معرض الكتاب| «عاصرته قارئا ثم صحفيا وكاتبًا».. صحبة عمر موازي في متعة الشغف بالكتاب
- علاقتي بالمعرض توثقت بشكل كبير منذ انتقالي للقاهرة للعمل بها في الصحافة، حيث أمكن لي أن أزور المعرض يوميا وعلى مدى فترة المعرض كاملة
- كانت المكتبة بالنسبة لي دائما هي مساحة العرض والاكتشاف والتعرف على كتب جديدة، وكان علي أن أكتشف بنفسي وأتعرف على الجديد بخبرتي الشخصية
- أجد صلة عمرية بيني وبين معرض الكتاب، وكل دورة جديدة من المعرض كانت تشعرني بأنني أعيش عيد ميلاد جديد، رغم أن مولدي لا يواكب شهر إقامة المعرض
لعل زيارتي الأولى لمعرض القاهرة الدولي للكتاب صادفت العام 1982، أو ربما العام 1983 لأنها واكبت إقامته لآخر مرة في مقره القديم في أرض الجزيرة، أو أرض دار الأوبرا حاليا. اصطحبني أبي إليه في أثناء زيارة لنا للقاهرة، ففتح عيني على عالم مبهر لصبي مولع بالقراءة في أولى سنوات عودتنا لمصر لفترة بعد أن قضيت سنوات الطفولة بين دبي ومسقط ورأس الخيمة.
أحاول أن أتذكر الكتب التي اقتنيتها من المعرض في ذلك العام ولا تسعفني الذاكرة إلا بكتاب لخالد محمد خالد وآخر لعباس العقاد أظنه كان كتاب من وحي القلم، لكني أذكر بشكل واضح جدا بعض الكتب التي اقتناها والدي في هذه الزيارة، والتي تسللتُ لاحقا للسطو عليها وقراءتها وأذكر من بينها ثلاثة هي مجموعة الجدار لجان بول سارتر، ورواية أخرى لسومرست موم، والثالث كتاب لهيمنغواي أظنه "سوف تشرق الشمس" إن لم تخني الذاكرة.
فتحت لي هذه الروايات الثلاث عالما جديدا حول الأدب العالمي، وبابا لمرحلة جديدة في قراءاتي التي كنت أتحول بها من الصبا إلى المراهقة، وكشفت لي عالما سرديا حديثا يمزج بين علم النفس والسرد كما في كتاب سارتر، الذي أظنه واحدا من أبرز الكتب تأثيرا في وعيي بالسرد حتى اليوم، أو عوالم الأدب الأمريكي لدى سومرست موم وإرنيست هيمنغواي، وألهبت حماسي وشغفي لكي تغدو زيارة معرض الكتاب سنويا جزءا من أولوياتي.
وفي العام اللاحق كانت زيارتي منفردا للمعرض بعد انتقاله لأول مرة إلى أرض المعارض في صلاح سالم، حيث تبينت أن المتعة التي يوفرها المعرض لا تتحقق أو تتمثل في التنقل بين أجنحة دور النشر المصرية والعربية والاطلاع على كل هذه الكتب، فقط، بل وفيما يوفره المعرض من أجواء مفعمة بالغبطة وبالبهجة.
فما أن تطأ قدماي أرض المعارض بعد الدخول من البوابة حتى أشعر أنني وصلت إلى مهرجان احتفالي كل ما فيه يسبب السعادة والغبطة. بشر من كل فئات المجتمع، وزحام، وموسيقى لا تعرف من أين تأتي، وأكياس محملة بالكتب، وعلى الرفوف كنت أمضي ساعات اليوم لأتأمل بدقة العناوين والمؤلفات، ربما كنت آنذاك أتعرف على الكلاسيكيات في كافة المجالات، توفيق الحكيم خصوصا، وطه حسين، ونجيب محفوظ الذي كنت أوالي اكتشافه منذ قرأته لأول مرة قبل عدة سنوات قليلة من هذا التاريخ، ويوسف إدريس، بالإضافة إلى محاولات اكتشاف أقلام أسمع عنها ولم أكن قرأت لها مثل فهمي هويدي مثلا، والدكتور زكي نجيب محمود أو بعض كتب التاريخ وخصوصا سلسلة المؤرخ عبد الرحمن الرافعي عن تاريخ مصر المعاصر. لكن أظن كان أبرز اكتشافاتي في تلك الفترة الأدب الروسي وخصوصا دوستويفسكي.
أظنني بدأت بالمراهق والأبله. وسوف يستمر اهتمامي بالحصول على عدد من أعمال الكاتب الكبير كل عام في المعرض وصولا لعمليه الأكثر تأثيرا في ذهني ونفسي وهما الإخوة كارامازوف والجريمة والعقاب، ومن دوستويفسكي تنقلت بين جوجول وتشيكوف ككاتبين لهما أثر كبير ولكن بأعمال قليلة مما قرأته لهما مقارنة بدوستويفسكي الذي أردت التهام كل أعماله، ثم بعض الكتاب الروس الذين لم يكن متاحا من كتبهم إلا عدد أقل من الترجمات مثل إيفان تورجينيف (الباء والبنون)، الأم لمكسيم جورجي، ولكن لا أعرف لماذا لم أدخل عوالم تولستوي إلا في مرحلة متأخرة من خبرتي القرائية. بالإضافة إلى أنني تبينت أن المعرض فرصة لرؤية بعض الكتاب وأذكر على سبيل المثال أنني شهدت حفل توقيع كتاب لأول مرة حين قام الكاتب الراحل يوسف إدريس بتوقيع نسخ من مجموعته القصصية "العتب على النظر" في جناح الناشر. ورؤية نجم مثل إدريس كانت حدثا في حد ذاتها آنذاك.
طبعا خلال فترة وجودي في المنصورة كانت زيارة المعرض، مع شديد الأسف تتم في يوم واحد، إما ان أحضر بالصدفة مع أحد من أهلي للقاهرة، أو أن أدبر رحلة يوم واحد من المنصورة للقاهرة والعودة في نفس اليوم.
لكن علاقتي بالمعرض توثقت بشكل كبير منذ انتقالي للقاهرة للعمل بها في الصحافة في 1990، حيث أمكن لي أن أزور المعرض يوميا وعلى مدى فترة المعرض كاملة. وبين العام 1990 و1994 كان المعرض فرصة للتعرف على مجتمع الأدباء في مصر ولاحقا العديد من الكتاب العرب. فقد كانت الأمسيات الشعرية التي تقام آنذاك فرصة لمتابعة نجوم الشعر وبين أبرزهم آنذاك محمود درويش، وأدونيس، وأحمد عبد المعطي حجازي، مريد البرغوثي، أمجد ناصر، وغيرهم. كما أصبحت ندوات المعرض فرصة للتعرف على الكثير من الكتاب والمفكرين في لقاءات حية. وخصوصا أيضا بعض الكتاب الذين يقيمون خارج القاهرة في المدن المختلفة.
وأظنني تعرفت إلى الكثير من الأدباء المصريين في تلك الفترة، ممن لم تتح لي فرصة اللقاء بهم في الظروف الطبيعية. منهم مثلا إبراهيم عبد المجيد، والمرحوم خيري عبد الجواد، وكذلك تعرفت على مجموعة الأربعائيون السكندرية في المعرض لأول مرة، وخصوصا مهاب نصر وناصر فرغلي.
لكن أيضا كان المعرض خلال تلك الفترة مرتبطا بأحداث الحياة، شاهدا على علاقات عاطفية، وربما بعضها وجد في لقاءات المعرض فرصة لبداية علاقة عاطفية أو شاهدا على قصة حب، وكانت أجواء المعرض تضفي على هذه العلاقات ذكريات كثيرة بعضها لا تزال تختزنه الذاكرة والبعض الآخر ربما يكون قد تبخر. كما كانت أيام المعرض في تلك المرحلة المبكرة موضعا للنوستالجيا مع مرور الزمن، وموقعا للذكريات أو علاقات لم يبق منها إلا الذكرى.
توقفت عن زيارة المعرض خلال فترة عملي في مسقط بين العام 1995 وحتى عودتي في 1997 التي واكبت صدور أولى مجموعاتي القصصية "باتجاه المآقي" حيث ستأخذ علاقتي بالمعرض مرحلة جديدة هي صفتي ككاتب، وأن تتاح لي فرصة أن تقام لكتابي ندوة.
واستمرت علاقتي الوثيقة بالمعرض ليس فقط بصفتي قارئا كما كان الأمر في السابق، ولا حتى ككاتب بل كصحفي أيضا، أقوم بتغطية أنشطة المعرض، ومتابعة دور النشر، وإجراء الحوارات مع الكتاب والناشرين العرب والأجانب، وهو ما بدا أساسا منذ عملي في روزاليوسف في مطلع التسعينيات، ثم خلال فترة عملي في الأهرام العربي نهاية التسعينيات، ثم في صفحة الكتب الأسبوعية في الأهرام اليومي حتى عام 2007.
من بين ما كنت تبينته أيضا أن معرض الكتاب أقيم لأول مرة في عام 1968 تقريبا أي بعد عام واحد من تاريخ ميلادي، ولهذا كنت أجد صلة جديدة عمرية بيني وبين معرض الكتاب، وكل دورة جديدة من المعرض كانت تشعرني بأنني أعيش عيد ميلاد جديد، رغم أن مولدي لا يواكب شهر إقامة المعرض.
بطبيعة الحال مع زيادة خبرة القراءة ونضجها بدأ اقتناء الكتب يأخذ منحى مختلفا، يميل للاختيار الدقيق والتركيز على كتب مهمة، أو جديدة، في الفكر أو الترجمات، أو حتى الروايات التي تنشر خارج مصر، خصوصا وأن دور النشر العربية كان لها دور في إتاحة الفرصة لكتب ربما لا نجدها طول العام في المكتبات.
فالمكتبات في مصر كانت قليلة في تلك الفترة، وأشهرها مكتبة الشروق في ميدان طلعت حرب، والمكتبة المقابلة لها وهي مكتبة مدبولي. وكانت مكتبة مدبولي معروفة بأنها توفر بعض الكتب التي لا تتاح كثيرا في مكتبات أخرى، أو ممنوعة أحيانا، وبالتالي كنا نجد في المعرض فرصة لكسر هذا الاحتكار، مع الإشارة لأن جناح مدبولي في المعرض لم يكن يغنينا عن زيارته خصوصا أنها فرصة لاختيار ما نريد بشكل أكثر حرية مما يحدث في فرع مدبولي في وسط البلد حيث لا يتاح لنا متابعة المعروض بسبب باعة الفرع الذين يلاحقونا بالأسئلة عما نريد، ولا يعطوا لأحد الفرصة للاكتشاف ما يتوفر على الرفوف!
كانت المكتبة بالنسبة لي دائما هي مساحة العرض والاكتشاف. التعرف على كتب جديدة، خصوصا وأنني لسنوات طويلة لم ارتبط بأصدقاء مشتركين لهم علاقة بالثقافة والأدب، خصوصا في المنصورة، وبالتالي كان علي أن أكتشف بنفسي وأتعرف على الجديد بخبرتي الشخصية. وكانت مكتبة مدبولي استثناء، تفترض ممن يريد زيارتها أن يكون على علم تام بما يريده وإلا فعليه أن يوفر فرصة لغيره حتى لا تزدحم المكتبة. ولكن جناحهم في المعرض كان مضطرا لتغيير هذه السياسة.
طبعا خارطة الاقتناء من المعرض أيضا بدأت تتغير بمرور الزمن فبينما مثلا كانت الأجنحة الرئيسة التي كنت أحرص على زيارتها تتمثل في الدور الحكومية العتيقة خصوصا جناح هيئة الكتاب ودار المعارف ودار الهلال ثم دار الشروق والأهرام ومدبولي والجناح الروسي، توسعت الخارطة بعد المشاركة الموسعة لدور النشر العربية وأصبح هناك بعض الأجنحة العربية التي لا بد من زيارتها مثل دار الجمل على سبيل المثال والمدى وورد لاحقا وغيرها من الدور العربية.
ولاحقا سأجد كتبي معروضة في أجنحة المعرض ربما مع دار ميريت التي أصدرت بها مجموعة قصصية بعنوان "أشباح الحواس"، ثم أصدرت رواية "كهف الفراشات" وهي روايتي الأولى التي كانت نشرت في طبعة خاصة عام 1998 على نفقتي الشخصية، ولاحقا رواية ابتسامات القديسين. ثم انتقلت بأعمالي لعدد من دور النشر بينها دار العين التي نشرت لديهم عدة كتب أيضا مثل "أبناء الجبلاوي" و"جنية في قارورة" و"شامات الحسن"، ثم دور نشر أخرى لاحقا بينها الدار المصرية اللبنانية ومؤخرا دار الشروق.
منذ تواجدي في الكويت عام 2007 قل انتظامي في زيارة معرض القاهرة للكتاب، رغم حرصي على زيارته ولو زيارات سريعة كل فترة.
وكان لي حظ زيارة المعرض في محطته الجديدة في أرض المعارض بمنطقة التجمع والذي انبهرت به بسبب التنظيم والطابع الحديث للأجنحة والتنظيم، وصحيح أنه أصبح بعيدا نسبيا مقارنة بالموقع القديم في صلاح سالم، لكن المهم أنه تمكن من فرض أجواء خاصة جديدة أيضا تقترن بالطابع الكرنفالي والاحتفالي لهذا المعرض العريق.
فكل عام ومعرضنا الجميل للكتاب بخير وتألق.