رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


معرض القاهرة للكتاب صديق عمر المصريين الذي هزم الطبقية

5-2-2024 | 14:19


د. محمد أبو السعود الخياري

د. محمد أبو السعود الخياري

 تتميز الأمم بأمرين: برجالها يقفون بقاماتهم الشامخة حتى تلامس رؤوسهم سماءها تحرسها وتحميها من التهاوي والهوان؛ وقيمها تعيش بقلوب نابضة وأنفاس حارة تسري في أرواح الأجيال فتعيش عزيزة غير خاضعة ولا منكسرة.

  الرجال والقيم معا تركوا لنا هذا الاختراع العظيم – معرض الكتاب – في العام 1969م بمناسبة الاحتفال بألفية قاهرة المعز.

    سيظل معرض القاهرة بتطوره المطرد عاما بعد عام ورسالته الفخمة العظيمة وروحه الديمقراطية العجيبة، سيظل رصيدا مفتوحا وشيكا على بياض يصب في رصيد الدكتور ثروت عكاشة صاحب الفكرة والمؤسس لذلك المحفل النادر بين أنشطة الناس في بر مصر.

   انقسمت حياة المصريين الثقافية من مواليد القرن العشرين إلى نوعين في علاقتهم بالثقافة؛ عاش الناس عقودا من الزمن في حجرات وقاعات مغلقة وهواء مكتوم يلتقون خلاله بشاعر يلقي قصيدته ليبادلوا شعره وإلقاءه بالتصفيق، أو يحضرون جلسة (صالون) أحد المفكرين في حيز أضيق مما سبق مع الشاعر وفي إطار من الاستماع الوديع، وربما اتسع الأمر قليلا وتنسم الجمع الهواء على رصيف مقهى. كل ذلك عاشه المهتمون بالثقافة فيما سبق 1969.. بضاعة الثقافة شحيحة وناضبة وبلا أسواق، لا يعرف المنتجون أين يقفون ببضاعتهم ويذرع الزبائن الأرصفة والمقاهي والمكتبات ومحطات القطار بحثا عن كيفهم الثقافي غير المتوفر.

  ويمكن القول إن المصريين من مواليد الأربعينيات والخمسينيات وما بعدها كانوا أسعد حظا؛ إذ أدركوا سوق الثقافة في شبابهم فاكتسبوا صديقا صار مع السنوات صديق العمر شديد الإخلاص والوفاء والتفاني –معرض القاهرة للكتاب– يستعصي بابه على الانغلاق في وجه أي مصري: الأطفال الصغار والفتيان والشباب والفتيات؛ خريجي الكتاتيب ومنتسبي الليسيه وفيكتوريا كولدج؛ مشايخ الأزهر الشريف وخريجي الجامعة الأمريكية؛ السلفيون والشيوعيون؛ صناع النشر الإلكتروني وصناع النشر الورقي وصناع ساندوتشات الشاورما الشهية. يأبي المعرض إلا أن يفتح أبوابه للجميع.

  يرتاد المصريون معرض الكتاب متعلقين بذيل أمهاتهم بحثا عن هدية جميلة من مجلدات ميكي تسحر خيالهم ويعيشون معها فوق سحاب المتعة، ثم يتركون ذيل الأم ويحضرون مرة أخرى في حافلة المدرسة مع زملاء الدراسة ومشرفي الرحلة المدرسية فيضحون بالمصروف من أجل اقتناء أعداد إضافية من رجل المستحيل والمغامرون الخمسة، ثم تضيق بهم حافلة المدرسة ولا يرون استحالة فيم يفعله أدهم صبري فيأتون مع زملاء الجامعة بطرقهم الخاصة؛ لا يكتفون هذه المرة بالشراء بل يحضرون الندوات وحفلات التوقيع ولا ينصرفون من أروقة المعرض حتى يطردهم العاملون فيه منتصف الليل... ويغيبون عن المعرض فترة ثم يظهرون في أروقته من جديد في مظهر مغاير تجاورهم زوجة وربما يتبعهم أطفال يحسبون الميزانية بدقة شديدة؛ ويوزعونها بين كتب الطهي والتنمية البشرية والروايات ويعودون الكرة بأمر من الصغار لمجلدات ميكي وسمير من جديد.. يحضرون للمعرض مبكرين وينصرفون مبكرين قبل الزحام. ويمر الزمان على المصريين والمعرض يجذبهم ويغريهم في كل سن وكل مرحلة وكل حال؛ فها هم أنفسهم يحضرون بصحبة أحفادهم هذه المرة مفضلين الجلوس على المقهى الثقافي في مجموعة من الكراسي الخلفية يتمكنون من خلالها من رؤية أوضح لحالهم وحال مصر وحالة المثقفين.  

  عاش معرض الكتاب عبر سنواته التي عبرت الخمسين بخمس سنوات زاهيا رغم انتمائه لبيروقراطية وزارة الثقافة؛ ساخنا رغم إدارته من قبل موظفين عموميين؛ متنوعا رغم سيطرة (شلة القاهرة) على مقدراته والتعامل مع المثقفين في ربوع مصر على أنهم ضيوف؛ لا أصحاب بيت.

المناظرة الأشد خلافا وسعتها ديمقراطية المعرض

  لم تسع الجامعات التباين الكبير في الرأي ووسعه معرض الكتاب؛ وتظل المناظرة الشهيرة للغاية التي أدارها د.سمير سرحان بين الدولة الدينية والدولة المدنية تظل شاهدة على الأفق الممتد والسقف البعيد لما يمكن أن يقدمه معرض القاهرة للكتاب من إلهام وفرص للعقل المصري؛ طالما راعى منظموه الحياد والعدل والنزاهة.

  ولعل تفاصيل هذه المناظرة بوصفها مثالا لحرية الرأي وقبول الآخر واتساع المعرض لقبول ما لا يمكن قبوله بالجامعات أو النوادي أو البرلمانات أو المقاهي أوالشوارع... توسط سمير سرحان منصة عريضة وثقيلة وساخنة جدا، طرفاها المشرق والمغرب.

    أقيمت المناظرة الملهمة في معرض القاهرة في الأول من يونيو 1992، وفي مقره القديم في أرض المعارض بمدينة نصر، وشهدت منصة ربما الأكثر حدة وندية وحضورا في تاريخ المناظرات الفكرية العربية. منصة شهدت زحاما من الدعاة والمفكرين البارزين يمينا ويسارا ربما كان أحدهم -وحده- كافيا لإنجاح برنامج ثقافي لمعرض بكامله. كان الشيخ محمد الغزالي والمستشار الهضيبي، ود.محمد عمارة في ناحية، ود.محمد أحمد خلف الله ود.فرج فودة في الناحية الأخرى؛ وشهدت المناظرة سقوط حواجز الرقابة، ولم يكن هناك مسكوت عنه على الإطلاق، وشعر الحاضرون أن هناك من المتعة الفكرية والقوة المعرفية لا توجد سوى في معرض الكتاب.

من معرض بيت العيلة إلى معرض الكومبوند

   قرابة الخمسين عاما قضاها معرض الكتاب في موقعين بأرض الجزيرة –مكان دار الأوبرا الحالية– حتى العام 1982 لينتقل إلى  أرض المعارض بمدينة نصر؛ قريبا من الناس في الجغرافيا وبساطة التنظيم ورائحة الشوارع والحارات والمقاهي البسيطة وخيام القماش المنصوبة فوق التراب؛ ثم في العام 2019 وبينما المعرض يحتفل باليوبيل الذهبي  انتقل المعرض كما معظم مصر نحو القاهرة الجديدة في منطقة التجمع الخامس؛ ليصبح المعرض الجديد أكثر أناقة وأقل ونسا، أكثر تنظيما وأقل ألفة. بيد أن المصريين كعادتهم، يألفون الشيء إذا اعتادوه، فقد تبدل الحال بعد سنوات قليلة ليتحول الاعتراض والتربص بمعرض التجمع إلى إشادة بالحضارة والتطور اللائقين بمصر.

أهداف حسام حسن في معرض الكتاب

كان معرض الكتاب في العام 1998 متزامنا مع بطولة كأس الأمم الإفريقية المقامة في بوركينا فاسو والتي قاد فيها المدرب الكبير محمود الجوهري المنتخب المصري؛ مصدرا للجمهور المصري صعوبة البطولة وابتعاد مصر عن الترشح للبطولة مبالغا في ذلك بقوله إننا ربما نحصد المركز الثاني عشر؛ وفجأة ذهل الناس في أمسيات معرض الكتاب الباردة بتخطي المنتخب المصري الحواجز تباعا حتى الفوز في المباراة النهائية على منتخب جنوب إفريقيا... أضفت المباريات التي تابعها الناس في ليالي المعرض طعما جديدا على رواد القراءة، وكان من المعتاد أن تسمع صيحات عالية ترج أرجاء المعرض فجأة (جووووول) بينما يتحدث أحدهم في ندوة أو تلقي إحداهن قصيدة؛ فكانت تتوقف الفعاليات لمتابعة أهداف حسام حسن (هداف البطولة) عبر تلفاز صغير بالمقهى الثقافي.

من وسط الجماهير الغفيرة إلى منصة التتويج

محبو القراءة مبتلين بها تأسرهم وتلبهم أفئدتهم ونقودهم، وتملأ عليهم الحياة؛ وكما العادة من أحب الكتاب أحب الحياة وأحبته الحياة. وقد واظبت سنوات طوال على حضور معرض الكتاب منذ المرحلة الإعدادية أواسط ثمانينيات القرن الماضي؛ نحضر الندوات ونطوف على كل الأجنحة ونقف طويلا عند سور الأزبكية.

  لم أحلم يوما أن أكون متحدثا في معرض الكتاب؛ فنحن من أولئك الفلاحين الذين يأتون القاهرة مع الصباح ثم يهرولون مع حلول المغرب ليدكوا القطار إلى محافظاتهم البعيدة؛ وقد تأكد لنا مع الوقت والأحداث والليل والنهار أن المعرض وأنشطته قاهري لأهل القاهرة؛ والفلاحون والصعايدة بل وأهل الإسكندرية يأتون ليجلسوا في مقاعد المتفرجين ويشاركوا بالتصفيق وربما بعمل مداخلة تثري النقاش. معرض القاهرة للقاهريين هذه حقيقة لا مهرب منها، ومهما أفلت فرد من الأقاليم فإن القاعدة ستظل قاهرية المعرض.

  غير أن العام 2020 قد حمل بشرى خير حينما هاتفني أحدهم يبشرني بفوز كتابي (اتجاهات السرد في الرواية المصرية المعاصرة) بجائزة أفضل كتاب في النقد الأدبي للعام؛ وأبلغت بأن حفل توزيع الجوائز سيكون يوم الجمعة ثاني أيام المعرض، ولم يكن ذلك معتادا؛ فقد دأب منظمو المعرض على جعل حفل جوائز المعرض في نهايته؛ وهو ما جعلني أشعر بالتوتر؛ فلربما كان الخبر غير صحيح أو غير دقيق، لكنني قطعت الشك باليقين وكنت في المعرض في الموعد المحدد؛ وعبر الهاتف مع الموظف المسؤول طلب مني الحضور إلى مكان التجمع لدى رئيس هيئة الكتاب.

  كانت فرصة لألتقي ببعض مشاهير الكتاب من لجان التحكيم ومسؤولي المعرض؛ وبالفعل ذهبت لمصافحة الدكتور محمد المنسي قنديل لأذكره بلقاء تم بيننا خارج مصر منذ سنوات ليقاطعني بابتسامة: من سنوات؟! أنا لا أتذكر ماذا أكلت أمس. لا بأس... فالحياة مشاغل. ثم دخلت مكتب رئيس هيئة الكتاب د. هيثم الحاج لأعرفه بنفسي... فوجدته مشغولا وبدا من مكالمة هاتفية يجريها أن هناك حالة وفاة لقريب لديه. خرجت من مكتبه بعدما عرفته بنفسي وأنني الفائز بجائزة النقد فهنأني في آلية.

  صعدت لاستلام الجائزة من عضوي لجنة التحكيم الراحل الدكتور السيد فضل والناقدة اعتدال عثمان وكنت أقابلهما لأول مرة ومعهما رئيس هيئة الكتاب، وغاب عن الحفل رئيس اللجنة الدكتور أحمد درويش.

 تلقفني صحفي شاب ذو لكنة صعيدية ليطلب مني إجراء حوار لصحيفة الدستور وطلب رقم الهاتف ليجري الحوار معي هاتفيا بعد ساعة. غادرت المعرض مبكرا وكلمني الصحفي إيهاب مصطفى حسب الاتفاق وقلت له أشكر لجنة التحكيم التي لا يعرفني فيها أحد و أهدي الجائزة لأمي عليها رحمة الله.

 في الصباح وجدت حوارا جماعيا مع الفائزين بجوائز معرض الكتاب على صفحات الدستور وقد وضعني المحرر على رأس الفائزين على ما فيهم من أسماء كبيرة مثل الأستاذين محمد جبريل والراحل محمد أبو العلا السلاموني.

 احتفل بي إخوتي وأصدقائي في المنصورة وفي الخيارية مسقط رأسي. حرص إخوتي وأصدقائي على التقاط الصور التذكارية معي ومع الكتاب ومع درع الجائزة التي تحمل صورة الكاتب القرفصاء. وكنت في كل ذلك أهتف كم أشقتنا الثقافة وكم أسعدتنا أيضا!