مرت 100 عام الآن على وفاة الزعيم الثوري الروسي فلاديمير إيليتش أوليانوف (1870-1924)، المعروف باسم لينين، ورغم ذلك ما يزال جثمانه المحنط يرقد في حلة فاخرة داخل صندوق زجاجي مسلطا عليه ضوء خافت بالضريح الكائن في الساحة الحمراء بموسكو. ولا يزال الراحل الذي أسس نظاما عالميا جديدا يشكل نقطة جذب سياحي في العاصمة الروسية حتى بعد عقود من انهيار الاتحاد السوفيتي الذي أسسه. وبالزهور والأكاليل يحيي شيوعيو روسيا الذكرى المئوية لوفاة لينين غدا الأحد (21 يناير).
يتدفق ضيوف من جميع أنحاء العالم، رجالا ونساء وأطفالا وأزواجا وفصولا مدرسية بأكملها، إلى الضريح الضخم الذي يحرسه أفراد مدججون بالسلاح تابعون لقوات حرس الكرملين. يأتي الزوار لرؤية مومياء الرجل الذي أسس أول دولة شيوعية في العالم-دولة العمال والفلاحين-عقب خمس سنوات من اندلاع ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917.
تقول امرأة تبلغ من العمر 56 عاما ردا على سؤال حول سبب تواجدها في الضريح: “لينين، إنه رمز لتاريخنا”. تسير المرأة رفقة صديقتها بجوار جدار الكرملين في مناخ شتوي يخيم عليه السكون، وتتفقد أولا اللوحات والنصب التذكارية لكبار ساسة البلاد الذين وافتهم المنية، ثم تدخل إلى الضريح.
ما يمكن رؤيته هو رأس لينين ووجهه-بلون بشرة نابض بالحياة-ويديه. يعيد هذا المظهر إلى الأذهان الدمى المصنوعة من الورق المعجن. “لا يُسمَح بالتوقف هنا”، هكذا يهمس رجل يرتدي زيا رسميا من الخلف، فالتحديق في الجثمان غير مسموح به، ما يعني أنه يجب على الزائرين مغادرة القاعة التي تأوي أشهر جثمان في روسيا بسرعة.
ويرغب كثيرون في إلقاء نظرة متعمقة على شكل الجثمان، الذي يعتبر الكرملين وصفة تحنيطه التي تكلف الملايين سرا من أسرار الدولة.
يذكر أنه كل عامين تقريبا يوضع جثمان لينين في خليط بحوض بمعهد الأبحاث الروسي للنباتات الطبية والعطرية، أو يُجرى حقن أجزاء منه بمواد حافظة، حسبما ذكرت وسائل إعلام روسية. تهيمن السرية على وصفة المستحضر المفترض أنه عديم اللون والرائحة وغير سام، لكن يتردد أيضا أنه تم استخدام الفورمالين والبوتاسيوم والجلسرين في عمليات التحنيط الأولى. وبالنسبة لمخ لينين فقد تم حفظه بشكل منفصل.
يمكن رؤية أول حوض جرت فيه عملية التحنيط في مكان وفاة لينين بمنطقة جوركي لينينسكي، على بعد أقل من ساعة بالسيارة من موسكو.
كان لينين يتوارى عن الأنظار في الماضي في تلك المنطقة الريفية الشاعرية التي تضم حديقة واسعة وفيلات تعود إلى العصر القيصري. ومن هناك على وجه الخصوص كان يقود لينين الإمبراطورية الضخمة التي أضعفتها الحرب الأهلية والإرهاب الأحمر الذي مارسه البلاشفة. وفي مبنى يشبه القصر، الذي حوله الثوار إلى مصحة، توفي لينين على سرير غرفته الصغيرة.
في تلك الغرفة يوجد قناع موت لينين داخل صندوق زجاجي. وبخلاف ذلك، فإن كل شيء في الغرفة كما كان وقت الوفاة، كما توضح مرشدة المبنى الذي تحول إلى متحف. جميع الساعات في المبنى، الذي كانت تسكنه عائلة ثرية قبل الثورة، تشير إلى 6:50 مساء. بحسب بيانات المتحف، أصيب لينين بسكتة دماغية، لكن سبب وفاته في عمر مبكر ناهز 53 عاما لم يتضح بشكل تام. رسميا يعتبر تكلس الدماغ والعواقب طويلة المدى لهجوم تعرض له لينين أيضا من الأسباب المحتملة لوفاته. وكان لينين نجا في 30 غشت 1918 من محاولة اغتيال قامت بها الناشطة الفوضوية فاني كابلان.
لم يأت كثير من الزوار إلى هذا الموقع الضخم من أجل إحياء ذكرى لينين، بل لأنهم يريدون في الواقع تكوين صورة عما كانت عليه الحياة في روسيا خلال العصر القيصري، وهو توجه رائج الآن. تقول مرشدة المتحف الشابة: “ربما دمر لينين النظام القديم، لكنه كان يُثّمِن كثيرا محتويات الموقع ولوحاته وأثاثه وحافظ عليها كجزء من التاريخ”. وردا على سؤال أحد الزوار، أعربت المرشدة عن تأييدها لدفن جثمان لينين، وقالت: “يجب أن يجد راحته الأخيرة”.
تدور منذ سنوات جدالات حول دفن لينين. وبحسب استطلاعات للرأي، فإن غالبية الروس يريدون ذلك. كما تطالب الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بهذا أيضا. في وقت سابق قال السياسي البارز فلاديمير ميدينسكي، الذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع الكنيسة والرئيس الروسي فلاديمير بوتين: “ما نراه في الساحة الحمراء عبارة عن دعوة وثنية غبية في حب الجثامين. الخبراء يعلمون أن 10% فقط من الجثمان محفوظ”.
أحد تناقضات التأريخ الروسي في عهد ميدنسكي، المسؤول عن الكتب المدرسية، هو أن بوتين نفسه يحتقر الثورات وقادتها أمثال لينين. كما ألقى بوتين باللوم على الزعيم السابق للحركة العمالية الدولية في تدمير الإمبراطورية الروسية. ومع ذلك لا تزال ذكرى لينين حاضرة في كل مكان حتى في عهد بوتين، فهناك العديد من المعالم الأثرية الضخمة للينين في موسكو وحدها، كما يحمل مترو أنفاق العاصمة الذي يحظى بشهرة عالمية اسم لينين.
علاوة على ذلك، قال بوتين ذات مرة: “فيما يتعلق بالجسد، فإنه لا ينبغي المساس به، في رأيي”. وأكد رئيس الكرملين أنه لا يزال هناك الكثير من الناس في روسيا الذين يربطون جزءا كبيرا من حياتهم بلينين إلى جانب “بعض إنجازات الماضي، إنجازات الاتحاد السوفيتي”، موضحا أنه طالما أن الوضع لا يزال على هذا النحو، فلا ينبغي أن يتغير شيء في تبجيل لينين.
يشير على وجه الخصوص مؤرخون غربيون مرارا إلى أن لينين الشيوعي يعتبر مؤسس الإرهاب الأحمر، فقد قالت المؤرخة المعنية بتاريخ شرق أوروبا الأستاذة في جامعة هايدلبرغ الألمانية، تانيا بينتر، في تصريحات صحفية: “لقد بدأ لينين في ذلك الحين نقطة تحول مع التجربة الاشتراكية. وقد كان أيضا ممهدا بوضوح لطريق الإرهاب والعنف لخليفته ستالين… كان لينين مُجدِدا راديكاليا يؤمن بتعصب بصحة قضيته… وكان طاغية فرض أهدافه بلا رحمة رغم كل المقاومة”.
ومنذ فترة طويلة، هُدمَت نصب تذكارية للينين في العديد من الجمهوريات السوفيتية السابقة، بما في ذلك أوكرانيا، التي يخوض بوتين حربا ضدها حاليا. لكن حدوث ذلك غير وارد في روسيا. وفي عهد بوتين أصبح هناك رواج لرموز عهد الإرهاب، مثل التبجيل البالغ لخليفة لينين، جوزيف ستالين. وترى وسائل الإعلام في موسكو أيضا مستقبلا مشرقا لجثمان لينين، حيث كتبت بوابة “news.ru” الإخبارية مؤخرا أن ضريح لينين يعد منطقة جذب سياحي مثل برج إيفل في باريس أو الكولوسيوم في روما، مضيفة أن لينين الثوري، الذي كان الغرب يخشاه ذات يوم، أصبح الآن جزءا من التراث الثقافي الروسي.