د. نيفين عرفة
كافح المصريون عبر تاريخهم الحديث من أجل أن يكون لهم دستور يكف عنهم الاستبداد والديكتاتورية، ويتضمن المبادئ الأساسية لنظام الحكم ويحدد علاقة الحكام بالمحكومين باحتلال الإنجليز لمصر عام 1882 فقدت مقومات استقلالها، حيث كُلف اللورد "دوفرين" بدراسة أوضاع مصر وعمل تقرير لاقتراح نظام الحكم الأفضل بالنسبة لظروفها قرارات مجلس شورى القوانين في المواد التي ينظر فيها كانت تصدر بالأكثرية المطلقة بحضور ثلثي الأعضاء على الأقل.
مجلس شورى القوانين هو المجلس المسؤول عن إصدار اللوائح والقوانين والتشريعات في فترة مهمة من تاريخ مصر الحديث، فمن خلاله نتعرف على النواحي التشريعية والإدارية والسياسية والمالية والاجتماعية في تلك الفترة، ولعل هذا ما يميز الكتابة في تاريخ المؤسسات؛ فهو يجمع بين كل تلك الميادين، حيث تعكس وثائق المجلس صورة صادقة عن الحياة النيابية في مصر أثناء فترة الاحتلال البريطاني.
فلقد كافح المصريون عبر تاريخهم الحديث من أجل أن يكون لهم دستور حديث يكف عنهم الاستبداد والديكتاتورية، ويتضمن المبادئ الأساسية لنظام الحكم ويحدد علاقة الحكام بالمحكومين، وينظم السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ويفصل بينها، ويقيم أركان النظام السياسي على أسس ديمقراطية تستند إلى برلمان يُشرّع القوانين ويحاسب حكومة مسئولة أمامه، فلقد حكم محمد على حكمًا مطلقاً ساد فيه قاعدة حكم الفرد، ومع ذلك كان يميل إلى مشاورة مستشاريه في أمور الدولة قبل إبرامها، ومن هنا جاءته فكرة تأسيس بعض المجالس أو الدواوين في مختلف الشؤون.
فألف مجلس المشورة في عام 1829 وكانت سلطته استشارية في أمور التعليم والإدارة والقضاء والأشغال العمومية، ويمكن اعتباره نواة لنظام نيابي؛ نظراً لأنه كان يتألف من أعضاء يمثلون مختلف الطبقات، غير إنه لم يدم طويلاً، فقد تم إلغاؤه ضمن جميع المجالس التي ألغيت بصدور قانون السياستنامه عام 1837، ثم ألف محمد على المجلس الخصوصي وحدد اختصاصاته بالنظر في شؤون الحكومة الكبرى وسن اللوائح والقوانين وإصدار التعليمات لجميع مصالح الحكومة، وكان يرأسه إبراهيم باشا.
واستمر خلفاء محمد على في سياسة الحكم الفردي، ولم تتخذ في عهودهم خطوات ملموسة لإشراك الشعب في عملية اتخاذ القرار السياسي أو إجراء إصلاحات نيابية حقيقية، أما عندما تولى إسماعيل الحكم بدأه بشكل مطلق كأسلافه، ولكن سرعان ما تطور نظام الحكم نحو الأخذ بالمبادئ الدستورية الأوربية بفضل النهضة الفكرية في البلاد، وكان من آثار ذلك إنشاء أول مجلس نيابي "مجلس شورى النواب" في عام 1866، ولكنه لم يكن يمارس سلطة تشريعية حقيقية؛ بل كانت وظيفته مجرد إبداء الرأي فيما يعرض عليه من قبل الخديو، حيث كان رأيه استشاريا محضا، وباحتلال الإنجليز لمصر عام 1882 فقدت مقومات استقلالها، حيث كُلف اللورد "دوفرين" – سفير بريطانيا لدى الباب العالي بالأستانة -بدراسة أوضاع مصر وعمل تقرير لاقتراح نظام الحكم الأفضل بالنسبة لظروفها، وعلى أساس هذا التقرير أقامت سلطة الاحتلال نظامًا للحكم يضمن مصالحها وأغراضها، فصدر القانون النظامي في مايو عام 1883 مصر، وتمثل في إنشاء عدة مجالس هي:
مجالس المديريات 2- مجلس شورى القوانين
3-الجمعية العمومية. 4- مجلس شورى الحكومة.
كان من أهم معالم تقرير دوفرين:
عدم الأخذ بمبدأ فصل السلطات، ومنع الاختصاص التشريعي عن المجالس النيابية وجعلها مجرد هيئات استشارية. فعاد نظام الحكم الى النظام المطلق حيث تركزت السلطة في يد المعتمد البريطاني.
تعدد المجالس وهي مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية. ولا يمكن القول بأن ذلك يعد أخذا بنظام المجلسين؛ فهذا يفترض اختلاف طريقة تكوين كل مجلس بينما كان الوضع تبعا للقانون النظامي لعام 1883 أن مجلس شورى القوانين يدخل بكامل هيئته في تكوين الجمعية العمومية، ويترأس الهيئتين شخص واحد.
أخذ النظام بطريقة الانتخاب على درجتين وأحيانا على ثلاث، كما مزج بين التعيين والانتخاب، وقد برر "دوفرين" إتباع قاعدة التعيين على أساس أنه يتحقق به وجود أعضاء في المجلس من ذوي المكانة الاجتماعية المرتفعة، بالإضافة إلى مشاهير الأقباط الذين ربما تعذر عليهم استمالة المسلمين إلى انتخابهم. وهذا يجسد الفكر الاستعماري في استخدام النزاعات الطائفية.
والحقيقة أن النظام الجديد هو نظام صوري لا يتفق والديمقراطية في شيء، حيث يجعل سلطة الأمة معدومة لإضعاف الروح الوطنية؛ حتى لا تعترض السياسة البريطانية عقبات من ناحية الأمة، فكل ما يبتغيه الإنجليز هو معرفة رأي المصريين دون أن يتقيدوا في رأيهم بشيء. فلقد رأى "دوفرين" أن النظام النيابي الصحيح في نظره غير مناسب لمصر؛ لأن فيه تعطيلا لأعمال الحكومة، فلا يلائم مصر إلا مجلسا (شورى القوانين) مكونا من أفراد قليلي العدد، كبيري الخبرة، لمساعدة الوزراء في تحضير مشروعاتهم، وجعل رأيه استشاريًا، إذ كان للخديوي والحكومة حق الاعتراض على أعمال المجلس مع بيان أسباب اعتراض الحكومة، ثم إنهاء المناقشة دون تعليق المجلس، وقد اعترف "دوفرين" بأن هذه المجالس شبه النيابية لا تستطيع وضع القوانين، لأن مصر في نظره غير مستعدة لحكومة شعبية.
وقد تألف مجلس شورى القوانين من (30) ثلاثين عضوًا منهم أعضاء دائمون مدى الحياة وعددهم (14) أربعة عشر؛ حيث يُعيَن منهم رئيس المجلس وأحد الوكيلين، ويكون ذلك بأمر من الخديوي بناء على عرض من مجلس النظار وكذلك لا يجوز عزلهم إلا بأمره بناء على عرض من مجلس النظار، وبمقتضى قرار يصدر من المجلس بأغلبية ثلثي أعضائه على الأقل، أما الأعضاء المنتخبون وهم الذين يمثلون الأمة فينتخبون من بين أعضاء مجالس المديريات، وعددهم (16) ستة عشر عضواً، واحد عن كل مديرية من الأربعة عشر مديرية، ينتخبه مجلسها من بين أعضائه بالاقتراع السري، وكذلك عضو عن مدينة القاهرة وآخر عن الثغور، ومهمة الأعضاء المندوبين مؤقتة لست سنوات، ولكن يجوز انتخاب العضو الذي انتهت مدته عدة مرات، أما إذا انفصل أحدهم من عضوية مجلس المديرية فُصل في الحال من مجلس شورى القوانين، ويُنتَخب مجلس المديرية بدلاً عنه، ولا يسوغ لأحد من النواب أن ينيب عنه غيره في حضور الجلسات لإبداء رأيه.
ورئيس المجلس ينبغي أن يتصف بالاستقامة، وله عدة مهام فوفقا للقانون النظامي هو الذى يعقد الجلسات ويختمها، وله دون سواه حق الإذن في الحديث بالجلسة، وله أن يحيل ملاحظة تحرير محاضر الجلسات على الوكيلين أو أحدهما، وعند رغبة الرئيس في الاستقالة فينبغي أن يتقدم بالتماس إلى الأعتاب الخديوية لقبول ذلك، جدير بالذكر أنه خلال الثلاثين عام – فترة وجود المجلس- ترأس مجلس شورى القوانين سبعة رؤساء كانوا جميعا من باشوات البلاط، وأحدهم كان الأمير حسين كامل ولذلك فقد ظل المجلس تحت سيطرة الخديوي؛ أما عن رؤساء المجلس فهم :-
محمد سلطان باشا 1883-1884
على شريف باشا 1884-1894
عمر لطفي باشا 1894- 1899
إسماعيل محمد أباظة باشا 1899-1902
عبد الحميد صادق باشا 1902-1909
الأمير حسين كامل 1909-1910
محمود فهمي باشا 1910– 1913
جلسات مجلس شورى القوانين
أعُد مكان اجتماع المجلس بوزارة الاشغال، وكان أول انعقاد له في 24 نوفمبر 1883، برئاسة محمد سلطان باشا، وبحضور مجلس النظار وكان الاجتماع علنياً، وقد نصت المادة "26" من القانون النظامي على أن يجتمع مجلس شورى القوانين ست مرات في العام. وقد يجتمع في غير هذه المواعيد (جلسات غير اعتيادية) بمقتضى أمر عال يدعوه لذلك، ولا يجوز انتهاء أدوار الانعقاد إلا بعد أن يكون المجلس قد أرسل رأيه للحكومة عن جميع المسائل المعروضة عليه.
أما عن مواعيد انعقاد المجلس فكانت إما صباحًا بعد شروق الشمس بساعتين أو مساء وفى كلتا الحالتين يتم إعلام مجلس النظار بميعاد انعقاد الجلسة.
وتبدأ الجلسة بتلاوة أسماء الأعضاء دائمى الحضور، ثم الأعضاء المندوبين الحضور، ثم المتغيبين بالأعذار، ولابد لصحة الاجتماع من حضور ثلثي الأعضاء غير محسوب من ضمنهم الأعضاء الغائبين بإجازة قانونية، ثم تُتلى خلاصة محضر الجلسة السابقة. ويجوز للنظار حضور جلسات مجلس شورى القوانين وحدهم أو يصحبهم كبار الموظفين، كما لهم أن ينيبوا عنهم في الحضور أحد الموظفين المذكورين، وللمجلس أن يطلب منهم حينئذ الإيضاحات التي يرى لزومها عن المشروعات الخاصة بهم، وينبغي الإشارة إلى أن حضور النظار هنا حق لهم لا واجب عليهم، ولكن الحكومة خولت فيما بعد هيئة المجلس حق استجواب النظار فيما تريد السؤال عنه، وكان صدور الإقرار بذلك في أواخر عام 1909 بخطاب بيُنت فيه شروط الاستجواب من نحو تقديمه قبل ميعاد الجلسة، وبيان صيغة السؤال وعدم خروجه عن الموضوع المبحوث، وفى عام 1912 صدر القانون رقم 7 بتخويل أعضاء مجلس شورى القوانين "حق توجيه الأسئلة إلى النظار" فيما يختص بالمسائل الإدارية ذات المصلحة العامة، مع مراعاة أن يقدموا لسكرتارية مجلس شورى القوانين قبل توجيه السؤال بخمسة أيام على الأقل إخطاراً كتابياً مشتملاً على نص السؤال، ولرئيس المجلس أن يرفض أو يطلب تعديل أي سؤال يكون ماساً بالشخصيات أو باعثاً على التنافر بين عناصر الأمة أو مختصاً بالعلاقات والاتفاقات الدولية، ومع ذلك يجوز للنظار عدم الرد على السؤال إذا رأوا أن المصلحة العامة تقتضى بذلك، وأخيراً ألا يكون جواب النظار محل مناقشة، وقد تقرر أن تُدرج الأسئلة والأجوبة بمحاضر جلسات المجلس.
جدير بالذكر أن جلسات المجلس كانت سرية، وقد بقيت كذلك حتى عام 1909، حيث صدر أمر عال بجعلها علنية عملا بطلب الرأي العام الذي كثيرا ما كان قد ألح بذلك على صفحات الجرائد، وفى الجلسات النيابية، وكان للشخص الذي يرغب في حضور الجلسات، سواء كان أحد مرافقي الأعضاء أو مندوب عن جريدة يومية معترف بها من الحكومة عدة شروط منها أن يحصل على تذكرة للدخول إلى المجلس، وأن يجلسوا في الأماكن المخصصة لهم، وألا يبدوا علامات الاستياء أو الاستحسان مما يُناقَش في الجلسة ويلتزمون بما يوجه إليهم من المكلفين بحفظ النظام في المجلس. وقد خصص ثمانون مقعداً للزائرين. ومن ضمن مظاهر العلانية أيضًا أن تقوم سكرتارية المجلس بتدوين مذكرة لكل جلسة باللغتين العربية والفرنسية، تشمل القرارات التي أصدرها المجلس لتنشرها الصحف.
اختصاصات مجلس شورى القوانين
وفقاً للقانون النظامى لعام 1883 يبدى مجلس شورى القوانين رأيه في جميع لوائح الإدارة العمومية، فمتى عرضت الحكومة المشروعات على المجلس يأخذ في بحثها ويعيدها مشفوعة برأيه، إما بالموافقة وإما بالرفض أو التنقيح الذى يدخله عليها، وتبقى الحكومة حرة في التعديل على رأيه، أو في رفضه وإبلاغه بالأسباب، مع عدم جواز المناقشة فيها من جديد، وله أن يطلب من الحكومة تقديم مشروعات قوانين أو أوامر عالية متعلقة بالإدارة العمومية، كذلك من الموضوعات التي عرضت على مجلس شورى القوانين الميزانية؛ حيث كانت ترسل إلى المجلس في أول ديسمبر من كل عام، لإبداء رأيه بخصوص كل قسم من أقسامها، ثم ترسل هذه الآراء إلى ناظر المالية، فإن شاء أخذ بها وإن شاء رفضها، وعليه في حالة رفضها أن يبين الأسباب الداعية إلى ذلك دون أن يترتب على بيانها جواز المناقشة فيها، ثم تُعتَمد الميزانية بأمر عال يصدر قبل اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر، أما العرائض التي ترسل إلى مجلس شورى القوانين فينظر فيها ويحكم بقبولها أو رفضها، والتي تُقبل منها تُحال على مجلس النظار لتحويلها إلى الناظر المختص لإجراء ما يلزم عنها، وإشعار المجلس بما تم فيها وذلك وفقاً للقانون النظامي، وفى بعض الأحيان كانت الحكومة تخالف ذلك القانون وتتدخل في اختصاصات المجلس دون الرجوع إليه، فكان مجلس شورى القوانين يرسل إلى مجلس النظار اعتراضا على هذا التعدي على اختصاصاته الممنوحة له وفقًا للقانون النظامي.
جدير بالذكر أن قرارات مجلس شورى القوانين تصدر في المواد التي ينظر فيها بالأكثرية المطلقة بحضور ثلثي الأعضاء على الأقل، ويكون أخذ الآراء بطريقتين الأولى (النداء بالاسم)، والثانية من خلال (كتابة الرأي في ورقة ووضعها في الصندوق المخصص لذلك والاختيار من هذه الأوراق)، وإذا تساوت الآراء فرأي الرئيس مٌرجح. وقد استمر مجلس شورى القوانين ثلاثين عاما من24 نوفمبر عام 1883 إلى 31 مايو عام 1913 عُقِدَ على امتدادها (657) ستمائة سبع وخمسون جلسة، خلال (33) ثلاثة وثلاثين دور انعقاد، وُجِددت الانتخابات أثنائها أربع مرات. وفى أول يوليه عام 1913 صدر القانون رقم 29 بإحلال قانون نظامي جديد محل القانون النظامي الصادر عام 1883، ويقضى بأن ينضم مجلس شورى القوانين مع الجمعية العمومية في هيئة واحدة تسمى (الجمعية التشريعية)، وتخويل الهيئة الجديدة اختصاصات كل منهما، مما سبق يتضح أن رأي مجلس شورى القوانين لم يكن ملزما لأحد، كما أن دوره في الحياة السياسية كان يتأرجح بين القوة والضعف وفقاً للمؤثرات المتمثلة في زيادة الوعي لدى النواب نظرا لانتشار الصحافة، ونمو الحركة الوطنية، وانتشار التعليم.