رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


معرض القاهرة للكتاب.. عبق الذكريات

5-2-2024 | 14:17


محمود قنديل

مَعْرِض القاهرة الدولي للكتاب عُرسٌ ثقافي كبير، يلفت أنظار المهتمين بالثقافة إليه من كل مكان، ويجذب إلى فعالياته - التي تقام شتاء كل عام – أعدادًا كبيرة من الجمهور والأدباء والنقاد والمفكرين، ليضفي على الأجواء دفئًا مستساغًا؛ يروق متذوقي الكلمة على مختلف توجهاتهم واتجاهاتهم.
في عام 1983 كانت المرة الأولى التي أرتاد فيها المعرض بأرض الجزيرة (دار الأوبرا حاليًا)، شاهدتُ الكثير من معروضات دور النشر المختلفة، لاحظتُ وجودَ كُتُبٍ بأسعار مخفَّضة، رُحتُ أبتاع الكِتَاب تِلْو الآخر، فما كان بجيبي هو تحويشة عامٍ كامل، حتى صارت بيدي كرتونتان ثقيلتان، أذكر أنني كنت مهتمًا آنذاك بالأدب وعلم النفس والسياسة، فقد ضمت المشتريات أسفارًا لنجيب محفوظ، وسيجموند فرويد، وكارل ماركس.
ولم يغب عني شراء بعض إصدارات د. مصطفى محمود الذي كانت كتبه الأكثر مبيعًا خلال تلك الفترة؛ ذلك أن الرجل قد أثار جدلًا كبيرًا على الساحة الفكرية (مصريًا وعربيًا)، بمواقفه المناوئة لليساريين وجماعات الإسلام السياسي، ودخوله في معارك فكرية جذبت قطاعًا عريضًا من الشباب الحائر بين تباين الرؤى واختلاف الأفكار.
لا أنسى – في هذا الصدد – اقتنائي لعدة كتب كـ الماركسية والإسلام، وأكذوبة اليسار الإسلامي، ورحلتي من الشك إلى الإيمان، وحوار مع صديقي الملحد، ورواية العنكبوت، وغيرهم.
وتوالت زياراتي للمعرض كل عام، فيتوالى شرائي لكُتُبٍ تروقني وتثري ثقافتي، وقبل مجيء المعرض القادم أكون قد انتهيت من قراءة كل مابحوزتي من المعرض السابق، بجانب قراءاتي لكتب حصلتُ عليها من باعة الصحف والمجلات بمدينتي الأثرية والأثيرة "بنها" عاصمة إقليم القليوبية.
في عام 1984 كان كتاب "الفريضة الغائبة" لدكتور محمد عمارة متصدرًا لاهتمامات زوَّار المعرض، فقد كان دكتور عمارة يناقش ما ورد في كتاب محمد عبدالسلام فرج (المتهم الأول في قضية اغتيال الرئيس السادات)، والذي يحمل نفس العنوان، وراح عمارة يفند فكر فرج الذي خرج من أفكار سيد قطب العنكبوتية، وهي أفكار تدعو إلى التشظي والتشرذم والانقسام، ذلك أنها تحرض على الاقتتال بين أبناء الوطن الواحد تحت شعار "الحاكمية لله" مكفِّرين كل من يختلف معهم، ومبيحين سفك دم الحاكم بحجة أنه لا يطبق – بحسب تصورهم – شرع الله.
كنتُ أقرأ الكتاب وأسأل نفسي: ماذا لو عاصر هؤلاء عصر الأمير عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)؟، وماذا سيكون موقفهم منه عندما قام بإيقاف حدٍ من حدود الله (السرقة) في عام الرمادة (المجاعة)، وكانت إيجابتي أنهم سوف يسعون – بالتأكيد – إلى تكفيره وقتله.
ولأني من المولعين بكتابات محمد حسنين هيكل (الأستاذ) فقد رأيت اقتناء بعضها خلال سنواتٍ لاحقة، فاقتنيت خريف الغضب، ومدافع آية الله، ولمصر لا لبعبد الناصر، وحرب الثلاثين سنة.
كانت لهيكل قدرة على التفسير والتحليل والتنبؤ لا يجاريه أحدٌ فيها، وكانت لُغته الساحرة هي البطل في جميع كتاباته.
لا يفوتني أن أقول أن المعرض بتعدد أمكنته (أرض الجزيرة، مدينة نصر، التجمع الخامس) يُعَد فرصةً ذهبية، حيث تتوافر فيه ما يحتاجه الزائر من إصدارات؛ في مختلف الآداب والعلوم والمعارف بتخفيضات كبيرة تشجع على الشراء.
رأيتُ عبر سنواتٍ طويلة عائلاتٍ ترتاد المعرض بصحبة أطفالها وأولادها وبناتها، فكُتُب الأطفال المشوِّقة تملأ الكثير من صالات العرض، بجانب عرض بعض الألعاب المفيدة لهؤلاء الصغار.
ويأتي عام 2006، لأحضر بعض حفلات النقاش لجديد الإصدارات، وهي حفلات – في حقيقة الأمر – شديدة الثراء بأطروحاتها التي تُسْهِم في فتح أروقة العقل لمزيد من الأفكار والكثير من الرؤى، وكان يتصدر اهتمامي المناقشات الأدبية حول الروايات والمجموعات القصصية والشعرية، فالنقد بالنسبة لي عالمٌ لا يقل أهمية عن النصوص الإبداعية، بل هو إبداع موازٍ لما يتناوله، الأمر الذي جعلني – في ما بعد – أمارس النقد من خلال لغةٍ تحفل بالصورة وتحتفي بجماليات اللغة.
مَعْرِض الكتاب فرصةٌ أيضًا - كل سنة - لسهولة التواصل مع الأصدقاء من كافة المحافظات والدول العربية، فخلال الزيارة تكون الللقاءات المفعمة بروح الود، خاصةً في ظل مواقع التواصل الاجتماعي التي ضيَّقت المسافات، وأتاحت للجميع التواصل بسهولة ويسر، ودون تكلفة كبيرة؛ هذه المواقع أسهمت كذلك في الترويج للمعرض والدعاية له، فالكُتَّاب يعلنون على صفحاتهم الأعمال المشاركة في، وأماكن عرضها، وهو ما يعني التيسير إلى المؤلفات المبتغاة دون مشقة.
من الصعب نسيان دعوة ناقد عراقي كبير لنقاش ثقافي ثري حول المجلات العربية بحضور قامات من أقاليمنا المصرية وبقاعنا العربية، وقد اتسم النقاش بالموضوعية، برصده لمساحات الإيجابية وموَاطِن السلبية في تلك الإصدرات، بعدها لا حظنا تعديل بعض المجلات من مواقفها لتعانق الإيجابي وتلفظ السلبي.
من الجميل أن نرى الدور الكبير الذي تقوم به المؤسسة الثقافية في مصر؛ متمثلة في الهيئة المصرية العامة للكتاب المنوط بها تنظيم المعرض كل سنة من الألف إلى الياء، وتوفيرها لمناخ يلائم كل الزوار وينسجم معهم، ونثمِّن – في هذا الخصوص – مئات العناوين الجديدة التي تتصدر المعرض كل عام، لأدباء من مختلف الأعمار، وكبار النقاد والمفكرين، وكتب للأطفال تناسب كل أطوار الطفولة، وأخرى في الترجمة من شتَّى اللغات إلى لغتنا الجميلة (لغة الضاد).
لا يمكن – هنا – أن أخفي فرحتي وأنا أشاهد بعضًا من مؤلفاتي على أرفف بعض دور النشر، وعلى رأسها هيئة الكتاب التي طبعت لي أربعة كتب بين رواية ومجموعات قصصية، بجانب دار الهلال (أعرق المؤسسات الصحفية بمصر) بإصدارها الطبعة الثانية من روايتي "النفق".
من المبهج تمامًا أن يرى المؤلف كتبه في المعرض تباع، والأكثر بهجة أن يشاهد زائرًا لا يعرفه يبتاع أحد مؤلفاته، تلك فرحة لا تعادلها فرحة.
في العام الماضي (2023) كان لي حظ المشاركة في مناقشة رواية "لا أحد يعرف لون عينيها" للأديب الشاب يسري عبدالسلام صبري، وشاركني في النقاش الناقدة د. منى حسين (المدير بقطاع الأخبار بالهيئة الوطنية للإعلام)، وأدار اللقاء القاص محمد أبو الدهب؛ هذا الحفل كان بأحد أجنحة المعرض، وأشهد بأن هيئة الكتاب بذلت مجهودًا كبيرًا في تهيئة المناخ لمثل هذه النقاشات، فكان المكان جميلًا ونظيفًا، وصوت السمَّاعات جيدًا، إلا أننا كنا نطمح إلى تغطية صحفية تشمل هذا النقاش وكل النقاشات الأخرى حتى تَعُم الفائدة.
أعتقد أن معرض القاهرة الدولي للكتاب كان ومازال وسيظل صامدًا أمام محاولات البعض إضعاف دوره  بُغْيَة اجتثاث الجذور واقتلاع الهُوية، وهو الأمر الذي تجابهه الدولة ولا تسمح به، فالثقافة – في كل عصر – هي معيار التقدم والازدهار لدى كافة الشعوب والأمم.