مائة عام برلمان.. الأغلبية والأقلية والثقافة
رغم تباين المراحل السياسية التى عاشتها مصر، نستطيع أن نرصد بعض الملامح العامة فى عمل ودور البرلمان، منها أن موقف نواب البرلمان، لم يكن طوال الوقت متعاطفا ولا ودوداً تجاه المواقف الفكرية والثقافية فى البلاد.
ما بين الصراعات الحزبية حينا وصراعات الأجنحة داخل الحزب الواحد حينا آخر، ومحاولة استرضاء الرأي العام المحافظ وربما المزايدة عليه حينا، كانت قضايا الفكر والثقافة متراجعة فى اهتمامات البرلمان.
مازالت تتردد فى الأصداء مجلة نواب مجلس الأمة، حين كان رئيس المجلس هو السادات، وكان ضد رواية إحسان عبدالقدوس"أنف وثلاثة عيون"، وقرر المجلس تحويل الرواية إلى نيابة الآداب.
كانت ثورة سنة 1919 فارقة فى حياة المصريين وتاريخ مصر، صحيح أن هدف الثورة الأولى لم يتحقق كاملا، الهدف كان الاستقلال التام؛ وما ناله المصريون فى 8 فبراير 1922 استقلالا غير مكتمل، أو منقوص، استقلال محاط بتحفظات بريطانيا الأربعة، ومع ذلك قبلت به مصر، على أن تواصل الكفاح والنضال وصولا إلى الاستقلال التام، ليكن الكفاح مع وضد بريطانيا العظمى، لكن كان مع أنفسهم، أى بناء مؤسسات الدولة الحديثة، وهكذا سارع المصريون إلى الاكتتاب لتأسيس بنك مصر سنة 1921 باعتباره خطوة فى طريق الاستقلال الاقتصادى والمال، وتم تشكيل اللجنة التى وضعت مشروع الدستور المصرى، وبالفعل صدر الدستور سنة 1923، صحيح أن العملية شهدت شدا وجذبا بين القوى السياسية المختلفة، الوفد وسعد زغلول فى جانب والأحرار الدستوريين برعاية عدلى يكن فى جانب آخر، إلي حد أن سعد أطلق على لجنة وضع الدستور "لجنة الأشقياء"، ثم جرى صراع آخر مع الملك فؤاد، الذى أراد أن يقتنص من الدستور المزيد من الحقوق الدستورية، تدعم أوتوقراطيته، ورفض بالمطلق أن يكون ملكا دستوريا، كما تمنى وحلم أعضاء لجنة الدستور، فى النهاية تم التوصل إلي تفاهم وصدر الدستور وصار نافذا بمجرد اعتماد الملك له.
بعد إصدار الدستور كان يتعين إجراء انتخابات برلمانية واستكمال المؤسسات السياسية والديمقراطية بالدولة، وهو ما جرى بالفعل فى العام 1924 وصار لدينا برلمان، بالمعنى الحديث، كما هو الحال فى البلدان الديمقراطية، كان تشكيل البرلمان استمرارا لمسيرة وخبرات نيابية عرفتها مصر في سبعينيات القرن التاسع عشر؛ زمن الخديو إسماعيل، وإن كان بعض الدارسين يعود بها إلى زمن محمد على (باشا) حين شرع سنة 1829 فى تأسيس مجالس المديريات.
هذا العام – 2024 – يكمل البرلمان عامه المائة، قرن بالتمام والكمال، يحق لنا معه أن نتأمل تلك التجربة والممارسة الممتدة، دور البرلمان بالنسبة لمؤسسات وسلطات الدولة الأخرى؛ علاقته بها باعتباره مؤسسة التشريع والرقابة، فضلا عن مدى تعبيره عن المجتمع المصرى كله وتمثيله للمواطن.
بعض الذين لا يفضلون ثورة سنة 1919 ولديهم عديد من الملاحظات عليها وعلى زعامة سعد زغلول، يشككون فى كثير من الأمور ومن بينها برلمان سنة 1924، حجتهم فى ذلك أن الانتخابات التى جرت لم يكن للنساء حق التصويت فيها، وهذا صحيح، واستمر ذلك الوضع حتى منتصف الخمسينيات، وإن حان الترشح كان به الكثير من العوائق مثل أن يمتلك المرشح مساحة من الأطيان لا تقل عن عشرة أفدنة، وهكذا شروط تنظيمية على هذا النحو، لكن كل ذلك لا يفقد الانتخابات مشروعيتها ولا البرلمان دوره، ولا يصح قياس الأوضاع السياسية والثقافية الآن، بما كان عليه الأمر قبل قرن من الزمان، لكن كل لحظة تقاس بالظروف التى كانت قائمة وقتها، وبهذا المعنى فإنه كان لدينا برلمان مكتمل سنة 1924؛ يحق لنا أن نعتز بتجربته وأن نتوقف عندها؛ حتى لو بدت بعض الملاحظات والمآخذ.
عايش البرلمان العصرين الملكى والجمهورى، مرحلة تعدد الأحزاب حتى سنة 1952؛ ثم حقبة الحزب أو التنظيم الواحد؛ الاتحاد الاشتراكى العربى، زمن الرئيس عبد الناصر تم إلى منتصف سنوات حكم الرئيس السادات، حين قرر السادات الاتجاه بعلاقاتنا مع الولايات المتحدة بدلا من الاتحاد السوفييتى؛ وعلى هذا الأساس لم يكن لائقا التعامل والشراكة الدبلوماسية مع الولايات المتحدة ونحن تحت حكم الحزب والتنظيم الواحد، وهكذا تم استبدال الاتحاد الاشتراكى بمنابر ثلاثة، تم قرر السادات أن المنابر هى نفسها أحزاب، فتحولت إلى أحزاب ثلاثة، كان البرلمان موجودا فى كل المراحل، وإن اختلفت أسماؤه ومسمياته، تارة يكون اسمه "مجلس الأمة"، ثم يصبح "مجلس الشعب" ثم "مجلس النواب" حيث هو الآن؛ وتارة يكون البرلمان غرفة واحدة، أن مجلس النواب أو الأمة فقط، وتارة يكون هناك مجلس آخر، هو مجلس الشيوخ فى العصر الملكى، ثم يصبح "مجلس الشورى" فى عهد الرئيسين السادات ومبارك، وتم اثناؤه، ثم أعيد باسم "مجلس الشيوخ" مع التعديلات الدستورية سنة 2019، لكن فِى كل الأحوال وطوال الوقت، كان هناك برلمان فى مصر، عدا سنوات قصيرة، منذ قيام ثورة يوليو 1952 وحتى انتهاء العدوان الثلاثى على مصر سنة 1956، عمليا منذ خروج الملك من مصر وحتى يناير 1957 لم يكن لدينا برلمان، وكان الجميع يدركون أن ذلك وضع لا يستقيم، لكنها الأحداث العاصفة التى شهدتها مصر وقتها، وقامت دون إجراء انتخابات نيابية.
ورغم تباين المراحل السياسية التى عاشتها مصر، يستطيع المتأمل أن يرصد بعض الملامح العامة، ولنقل الثابتة فى عمل ودور البرلمان، منها مثلا أن موقف نواب البرلمان، الأغلبية فيه، لم يكن طوال الوقت متعاطفا ولا ودوداً تجاه المواقف الفكرية والثقافية فى البلاد، مثلا تولى نواب البرلمان الأولى الحملة على د. طه حسين "كتابه فى الشعر الجاهلى" سنة 1926، ولما أحيل الكتاب والكاتب إلي النيابة العامة وانتهت إلى الحفظ، حاول نواب الأغلبية مطلع سنة 1927 إعادة فتح الملف واتهام الجامعة المصرية، ولم يتوقف الأمر إلا حين طلب الزعيم سعد زغلول إغلاق القضية والتوقف عند قرار النيابة العمومية بالحفظ، كان نواب الأغلبية يصرون على الانتقام من طه حسين والتنكيل به.
وفى سنة 1942 حين كانت الحكومة تؤسس جامعة الأسكندرية، كان وزير المعارف وقتها د. حسين هيكل (باشا) وكان طه حسين هو مدير الجامعة والقائم على المشروع، تصدى نواب الأغلبية (الوفد) فى البرلمان للمشروع واعتبروه إهداراً لمال عام، وأن طلاب الإسكندرية عليهم أن يجيئوا إلى القاهرة إذا أرادوا استكمال تعليمهم، كان رد الحكومة أن الجامعة سوف تخدم محافظات الإسكندرية والبحيرة وما جاورها وأن أعداد طلاب الإسكندرية وحدهم تجاوزوا الـ250 طالبا وطالبة، وحتى فى زمن عبدالناصر، مجلس الأمة سنة 57، أعادوا فتح ملف مجانية التعليم الذى أقرته حكومة الوفد سنة 1950، وكان الرأى السائد أن تلك المجانية أضعفت التعليم وأفسدته، ولم يكونوا وحدهم فى ذلك، كان هناك عدد من أساتذة الجامعة ينددون بالمجانية وزيادة أعداد الجامعات، اعتبروا ذلك اهتمام بالكم وليس بالكيف.. رغم هذه المناقشات اتخذت الدولة فى العام التالى سنة 1958 قراراً بعد الجامعة من التعليم القانون إلى المرحلة الجامعية وما بعدها.
ومازالت تتردد فى الأصداء مجلة نواب مجلس الأمة حين كان رئيس المجلس وهو محمد أنور السادات، ضد رواية إحسان عبدالقدوس "أنف وثلاثة عيون"، وقرر المجلس تحويل الرواية إلى نيابة الآداب، وهكذا الحال بعد ذلك.. طوال الوقت سوف تلاحظ أن المجلس عبر قرن من الزمان، كان فى الاتجاه المحافظ ثقافيا وفكريا، وهذا يمكن تفهمه وربطه باعتبارات عدد غير قليل من السنوات باسترضاء الرأى العام المحافظ، فضلا عن التوجهات السياسية، فى معركة الشعر الجاهلى كانت المسألة جزءا من الصراع بين سعد وعدلى، كان طه حسين فى صفوف العدليين، وقبلها بعام سنة 24 شن حملة ضارية ضد سعد زغلول وفى حالة جامعة الإسكندرية كان هدف نواب الأغلبية إحراج الحكومة الائتلافية وهكذا.
ما بين الصراعات الحزبية حينا وصراعات الأجنحة داخل الحزب الواحد حينا آخر، ومحاولة استرضاه الرأي العام المحافظ وربما المزايدة علمية حينا، كانت قضايا الفكر والثقافة متراجعة فى اهتمامات البرلمان، وربما تكون جائزة النيل، جائزة مبارك سابقا، نموذجا وأمراً، فقد تقدمت وزارة الثقافة والحكومة إلى مجلس الشعب بإضافة جائزة باسم "جائزة النيل" فى الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية، تزيد قيمتها المالية عن قيمة جوائز الدولة التقديرية، رفض نواب الأغلبية الاقتراح، وكان من بين أسباب الرفض، أن الوضع المالى ولا يسمح، وقيل كلام كثير تحت قبة البرلمان، مفاده أن السادة النواب لا يرون أولوية للقضايا الثقافية، بل إن منهم من اعتبره نشاطا ترفيهيا زائدا، وقال آخرون كلاما سيئا بحق الثقافة والفنون، غير أن أحد السادة النواب، من حزب الأغلبية، أجرى اتصالا مع المسئولين في وزارة الثقافة، اقترح عليهم كى تمر الجائزة أن يتم تغيير اسمها لتصبح جائزة مبارك، وهذا ما حدث.
ومن أبرز ملامح العمل البرلمانى المصرى أنه طوال هذه المسيرة كان يسيطر على البرلمان اتجاه يمثل الأغلبية المطلقة مع وجود أقلية من بعض الأحزاب والاتجاهات الأخرى، فيما قبل سنة 1952 وعلى مدى 28 سنة، كانت الأغلبية الكاسحة للوفد، وفى زمن تعدد الأحزاب فى نهاية عهد الرئيس السادات ثم طوال عهد حسنى مبارك، كانت الأغلبية لحزب مصر العربى الاشتراكى، ثم الحزب الوطنى الديمقراطى الذى شكله الرئيس السادات وتولى رئاسته، وفى زمن الإخوان كان حزبهم هو المسيطر، والآن نجد حزب مستقبل وطن، حتى فى زمن الاتحاد الاشتراكى كانت هناك أجنحة متنافسة ومتضاربة داخل هذا التنظيم، انقل ذلك على الأداء البرلمانى وقتها، ورغم وجود أغلبية كاسحة، فقد كان حزب الأغلبية حريصا دائما على وجود الأقلية، حتى لا يصبح البرلمان كله لحزب بعينه، لذا وجدنا الوفد قبل 1952 ينسق مع بعض الأحزاب الأخرى، ويخلى دوائر بعينها لهم، أى لا يدفع بمرشح له فى الدائرة، وحدث الشىء نفسه، زمن الحزب الوطنى مع اختلاف فى هامش نسبة المعارضة فى كل دورة برلمانية، وحدث فى تشكيل البرلمان أكتوبر سنة 2010 أن أصاب الغرور حزب الأغلبية وقرر إزاحة المعارضة بالكامل والسيطرة المطلقة على البرلمان، ومن أسفه أنه نجح فى ذلك، ودفع النظام السياسى كله الثمن فى يناير 2011، فقد أطيح به بعد شهور قليلة وقبل تخليه عن الحكم بأكثر من أسبوع أقر الرئيس السابق حسنى مبارك لرئيس المجلس الأعلى للقضاء بذلك الخطأ.
وجود أغلبية كبيرة لحزب بعينه واتجاه بذاته داخل البرلمان، لم يمنع الأقلية من أن تؤدى واجبها وتقوم بدور مؤثر، فى الانتخابات الرئاسية التى أجريت الشهر الماضي، وجدنا أحزاب الأقلية داخل البرلمان تدفع بمرشحين ثلاثة إلى الانتخابات، وكل منهم كان رئيسا لحزب من الأحزاب، د. عبد السند يمامة مرشج حزب الوفد، حازم عمر مرشحا عن حزب الشعب الجمهورى، والمرشح الثالث فريد زهران مرشح الحزب الديمقراطى الاجتماعى، المرشح الرابع وهو مستقل، ليس منتميا لحزب من الأحزاب وهو المرشح المستقل عبد الفتاح السيسى، رشحه نواب حزب الأغلبية وعدد من نواب الأحزاب الأخرى.
وفى تاريخ البرلمان حسمت الأغلبية الكاسحة الحكومات من أن يتم إسقاطها برلمانيا، صحيح أن الأقلية كان بإمكانها إحراج وزير بعينه أو توجيه نقد حاد إلي الحكومة، لكن لم تصل إلي سحب الثقة منها، ذلك أن سحب الثقة كان بيد الملك فى العصر الملكى والرئيس فى العهد الجمهورى، وكثيرا ما نسمع بعض الشخصيات العامة يتمنون أن يأتى يوم يتمكن فيه نواب البرلمان من إسقاط الحكومات والمجىء بأخرى، غير أن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا فى ظل النظم البرلمانية، أى الملكية الدستورية، كما هى الحال فى بريطانيا أو النظم الجمهورية التى لا يتمتع بها الرئيس سوى بمكانة شرفية، كما هى الحال فى العراق الآن.
وقد يتصور البعض أن الحكومات فى هذه الحالة تعمل بلا رقابة ولا قيد، لكن الواقع أن هناك أجهزة رقابية تقوم بذلك، مثل الجهاز المركزي للمحاسبات والرقابة الإدارية وغيرها، وكانت دائما قادرة على المتابعة الدقيقة والصارمة، فضلا عن أنها تمكن أن تتخذ إجراءات قانونية إذا ارتكب أحد المسئولين مخالفة ما بالتحقيق والإحالة إلي النيابة العامة.
فى كل الأحوال كان نواب البرلمان صوت مواطنيهم ونجحوا فى التعبير عن الشارع، فضلا عن إضافة قدر كبير من الحيوية على النظام السياسى كله، فى النهاية البرلمان هو صوت الشعب، وعبر مائة عام كان هذا الصوت قويا وحاضراً.