوون، الذي تسلطن في حياة والده المنصور قلاوون، ومات فيها أيضاً، فآل أمره إلى والده السلطان قلاوون. ويبدو أنه كان يملك من المهارات والقدرات العسكرية والسياسية ما أهله أن يلمع نجمه وأن يترقى في المناصب حتى صار الرجل الثاني في الدولة عندما عُيّن نائباً للسلطنة في حكم الناصر محمد بن قلاوون، وكاد يعتلي عرش مصر في فترة لاحقة، فعُرضت عليه السلطنة بعد أن خلع الناصر محمد بن قلاوون نفسه من الملك، فأبى ذلك مؤثراً أن يكون الرجل الثاني، ربما إدراكاً منه أن الرجل الثاني هو الرجل الأهم، أو أن تكون الثاني أن تكون بعيداً، ولو بقدر، عن مرمى السهام، وحرارة النيران، وربما ليتمكن في ظل الرجل الأول من تحقيق أهدافه وإشباع نهمه في جمع المال واكتنازه، تلك الشهية التي لازمته طوال حياته وربما أودت بحياته.

كان المملوك "سلار" أسمر اللون، مربوع القامة، غليظ الجسد، خفيف اللحية، كما كان أنيقاً حسن المظهر والملبس، ووصل اهتمامه بالملبس أن ابتكر زيّاً  كان عبارة عن رداء قطني ذو أكمام قصيرة واسعه يزين بفراء السنجاب ويحلى باللؤلؤ وبالأحجار الكريمة أُطلق عليه القباء السلاري نسبة إليه، كما ابتكر نوعاً من المناديل أطلق عليها المناديل السلارية.

لكنه مع هذه الأناقة وحسن المظهر، كان شديد الغضب صعب الخُلق، ورغم ذلك كان كثير البر والصدقات. فكان ابن عصره الذي يجمع بين المتناقضات، فتذكر كتب التاريخ روايات كثيرة عن كرمه فعندما أدَّى فريضة الحج، وهو نائب للسلطان، حمل معه قناطير مقنطرة من الذهب والفضة واصطحاب ثماني مراكب محملة بالغلال والدقيق والسكر ليتم توزيعهم على الفقراء. في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكان العمال يقولون في طوافهم (يا “سلار” كفاك الله هم النار)، ووزع على الناس أموالاً لا تُعدّ ولا تُحصى وغلالاً وثياباً تخرج عن حد الوصف حتى أنه لم يدع محتاجا لم يعطه.

أما وصوله إلى هذا المنصب الكبير فقد حدث بعد مقتل السلطان "لاجين" أن اتفق أمراء الماليك على عودة السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى السلطنة للمرة الثانية وكان قد خلع نفسه وذهب للإقامة في الكرك (في الأردن الآن)، فعاد إلى مصر عام 698هـ، وجلس على سرير الملك وقبَّل له الأمراء الأرض، عين الأمير “سلار” المنصوري نائباً للسلطنة، بينما كانت أتابك (قائد) العسكر من نصيب الأمير "بيبرس الجاشنكير"، وكانت نيابة السلطنة يومئذ أكبر من قيادة الجيش.

وظلت الأحوال على ما يرام حتى كانت سنة 702 هـ، دبت الفتن بين السلطان والأمير “سلار”، وكثير القيل والقال بينهما، وكان السبب في الغالب أن السلطان قبض على مجموعة من الأمراء المماليك من عصبة الأمير “سلار” وأرسلهم إلى القدس، فعز ذلك على الأمير “سلار”.

وشعر السلطان أنه كالمحجور عليه بين قائد عسكره "بيبرس"، ونائب السلطنة “سلار”، فلا يتصرف في شيء من أمور المملكة إلا باختيارهما وبناء على مشورتهما، فتظاهر أنه ذاهب إلى الحج، حتى إذا وصل العقبة ولحق به أبناؤه ونساؤه أخبر مماليكه أنه قد رغب عن الملك، واختار الإقامة في إمارة الكرك مرة ثانية، وأن يولي الأمراء من يختارونه سلطاناً عليهم فإنه قد خلع نفسه.

تشاور الأمراء فيما بينهم على من يولونه السلطة الخالية، واجتمعت الكلمة على “سلار”، نائب السلطنة، وتكلموا معه في ذلك، فأبى، وامتنع، وأقسم بالطلاق من نسائه ألا يتسلطن. ولم يجد أمراء المماليك أمامهم سوى الأتابكي "بيبرس الجاشنكير" فاختاروه سلطاناً، ولاقى ذلك رغبة منه، وأبقوا على “سلار” نائباً له، وتحالفوا على السمع والطاعة لبعضهم.

لم يكن بيبرس سياسياً خبيراً، ولم يستطع اكتساب محبة الناس لشدته وقسوته، كما أنه لسوء حظه حدثت حوادث أدت إلى سوء الأوضاع واضطراب الأحوال، فقد نقص منسوب فيضان النيل وعمَّ البلاد جفاف شديد، فقلَّ القوت وارتفعت الأسعار وازداد البلاء وضجَّ الناس بالشكوى، كما ضرب البلاد زلزال شديد تسبب في سقوط الديار والجوامع والمدارس فتشاءم الناس من حكم بيبرس وصاروا يسخرون منه في أزجالهم.

وإزاء تردي الأوضاع، صار العسكر فريفين، فرقة مع الملك الناصر محمد وهم الأكثرية، ثم ما لبث أن فر السلطان "بيبرس الجاشنكير" وعاد السلطان الناصر محمد بن قلاوون للحكم مرة ثالثة، سنة 709هـ، وجلس على كرسي العرش، وقبَّل له المماليك الأرض، وأقبل عليه المباركون، دخل الأمير “سلار”، النائب، وقبَّل الأرض بين يديه، وسأل السلطان أن يعفيه من النيابة، وأن يخرج من مصر، ويتوجه إلى بلدة الشوبك (في الاردن الآن) وكان له فيها اقطاعية، فيقيم بها حتى ينقضي عمره، فامتنع الملك الناصر، فبكى “سلار”، وتضرع إليه، وبرر ذلك بكبر سنة وضعف قوته، ولا زال يتضرع إليه حتى أجابه.

شكر “سلار” الملك الناصر وخرج من يومه إلى "الشوبك". وقيل إنه لما توجه إلى شوبك، أخذ بصحبته من الذهب العين مائة ألف دينار، ومن الفضة أربعمائة ألف درهم، ومن القماش الملون ثلاثمائة قطعة، وغيرها من الأشياء الثمينة.

وما كاد يستقر به الحال في الشوبك، وينعم ببعض الراحة والدعة، ولم تمض شهور قليلة حتى قبض السلطان على أخي الأمير “سلار” ضمن جماعة من أمراء المماليك اتفقوا فيما بينهم على قتل السلطان، وأرسل السلطان بكتاب إلى “سلار” بما وقع من أخيه، وقيل تغير خاطر الناصر محمد عليه، بعدما أوغر المحيطون بالسلطان قلبه عليه فأرسل إليه كتاباً يستدعيه للحضور إلى مصر. قلق “سلار” من هذا الطلب المفاجئ واستلمته الشكوك والهواجس واستشار بعض المقربين منه فأشاروا عليه بالفرار إلى أي قطر من الأقطار، فاعتذر “سلار” عن الحضور مدَّعياً أنه مريض، ثم ما لبث أن قرر العودة ليواجه مصيره بشجاعة و ليثبت للملك الناصر ولاءه وحسن نيته، و لكن ما أن وصل أمر السلطان بحبسه في برج بقلعة الجبل.

وأثناء وجود “سلار” فى السجن أرسل له الناصر محمد طعاماً فرفض أن يأكله، ربما توجس منه خيفة، فشكَّ في أن يدس السم له في الطعام، وقد شاهد مع حدث للسلطان "بيبرس الجاشنكير" فبعد أن أعطاه الناصر محمد الأمان أحضره إليه وأمر بخنقه في مجلسه.

فعلم الملك الناصر بذلك وغضب غضباً شديداً، واعتبرها إهانة له أن يرفض "سلار" طعامه، أو وأمر أن يبقى “سلار” فى سجنه بدون طعام، فبقي سبعة أيام لا يطعم ولا يسقى وهو يستغيث من الجوع، فأرسل إليه السلطان بثلاثة أطباق مغطاة فلما أحضروها بين يديه فرح و مشى نحوهم بخطوات متعثرة ظناً أن في الأطباق ما يعينه على الحياة، فلما كشفوها إذا في طبق ذهب، وفي الآخر فضة، وفي الآخر لؤلؤ وجواهر فكانت سخرية مفجعة وجم لها “سلار” ، وتبددت آماله فبقي ساكنا على حاله يتجرع الألم والجوع ولا يدري ما مصيره .

ربما أراد الملك الناصر بهذا أن يعرِّض إلى ما وصله عن ثراء “سلار” واكتنازه للذهب والفضة والجواهر وكيف أنها لا تنقذه من الموت ولا ترد عنه جوعه.

ولما تزايد به الجوع أكل خُفَّيه، وكان جل أمنية نفسه رغيف خبز يابس، فلما بلغ السلطان ذلك، وكان قد أمضى إثني عشر يوماً على هذا الحال، رقَّ له أخيراً، وأرسل يقول له: قد عفا عنك السلطان، ففرح بذلك، وقام ومشى خطوات، ثم وقع ميتاً من شدة الجوع.

وأمر الملك الناصر محمد بمصادرة ممتلكات “سلار” فظهر له ما لم يسمع الناس بمثله من قبل وربما من بعد، وأخذ الموظفون أياماً لإحصاء ممتلكاته العظيمة ووجدوا سراديب مليئة بآلاف الآلاف من الدنانير والدراهم من الذهب والفضة، وما لا يحصى عدده من الجواهر والحلي وقطع الحرير والملابس الفاخرة، هذا بخلاف المماليك والجواري والعبيد والخدم، إضافة إلى العدد الغفير الخيول والبغال والجمال العدد الغفير، ومن الأغنام والأبقار ما لا يُحصى. كما وجد عنده من الغلال ثلاثمائة ألف اردب في الشون على بعضها.

وكان له من الأملاك، والضياع، والمعاصر، والشون، والمراكب ما لا يحصر، حتى قيل كانت ايرادات أملاكه وضياعه ومستأجراته ما يزيد عن مائة ألف دينار في كل سنة.

ومع هذا كله، تذكر كتب التاريخ أنه كان أميراً ديّناً خيّراً، كثير البر والصدقات والمعروف، ساس الناس في أيام نيابته للسلطنة، التي جمع فيها كل هذا المال، أحسن سياسة، وكانت الناس عنه راضية. 

والغريب أن هذه الأموال الكثيرة والجواهر الثمينة، التي حملها أكثر من خمسين جملاً، ولضخامتها احتار الناس لضخامتها كيف جمعها، وفترة نيابته للسلطنة لم تزد عن إحدى عشر سنة؟، حتى أن البعض قال إنه عثر على كنز من كنوز القدماء، غير أن المرجح ما ذهب إليه بعض المؤرخين من أنه أخذ هذه الأموال والجواهر والتحف من بيت المال، الذي كانت مفاتيحه بيده، عندما غادر الملك الناصر إلى الكرك في المرة الثانية.

كل هذه الثروة وتلك الممتلكات العظيمة والضخمة، لم تطعمه من جوع ولم تأمنه من خوف. وكان آخر شيء يطعمه من الدنيا حذاءه.

والحاصل إنه لمّا مات غُسّل، وكُفّن، ثم دُفن في ضريحه بالمدرسة والخانقاة التي أنشأها مع صديقه سنقر الجاولي. وعلى بابه لوحة تأسيسية تقول عبارتها:

"كل من عليها فان و يبقى وجه ربك ذو الجلال الإكرام" ..  هذه تربة العبد الفقير إلى الله تعالى سيف الدين “سلار” نائب السلطنة المعظمة الملكي الناصري المنصوري المستغفر من ذنبه الراجي عفو ربه رحم الله من دعا له بالرحمة ولجميع المسلمين.