د. شعبان عبد الجيِّد
- لم يعش العقاد على هامش الحياة السياسية في القاهرة، لكنه انخرط فيها بكل طاقته، وكانت الصحافة طريقه إلى كثيرٍ من تفاصيلها وأسرارها
- في زخم التيارات والمذاهب التى كانت تموج بها القاهرة؛ أخذ نشاط العقاد السياسي يبرز بقوة، فانضم إلى حزب الوفد، وكان كاتبَه الأشهر، وربطته بسعد زغلول صحبةٌ وصداقة
- بعد وفاة سعد زغلول ببضع سنوات، رشَّحَ العقادُ نفسَه لعضوية البرلمان عن حزب الوفد، ونجح في الانتخابات بعد معركةٍ لم تكن سهلةً ولا نزيهة
حين أنشأ الخديوي إسماعيل "مجلسَ شورى النواب" سنة 1866، لم يكن يريدُ منه أن يشاركَ في تشريع الدستور، أو يراقبَ أداء الحكومة، أو يناقشَ الموازنة، أو يحاسبَ المسئولين؛ وكان أكبرَ هَمِّهِ أن يجعل منه مجرَّدَ هيئةٍ استشاريةٍ تَزيدُ من رونق الحكم وبهائه، ولا شيء بعد ذلك. صحيحٌ أن عهد إسماعيل، على وجه الإجمال، كان عصر تقدم ونهضة، ولكنه من ناحية نظام الحكم يُعدُّ من عصور الحكم المطلق، فلقد كان ميَّالًا إلى الانفراد بالسلطة، والاستئثار بالأمر والنهي.
وكان تأسيس هذا المجلس، من غير أن تسبقه حركة مطالبة من الأمة، شيئًا أقرب إلى المنحة، يتفضل بها الحاكم على الشعب، ومن هنا نشأت سلطته ضئيلةً باهتة، وكان نفوذُه ضعيفًا وشكليًّا، وجاء نظام الانتخاب أيامها ليكون له الأثرُ البالغ في تكوين هذا المجلس؛ حيث حُصِرَ حقُّ الانتخاب في العُمَد والمشايخ، وأسفر ذلك عن انتخاب معظم النواب من العُمد وأعيان البلاد، حتى صار جديرًا بأن يُسَمَّى "مجلس الأعيان". أمَّا طبقة التجار والصناع فلم يكن لهم مَن يمثلهم، اللهم إلا أعضاء قليلين لا يكادون يتجاوزون أصابع اليدين عدًّا، ولا يؤثرون في طابع هذا المجلس، ولا في الغرض الذي أنشئ من أجله.
خلا ذلك المجلس أيضًا من الطبقات المتعلمة التي تخرَّجَت من المدارس والبعثات العلمية منذ عهد محمد علي، فلم يكن للمتعلمين فيه من يمثلهم، لأن نظام الانتخاب في ذاته لا يجعل لهم حظًّا في عضوية هذا المجلس، ولأنهم في مجملهم كانوا منصرفين إلى مناصب الحكومة، لا يتجهون إلى الحياة الحُرَّة، ولا يألفونها، وبذلك حُرِم المجلسُ النيابيُّ الأول تلكَ العناصرَ الحرةَ المثقفةَ التي ترسِل إلى الهيئات النيابية نورًا من الحياة والحرية والاستقلال في الرأي، وتبعث فيها روحًا من الشعور بالواجب، والشجاعة الأدبية، والتطلع إلى المَثل الأعلى.
ويذكر الأستاذ عبد الرحمن الرافعي، في الجزء الثاني من كتابه عن "عصر إسماعيل"، أن البلاد حين تأسَّسَ هذا المجلس، لم يكن فيها صحافة تنبه الأفكار، وترشد النواب إلى واجباتهم، وتبصرهم بحقائق الأمور، وتنشر مداولاتهم، وتستثير اهتمام الكافة بمباحثهم، ولم تكن هنالك جمعيات سياسية تبث أفكارَها ومبادئها القويمة في نفوس النواب، ويتألف منها ومن الصحافة رأيٌ عامٌّ يناقش المجلس ويوجهه إلى الوجهة التي يَنشُدُها، كما لم تكن في البلاد كذلك ضماناتٌ نظامية، أو قانونية أو قضائية أو فعلية، تحمي حرية الآراء وتكفُلُها، وكان لذلك كله أثره السيِّئُ في تضييق حياة المجلس وتحديد مواقفه وخططه وأعماله. وهو ما سوف يتغير إلى حدٍّ كبير، حين جاء العقاد إلى القاهرة في العَقد الأول من القرن العشرين.
في تلك الفترة كانت الأحزاب السياسية قد أخذت تشقُّ طريقَها إلى النور، فظهر الحزب الوطني وحزبُ الأمة ثم حزبُ الوفد، وكان وراءها جميعًا، كما يقول الدكتور يونان لبيب رزق، عدة عوامل، اقتصادية واجتماعية، لعلَّ من أهمها نمو طبقة "الأفندية"، وتغير نوعيتها كمؤثر اجتماعي وثقافي في قيام الحزبية في مصر، وكانت الغالبية من أبناء هذه الطبقة ممن تأثروا أشدَّ التأثر بالفكر الأوربي، وساعد على مزيدٍ من هذا التأثر انتشارُ الصحافة، واتساعُ نطاق حركة الترجمة عن الفرنسية والإنجليزية، والتي نبهت المصريين إلى نوعٍ جديدٍ من الفكر السياسي، يُضافُ إلى ذلك اشتدادُ حركة السياحة إلى أوربا، خاصةً من جانب طبقة الأعيان، وكانت مَعبَرًا آخرَ للفكر الأوربي إلى مصر، عاون على إنعاش الفكر السياسي المصري بكل مردوداته على نشوء الحركة الحزبية في البلاد.
لم يعش العقاد على هامش الحياة السياسية في القاهرة، وسُرعان ما انخرط فيها بكل طاقته، وكانت الصحافة طريقه إلى كثيرٍ من تفاصيلها وأسرارها، حيث عمل محرِّرًا في أكبر صحف تلك الفترة، فكتب إلى المجلات الشهرية، والصحف الأسبوعية، كما اشتغل بالصحافة اليومية، ونُدِب للمراسلة الحربية في صحراء سيناء، وكاد يحيط بالدائرة الصحفية من مراكزها إلى زواياها ونواحيها، ووصل به الأمر إلى أن صار رقيبًا على الصحافة بعد الحرب العالمية الأولى؛ غير أنه لم يوفَّق في عمله هذا، ولم يستمر فيه غير بضعة أيام، فتقدم باستقالته منه، لأنه يقيد حريته ويناقض مبادئه، وقد كان من رأيه أن الاستخدامَ، أو الوظيفة، هورِقُّ القرن العشرين.
بعد ذلك أخذت القاهرة تموج بعشرات الحركات السرية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ويتناثر النشاط الثقافي عبر المدينة كلها، ويأخذ أشكالًا مختلفة، يعكِس الاتجاهات السرية ويكون صدى لها أحيانًا، ومرتبطًا بها في الخفاءِ أحيانًا، ومستقلًّا عن الجميع في أغلب الأحيان. وفي ذلك الزخم من التيارات والمذاهب أخذ نشاط العقاد السياسي يبرز بقوة، فانضم إلى حزب الوفد، وكان كاتبَه الأشهر، وربطته بزعيمه سعد زغلول صحبةٌ وصداقة، تجد أثرَها في كتابه الضخم عنه:" سعد زغلول: سيرة وتحية".
كان إعجاب العقاد بزعيم الأمة شديدًا ومخلصًا، وظل وفيًّا له حتى النهاية، وقال عنه إنه "كان مثلًا في الصراحة والجرأة وطبيعة الكفاح، ولكن الذين يفهمون أنه كان لذلك يحمل سلاح الصراحة ذات اليمين وذات الشمال يخطئون في فهمه ولا ينصفونه، إنما كانت صراحته وسيلةً لإبداء الحق والإعراب عن الرأي، وكشْف رذيلة الرياء، ودفع مذلة الخنوع". وهو وصفٌ ينطبق على العقاد نفسه، أو في الجانب الأوفر مما كان عليه في أقل الأحوال.
وبعد وفاة سعد زغلول ببضع سنوات، رشَّحَ العقادُ نفسَه لعضوية البرلمان عن حزب الوفد، ونجح في الانتخابات بعد معركةٍ لم تكن سهلةً ولا نزيهة، وأزعم أنه كان من أعرف الأعضاء بمهمة النائب، فلم يكن مجرد رجل جاءت به الأصوات ليجري وراء المسئولين والوزراء ليعين هذا في وظيفة محترمة، أوينقل هذا إلى مكان قريب من سكنه، أو يستخرج لهذا قرارًا بالعلاج على نفقة الدولة، وهو ما يحسنه كثيرون ممن نسميهم "نواب الخدمات"، صحيح أنه كان حريصًا على خدمة أبناء دائرته وقضاء مصالحهم، عامةً وشخصيةً، لكنه كان يَشغل نفسَه بما هو أكبر من هذا، ويرى أن النائب كالكاتب، كلاهما صاحب رسالةٍ في ميدانه، لا يتردد في النصح، ولا يتساهل في النقد، ولا يخشى في الحق لومة لائمٍ ولا بطش حاكم. وكانت الحكومة تحسب حساب حدَّته وجرأته، والوزراء يخشون لسانه وقلمه، ولم يسلم الملكُ نفسُه من ذلك.
في هذه الفترة كان العقاد هو كاتب الشعب الأول، وكان الملك فؤاد هو عدو الشعب الأول، يحاول أن يستند على الإنجليز الذين جاءوا به إلى العرش، ووقع اختيارهم عليه دون غيره من أبناء أسرة محمد علي، ويعملُ بصورةٍ دائمةٍ على الانفراد بالسلطة، ويتآمر على دستور 1923 ليجعل من نفسه مصدرَ السلطات، بدلًا مما ينادي به الدستور من أن الشعب هو مصدر السلطات. وأشار على صدقي باشا أن يفصِّل له دستورًا على مقاسه، وكان "ترزية الدساتير" في انتظار الإشارة، فصاغوا دستورًا جائرًا ومستبدًّا، يظهر منه أنه مِنحةٌ من الملك وليس حقًّا للشعب، وهذا معناه أن الملك يمكنه أن يلغي الدستور في أي وقت يشاء، بينما كان دستور 23 تعاقدًا بين الملك والأمة، ليس من حق الملك فسخه أو تعطيله.
وقد جاء في هذا الدستور الملفَّق أنه غير قابلٍ للتعديل مدى عشر سنوات، وقيد مسئولية مجلس النواب، في حق الثقة بالوزارة أو عدم الثقة بها، بقيود تجعل هذا الحقَّ متعذَّرًا، بل ممتنع فعلًا. كما جعل الأعضاء المعينين ثلاثة أخماس المجلس بعد أن كان عددهم لا يتجاوز الخمسين، وأقرَّ للملك بحق إهمال أيِّ قانون يقره البرلمان، وهو ما يجعل منه حاكمًا مطلقًا، لا يستطيع أحدٌ معارضتَه ولا يجرؤ على مناقشته. ولم يكن ممكنًا للعقاد، وهو كاتب الوفد ونائب الشعب، أن يقف صامتًا على هذا الفساد، فوقف بلا تردُّدٍ في وجه الملك فؤاد، وهاجمه في البرلمان سنة 1930، وجهَرَ بعبارته المشهورة: "إن الأمَّةَ على استعدادٍ لسحقِ أكبرِ رأسٍ في البلد يحاولُ أن يعبث بالدستور". وكان أكبر رأس في البلد هو رأس الملك فؤاد.
أقامت كلمة العقاد عليه الدنيا ولم تُقعِدها، وعرفَت السراي أنها المقصودة بهذا الكلام، فأسرَّها الملك فؤاد في نفسه، ولم يَنسَها للعقاد، وأشار بعض الخبثاء باغتياله، لكن الملك وأعوانه خشوا غضبة الشعب من أجل كاتبه الأول، ولم يكن ممكنًا أن يُعتقَلَ أو يقدَّم للمحاكم لأنه كان يتمتع بالحصانة النيابية، وكان عليهم أن ينتظروا بعض الوقت ليدبروا له تهمة "العيب في الذات الملَكيَّة"، وما أن صدر قرارٌ بحل البرلمان، حتى قُدِّم العقاد إلى التحقيق، بسبب مجموعة من المقالات، نشرها في جريدة "المؤيد"، حمل فيها على الرجعية والرجعيين، وذهب فيها أن الاستقلال لحرية مصر وسعادتها، لا لاستعبادها وتعذيبها، وقال في إحداها:
"أيها الرجعيون الذين ما طلبوا الاستقلال لهذا البلد يومًا، ولا يطلبونه الآن ولن يطلبوه، ولن يكون لهم فيه شأنٌ فيه لو استقلَّ كلَّ الاستقلال، وخرجت منه قوة المستعمرين"... وهو كلامٌ يَقصد العقادُ به الملكَ وحاشيتَه، وكان سببًا كافيًا لديهم ليقدموه إلى محكمةٍ هزليةٍ، انتهت بالحكم عليه بالسجن لمدة تسعة أشهر، قضَّاها في سجن قره ميدان، لم تزده إلا صلابة وعزةً وإصرارًا، وأثمرت لنا كتابًا طريفًا قلما يذكره من يتحدثون عنه، وقد سماه "عالم السدود والقيود"، وصف فيه حياته في السجن، وما كان يلاقيه من متاعب ومضايقات، وظلَّ على موقفه المناهض للطغيان والاستبداد، لم تلن قناتُه، ولم ينكسر قلمُه، ولم تتلوث أفكارُه، ولم تتبدل مواقفه، ولم تتلون مبادئه، ووقف على باب السجن وهو يقول أبياته الشهيرة:
ظللت جنيـــنَ السجـن تسعةَ أشهُرٍ
وهـــا أنذا فـــــي ساحةِ الخُلدِ أُولَدُ
وما أفقدَت لي ظُلمةُ السجن عَزمةً
فما كلُّ ليــــلٍ حيـــن يغشاكَ مَرقَدُ
عِداتي وصحبي لا اختلافَ عليهِمُ
سيعهدني كُلٌّ كمــا كـــان يعـــــهدُ !
ومن العجيب الغريب أن يذهب الأستاذ فتحي رضوان، في كتابه "عصرٌ ورجالٌ"، إلى أن العقاد لم يكن يهيج ولا يغضبُ، ولا يبدو متعاليًا إلا حينما يُحِسُّ بضعفه وبقوة من يناجزونه، ويقول: إنك لو راجعت حياة العقاد لما وجدته قد أقدم على مهاجمة قويٍّ إلا وهو مستندٌ إلى من هو أقوى منه؛ خاصم عدلي وثروت وهو معتمدٌ على سعد وحزب الوفد، وهاجم النحاس معتمدًا على ماهر والنقراشي، وهاجم هتلر وهو في حمى الإنجليز، ولمَّا أحسَّ أنه لن يجد من يحميه انقطع عن الكتابة السياسية تمامًا، مكتفيًا بمهاجمة دعاة الشعر الحديث.
وهذا كلامٌ فيه نظرٌ كما يقولون، والرأي الذي أميلُ إليه هو ما كتبه الدكتور الطاهر أحمد مكي في مجلة الهلال منذ ما يقرب من ثلاثين سنة: "لقد آمن العقاد بحرية الفكر، وذهب بآرائه إلى أبعد مدى يؤمن به، لم يُقِم وزنًا لرأي العامة، ولا لغضب السلطة. لم يبحث عن الشهرة بين الجماهير، ولا عن تملُّق الحاكمين، وليس في كل ما كتب على امتداد تاريخه، كلمةٌ واحدةٌ لا يؤمن بها".
وهذا هو ما ننتظره من كلِّ كاتبٍ حُرٍّ، يحترم قلمه ويقدِّرُ قراءه، ومن كلِّ نائب مستقلٍّ، يُحبُّ بلادَه ويَغار على كرامة شعبِه!