برلمان مصر.. تحديات الثورة ونهضة السبعينيات
● في الستينيات، استمر العمل النيابي على شاكلته في الخمسينيات مع بعض الاختلافات، فقد كانت هناك عدة تطورات في المشهد النيابي على المستوى التنظيمي وربما السياسي
● في السبعينيات كانت هناك تطلعات لتطوير النظام السياسي والتمثيل الشعبي في البرلمان، لا سيما فى غياب الأحزاب وسيطرة الحزب الواحد
● في سياق التعددية السياسية ارتفعت الأصوات بأن ضمان الكيان السياسي للدولة لا يكون إلا باشتراك كل أفراد الدولة فيه، فلا يجب أن ينفرد شخص من الأشخاص به
لكل شعب شخصية ذاتية ينفرد بها عن غيره من الشعوب، وتعتمد هذه الشخصية على مقومات متعددة وبالتالي من الصعب استيراد نظام نيابي معين لتطبيقه على شعب مصر بحجة أن هذا النظام قد نجح في بلد آخر وأن شعب هذا البلد قد تقدم في ظل هذا النظام، فلكل بلد سياقه التاريخي والجغرافي الذي يحدد أطره العامة لا سيما إن كان هذا البلد بحجم مصر.
ولا شك أن ارتباط المصريين بنهر النيل وما ينتج عن ذلك من وجود علاقة ذات خصائص معينة مع أجهزة الحكم، ثم ظروف المجتمع المصري نفسه ببعض المتعلقات التي نحاول أن نقضي عليها وقد تنامت سابقًا جيلاً وراء جيل دون إيجاد حلول حاسمة لها رغم كل ما حدث من تدابير، كان السبب الرئيسي فيها هو العادات المتأصلة والعقيدة الدينية للمؤمنين بها، كل ذلك جعل لنا نموذجنا الخاص، فلم تصبح الحياة البرلمانية المصرية نظامًا توفيقيًا لنظم متعددة وأفكار مستوردة، بل أصبحت تتفق مع ما نؤمن به وقد انسجمت مع كل ما نتمناه حتى لا يصبح التشبه مجرد سراب نسعى إليه شكلاً دون أن نحقق من ورائه الأهداف العليا التي خلقت من أجله.
من هنا تتضح إطارات الفكر الديمقراطي لنا وهي ذاتية الفلسفة وتحمل تفاسير ذات مغزى بل تخضع لنقد باطني أو كما يفسره بعض الخبراء البرلمانيين بأنه سعي جاد لعدم فرض الوصاية بشكل معين على حياتنا البرلمانية، وهو ما حاربته الدولة كليًا وجزئيًا، وبالتالي فتفتح النوافذ على شتى الأفكار تحت المظلة الوطنية دن خوف ما دام ذلك سوف يساعدنا على تخطي حواجز التخلف التي تعوق تقدمنا، ذلك لأن النظم السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية دون مراعاة الظروف التاريخية أو الإطار الذاتي لمكونات المجتمع يعتبر ضياع للإنسان ونزعه من جذوره وأصالته ووضعه في خضم تيار التقدم في شكل ادعاء مظهري لن تكون له إلا نتائج سلبية وعكسية في ذات الوقت.
كانت الديمقراطية هي القضية الأولى والأساسية في برلمان ما بعد ثورة 1952 وتحديد موقف الثورة منها وموقف البرلمان أيضًا، فلقد جرى انتخاب أول رئيس لبرلمان الثورة بالتعيين كما يطلق عليه هذا التعبير أحيانًا، حيث نشرت صحيفة الأهرام اليومية خبر ترشيحه رئيسًا للمجلس ولم تشأ أن تفصح أنه تعيين من قبل الثورة، وكان ذلك في نفس يوم انعقاد أول جلسة، وحيث قد نفى بعض الأعضاء هذا بما يوحي من إيعاذ أو توجيه من الثورة، وبالرغم من أن نظام حكم الفرد بدت ملامحه قبل ذلك وكان يمكن إجهاضه أو الحد من أظافره وأنيابه ولا سيما بعد عودة الحياة النيابية، إلا أن هذا النظام الجديد قوبل من جانب البعض بالترحاب والتأييد، فسمح هذا البعض لنفسه برعايته وتشجيعه وتمجيده ومدحه وثناءه وتكريمه وتقديره دون دوافع طيبة بقدر ما كانت دوافع من الخوف والانتهازية، بل إن الجلسة الأولى قد اهتزت من التصفيق لما يقرب من ست وعشرين مرة بحسب مضبطة المجلس.
وفي ظل وجود البرلمان أصبحت الأمور فوقية وليست جانبية كما في ظل نظام تعدد التنظيمات السياسية أي الأحزاب، وطالما أن الأمور فوقية فكل ما تصبو إليه السلطة واجب النفاذ مهما كانت المواقف الجماهيرية وآرائها.
لقد عبرت الثورة عن سياساتها من خلال تعبير رئيس المجلس حينذاك حول تكريم أو تقدير رئيس الجمهورية بأن ذلك في الوقت المناسب، فكان تعبيرًا تكتيكيًا، كما أن السيد محمد أنور السادات حينها كان وكيلاً لأول برلمان وعلى ذلك فقد شارك في صياغة الحياة البرلمانية الجديدة، فكل عضو حرص على كلمة التاريخ والأجيال القادمة بل والمستقبل آنذاك.
اجتمع مجلس الأمة في تمام التاسعة صباح يوم 23 يوليو 1957 برئاسة أكبر الأعضاء سنًا وهو العضو أحمد صبحي عثمان الهرميل، وبعد حلف اليمين من جانب الأعضاء تحدث رئيس الجلسة وفق المضبطة قائلاً: (لنشرع الآن في انتخاب الرئيس -ولما كان المجلس لم يضع لائحته الداخلية بعد- فإني أعرض على السادة الأعضاء أن يجري انتخاب الرئيس على أساس الأحكام الواردة في قانون مجلس الأمة لانتخاب أعضائه وذلك بأن يكون الانتخاب سريًا وبالأغلبية المطلقة لعدد الأصوات فإذا لم يحصل أحد على هذه الأغلبية في المرة الأولى يعاد الانتخاب بالنسبة للذين نالا أكثر الأصوات عددًا، فإذا تساوى معهما واحدًا أو أكثر اشترك معهما في المرة الثانية ويكون الانتخاب في هذا الحال بالأغلبية النسبية فإذا ما تساوت الأصوات كانت الأولوية لمن تعنيه القرعة).. وقد وافق المجلس على هذا.
كان أول المتحدثين الدكتور عبدالغفار متولي وكانت البداية -حينذاك- غاضبة حيث أعلن قائلاً: إنني أرجو أن يتكرم السيد رئيس المجلس بتوجيه نظر الصحف إلى عدم سبق الحوادث فقد نشرت جريدة الأهرام الصادرة صباح اليوم نبأ انتخاب السيد عبداللطيف البغدادي رئيسًا لمجلس الأمة، وكذلك انتخاب الوكيلين بالإجماع.
وقف السيد أنور السادات حيث كان المرة الأولى التي يتحدث فيها فقال: أشكركم على هذه الثقة الغالية وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لكي نحقق لهذا البلد ما نريده له من مجد وعزه، ورفعت الجلسة الأولى لأول برلمان بعد الثورة ليعود للانعقاد بجلسة ثانية في مساء نفس اليوم للاستماع إلى بيان الافتتاح من الرئيس جمال عبدالناصر، وبعد الجلسة الأولى كانت الاتجاهات متعددة فهناك من يتحمس للثورة ولكن بأسلوب المختار أو بما يراه مناسبًا لهذه الثورة الجديدة، ومنهم من يرى حرصه عليها وترحابه بها ووضعها على الطريق الصحيح ببداية ديمقراطية وليبرالية.
اختلفت القوى السياسية في الرؤى حتى أن منهم توقف عند نقطة الوسط أو الاعتدال للم الشمل حتى تتبين الأمور وتكون أكثر وضوحًا، ومنهم من تدفق تأييدًا لها بدون دوافع حقيقية إلا إذا كانت نوازع خوف أو تملق أو نفاق، ومنهم من أراد تقديمها خطوة خطوة، كذلك رأى البعض أن الثورة تمثل عهدًا جديدا بقيم سياسية واجتماعية جديدة، وفي كل الأحوال كان الجميع مخلصين لنواياهم.
كان التنظيم السياسي الأهم هو الاتحاد القومي، الذي كان لابد أن يكون المرشح عضوًا فيه لتكون لديه رخصة الترشيحات البرلمانية، وكان قبيل ذلك بعامين قد صدر قانونًا للعزل السياسي حيث طبق على السياسيين الذين عملوا في هذا المضمار قبل الثورة، وكانت هذا الأخيرة ترى ضرورة ذلك حتى لا يتسللوا إلى البرلمان وعلى ذلك يمكنهم المشاركة في حكة البلاد كما كانوا يحكمونها من قبل، وإذا أغلقت أمامهم أبواب السلطة التنفيذية فلا يمكن أن ينفذوا إلا من خلال البرلمان، كما جرت الانتخابات في ظل دستور عام 1956 المؤقت الذي كان قد صدر قبل الانتخابات بعام واحد، والذي من مقتضاه النص على حق رئيس الجمهورية بتعيين عدد من أعضاء المجلس بحيث لا يتجاوز عشرة بالمائة، وقد حدا بهذه الانتخابات حماس كبير، ولا سيما بعد غيابها ما يقرب من خمس سنوات، وكان الجميع في ترقب حول نتائجها وكان لابد للثورة أن تدفع برجالاتها في هذه الانتخابات بصورة غير مباشرة أو بأسلوب مباشر.
أصبح بعض الضباط الأحرار أعضاء في البرلمان سواء بالانتخاب أو بالتعيين المباشر من الرئيس جمال عبدالناصر طبقا للدستور، بل وكانت هناك أيضاً مجموعة من المدنيين على صلة برجال الثورة سواء كانت صلات شخصية أو عملية، فقد دخلت الانتخابات تأييد للنظام الثوري الجديد، ومن المدنيين الذين اقتحموها إيمانًا وأملاً في هذا النظام الجديد ليجدوا مبتغاهم في التمثيل الشبابي وبداية العمل السياسي على هذا المستوى الكبير، فإذا عدنا لمجموعة الضباط الذين اشتركوا في هذه الانتخابات بناء على توجيهات الرئيس عبدالناصر بخدمتهم بالإضافة إلى حمدي عاشور وعبدالعزيز صادق والدكتور محمد عبدالقادر حاتم وغيرهم.
في الستينيات، استمر العمل النيابي على شاكلته في الخمسينيات مع بعض الأمور التي اختلفت على المستويين السياسي والبرلماني، فقد تقدم العضو محمد شحاته الزهيري باقتراح برغبته بشأن إلغاء جميع المخالفات المحررة ضد المتخلفين عن الإدلاء بأصواتهم وكان ذلك في 25 مايو 1964، وكان المقصود بذلك انتخابات مارس التي تسبق هذا التاريخ، وحيث كانت الحياة النيابية معطلة منذ فبراير 1958 حتى أوائل 1964، وأحيل هذا الاقتراح إلى لجنة الدفاع والأمن القومي برئاسة كمال الحناوي حيث عقدت جلستين لمناقشته في أوائل يونيو 1964، وقد أوصت اللجنة في تقريرها بإعفاء المتخلفين عن الإدلاء بأصواتهم في انتخابات مجلس الأمة عام 1964 بجولتيها من الغرامة التي يقع الالتزام بدفعها جزاء على عدم المشاركة في الانتخابات.
وفي أعوام الستينيات كانت هناك عدة تطورات في المشهد النيابي على المستوى التنظيمي وربما السياسي، فكان هناك تصورًا بأن يكون القيد بجداول الانتخاب إجباريًا بالنسبة للسيدات ابتداء من 18 عام، وهذا أيضا لم يلتفت إليه بشيء من المناقشة أو ما شابه ذلك، وإن كان يمكن القول في هذا أيضا إنه صعب التحقيق لعدة اعتبارات منها أن العادات والتقاليد في الريف وقتها كانت مازالت تقليدية ومحافظة لا تسمح للمرأة بالحركة في أي اتجاه داخل القرية أو المشاركة في المحافل أو المناسبات العامة، وحتى الخاصة منها كانت محدودة ومحددة، كما أن نسبة الأمية في المرأة حينها كانت تزيد عن 80 بالمائة وكان من الصعب أن تختار المرأة مرشحها إلا ما يشير به أو يختاره الزوج وعلى ذلك ففي هذه الحالة فإن إرادتها منعدمة.
أما في أوائل السبعينيات فقد جرت أول انتخابات بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر في سنة 1971، ولكن قبيل ذلك وضع الدستور الدائم لمصر لأول مرة، وكانت هناك لجنة تحضيرية لهذا، حيث تفرع عنها لجان متعددة لمناقشة وبحث ووضع النصوص الدستورية لكل مجال، وكان موضوع الانتخابات محل اهتمام لجنة الإدارة المحلية والقوانين الأساسية برئاسة حسن طلبة مرزوق، ووكالة الدكتور سليمان الطحاوي والدكتور ثروت بدوي وكلاهما من رجال القانون، وفي هذا المجال ومن خلال محاضر اجتماعات هذه اللجنة وبحثها لهذا الموضوع الأساسي والمهم، سنكتشف أمورا غاية في الأهمية والحيوية بالنسبة للحياة النيابية المصرية، فابتداء قد بحث موضوع مباشرة الحقوق السياسية والحرمان منها، وكانت هناك كلمة للدكتور ثروت بدوي تبرز ما كان يدور في الأذهان والنوايا في هذه الآونة، حيث كانت هناك روح طموحة للحرية والديمقراطية عقب يوم 14 مايو 1971 والتي سميت حركة تصحيح أو ثورة مايو.
وفي فترة السبعينيات كانت هناك تطلعات لتحسين أو تطوير التمثيل الشعبي في البرلمان، كما أن فكرة تطوير النظام السياسي سادت فيه لاسيما غياب الأحزاب وسيطرة الحزب الواحد أي الاتحاد الاشتراكي العربي، والذي رأت اللجنة أنه كان أرضًا خصبة لتكوين مراكز القوى وأيضًا في انتشار الأمية الغالبة، وقد اقترحت حينها هيئة المكتب باللجنة إلى طرح أو عرض فكرة جديدة من أجل هذه الاعتبارات، فقد أعلن الدكتور سليمان الطحاوي بأن هيئة المكتب تناقشت في مدى ملائمة إقرار نوع من الترشيح الجماعي مع الاحتفاظ بالترشيحات الفردية، ذلك حيث توجد أحزاب، فالأحزاب هي التي تقدم مرشحيها ويُجري الانتخاب على أساس برامج الأحزاب، ولما كانت الأحزاب ممنوعة لفترة فإن هيئة المكتب تطرح للمناقشة مدى ملائمة تمكين المنظمات الشعبية كالنقابات والجمعيات من التقدم بمرشح لها حتى يختار الناخبين الشخص المناسب لتمثيلهم.
وفي سياق التعددية السياسية ارتفعت الأصوات بأن ضمان الكيان السياسي للدولة لا يكون إلا باشتراك كل أفراد الدولة فيه، فلا يجب أن ينفرد شخص من الأشخاص به سواء أكان رئيس البلاد أو أحد الوزراء أو المدعي العام الاشتراكي، فلا يحق أن تترك لأحد سلطة تقرير إخلال شخص بالكيان السياسي دون أن تقوم دلائل ثابتة وأكيدة ضد هذا الشخص تؤدي إلى الحكم عليه، فكان من الضرورة أن يكون الحرمان من مباشرة الحقوق السياسية بحكم قضائي صادر من جهة قضائية محضة، فلا يمكن الاعتداد بالنصوص الدستورية المتعلقة بالحريات ما لم يكن حق التقاضي مكفولاً أمام جهة قضائية محايدة مستقلة ومتمتعة بكل الضمانات التي تكفل للقضاء ممارسة عمله دون مراعاة أو مجاملة للسلطة، كان ذلك بمناسبة ورود نص بالقانون رقم 73 لسنة 1956 والخاص بمباشرة الحقوق السياسية والذي كان يحرم مباشرة الحقوق السياسية على المحرومين من الحقوق السياسية أو المدنية مما كان يترتب عليه أن هذا الحرمان بقرار سياسي إلا أن هيئة مكتب اللجنة قررت عكس ذلك أي الحرمان بقرار قضائي فقط ثقة في القضاء المصري النزيه والمستقل والذي أصبح فيما بعد وإلى الآن هو الضامن الأهم لنزاهة العملية الانتخابية.