د. حسين علي ,
الفيلسوف الحق هو الذى يمنحنا القدرة على النظر إلى الأشياء وكأننا نراها لأول مرة، فنصاب بالدهشة جراء ذلك، ونرى الأشياء وكأننا لم نرها من قبل، فالفلسفة تخلع عن وجه الأشياء قناعها العادي. فى كل يوم نقول: هذا صديقي، هذا بيتي، هذه زوجتي، وكأنما «نملك» هذا كله؛ أى كأننا نحيط به علمًا ومعرفة. وفجأة يرن السؤال فنتوقف: هل نملك هذا كله؟ هل يمكن حقًا أن نملك؟ ما معنى «الملك» على الإطلاق؟ عندئذ نتفلسف، فنبتعد ونغترب، لا عن الأشياء المعتادة فى حياتنا اليومية، بل عن تفسيراتها وقيمتها المألوفة. ونحن لا نفعل هذا لكى نشذ عن الآخرين، أو لكى يقال إننا نفكر بخلاف بقية الناس، بل لأن وجهًا جديدًا للأشياء قد ظهر أمامنا فجأة، وجهًا مختلفًا عن ذلك الذى تعودنا عليه وسلمنا به فى لقائنا معه كل يوم. هذه التجربة الباطنة هى التى اتُفـِقَ على أنها أصل التفلسف. إنها تجربة الدهشة. (لِمَ الفلسفة؟ ص ٢٩).
نسأل الآن: لِمَ الفلسفة؟
إن الموقف فيما يتعلق بالفلسفة يختلف عن غيرها من أنواع النشاط العقلي، فالمشتغلون بالعلوم متفقون بوجه عام على موضوع علمهم ومنهجهم ومفاهيمه الأساسية. أما المدارس الفلسفية فقد كانت ولا تزال متضاربة حول موضوع الفلسفة ومنهجها وغاياتها. إن الفلسفة مهما اختلفت تعريفاتها هى فى النهاية «وعى عصرها معبرًا عنه بالأفكار»، كما يقول هيجل، وهى دائمًا فى قلب الواقع والواقع دائمًا فى قلبها. وإذا كانت علاقة التوتر بينها وبين الواقع لا تبلغ دائمًا حد الثورة السافرة عليه. (لِمَ الفلسفة؟ ص ٧٤)
نعود إلى سؤالنا الأول: لِمَ الفلسفة؟
والجواب: إن وظيفتها الحقة هى نقد الواقع وتحليله، ولا يعنى نقد الواقع القائم أن تعمد الفلسفة إلى الصراخ والضجيج أو تندفع وراء الرغبة فى الهدم والتجريح، وإلا أصبح الفيلسوف مهرجًا يتلذذ بالنظر فى مرآة نفسه أو نجمًا يسعى إلى الشهرة الرخيصة والزعامة الكاذبة التى لم يكترث بها فيلسوف حقيقي. (لِمَ الفلسفة؟ ص ٥٥)
والنقد فى الفلسفة لا يعنى أبدًا إدانة شىء أو صب اللعنات على هذا الوضع أو ذاك، النقد ليس مجرد الرفض والنفي، ولا يصح أن يتحول من «نقد» إلى «نقض». وليس هو الاتهام والتطاول، ولا الصياح والصراخ. إنما هو الجهد العقلى والعملى لعدم تقبل الأفكار وأساليب الفعل والسلوك والظروف الاجتماعية والتاريخية تقبلًا أعمى. وهو جهد يُبـْذَل للتوفيق بين جوانب الحياة الاجتماعية والأفكار والأهداف العامة للعصر، وتمييز المظهر فيها من الجوهر والبحث فى أصول الأشياء والظواهر وجذورها وارتباطها بحقائق الواقع من حولها، أى معرفتها معرفة حقة. (لِمَ الفلسفة؟ ص ٦١)
نفضت الفلسفة عنها بقايا الصدأ والرماد، وبرزت الحاجة إلى فلسفة اجتماعية جديدة. لم يأت هذا الإحساس فى الغالب من قاعات الدرس داخل الجامعات، بل جاء من قلب المجتمع المتغير الذى يبحث عن قيم ومعايير جديدة. إن اتجاه الفلسفة إلى مشكلات الواقع يفرض عليها أخيرًا أن تتجه إلى الرأى العام، وهذا يحتم عليها أن تتنازل قليلًا عن لغتها التقليدية لتتكلم بلغة مفهومة تفيد الحوار المشترك بينها وبين أبنائها.
إن الوضوح لا يتنافى مع العمق واللغة البسيطة لا تعنى السطحية، ومن أراد أن يتجه إلى الشارع والسوق فلا بد أن تكون لديه القدرة على مخاطبة الشعب، إن شعور الفيلسوف بالمسئولية يدفعه إلى هذا، وتواضعه يجعله يتعفف عن اعتباره تنازلًا أو نزولًا إلى الشعب. كان سقراط متواضعًا بلا غرور، والتفلسف عل طريقة سقراط مستحيل من غير التخلى عن الغرور. (لِمَ الفلسفة؟ ص ٧٣)
إن مهمة الفيلسوف فى أيامنا هى أن يتبين أن الأفكار والمفاهيم الرئيسية فى الفلسفة تتصل بالمشكلات الواقعية التى يواجهها الإنسان فى حياته؛ لأنه إذا انصرف عن الواقع انصرف الواقع عنه، كل هذا يقتضى منه الاقتصاد فى إغراق الناس فى التحليلات والتفصيلات والتفريعات والمناقشات، كما يفرض عليه الاختيار فيما يتناوله: فمشكلات الإنسان، والحرية، والديمقراطية، وعلاقة الفرد بالدولة، والحياة والموت والتاريخ والتعريف بتيارات الفكر والعلم المعاصرين قد تكون – فى لحظتنا الزمنية الراهنة، وموقفنا السياسى والاجتماعى والثقافى الحاضر وسط أشواك التخلف الرهيب فى كل شىء – أولى من مشكلات متخصصة أخرى أشد بعدًا وتجريدًا. (لِمَ الفلسفة؟ ص٧٣)
يختتم المفكر المصرى الكبير الدكتور عبدالغفار مكاوى كتابه القيم «لِمَ الفلسفة؟» بعبارة رائعة يقول فيها:
«إن التفلسف أشبه بالرقص المستمر على حبل. ولكنه ليس حبلًا منصوبًا فى سيرك (يعرض مأساة مضحكة مبكية!) وليس معلقًا فى الفراغ والخلاء. إنه حبل ممدود على جسم الواقع، ينفذ فيه بقدر ما يرتفع فوقه». (لِمَ الفلسفة؟ ص ٨٧)
لقد أصبح لزامًا على الفيلسوف أن يهبط من عزلته الخطرة فى الأعالى ليشارك غيره من البشر على أرض الواقع، ويدخل معهم فى الحوار المشترك بين الآراء المتعارضة والمشروعات المتباينة ليناقش ويحكم ويقيم ويوجه.
إنه يتميز عنهم بالتزامه التقليدى بالعقل ودوره الحر المسئول ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى العقل وتزداد هذه الحاجة الملحة فى مجتمعاتنا المتخلفة.