ولمَّا كَانَ الأَمْرُ الإلهيُّ "إقرأْ"، قد استقرَّ في رُوحي وأنا طفلٌ، حيثُ بَدَأَ أبي يُحفِّظُني القرآنَ، صِرْتُ كائنًا مشغولاً بالقراءةِ، مَهَمَّتُهُ في الحياةِ أن يَقْرأَ، حيثُ في القراءةِ معرفةٌ للرُّوحِ، وانفتاحٌ على الذاتِ، وَخَوْضٌ في عَتَمَاتِها علَّها تشتعلُ نورًا، ودخولٌ حثيثٌ إلى الكائناتِ الغامضةِ التي تَسْكُنُني.
لم يكنْ هدفي أن أكونَ جامعًا للمعلوماتِ، بقدرِ ما كنتُ حريصًا على أن أعرفَني، أن أُزيلَ غموضي والتباسي، وأكتشفَ ما خَفِي فيَّ، وأحدِّدَ معالمي فوق خريطةِ الكونِ.
هل كُنْتُ أنشدُ الحكمةَ. ربَّما. هو الأمرُ كذلكَ على الأرجحِ، فالكتبُ كثيرةٌ لكنَّ قليلَها هو الذي يُقْرَأُ، ونادرُها هو الذي يَبْقَى، فمثلما الماءُ في كلِّ مكانٍ بينما القليلُ منه هو الصالحُ لأنْ نَشْرَبَه، كذلك الأمرُ مع الكتبِ، ففي كُلِّ حضارةٍ هناكَ الكتبُ الأساسيةُ التي تؤسِّسُ وتفتحُ لقارئها أفقًا آخرَ، تُغَيِّرُ، وَتُعَلِّمُ، وتحوِّلُ المرءَ من النقيضِ إلى النقيضِ، وعادةً نحن لا نكتشفُ هذه الكتبَ الأعمدةَ أو الرئيسيةَ إلاَّ بالبحثِ والتجربةِ وممارسةِ عادةِ القراءةِ، لأنَّ القراءةَ مغامرةٌ، والقارئ الذي يغامرُ، الفوزُ حليفُهُ، لأنني أرى أن المبدعَ في كتابتهِ قارئٌ مُحْترفٌ، في الوقتِ الذي هو فيه كاتبٌ محترفٌ أيضًا.
ولا شئَ يخيفُ المغامرَ، فكلُّ قراءةٍ لها متعتُها وخصوصيتُها، هي عَالَمٌ مجهولٌ نرتادُهُ لنعرفَ أنفسَنا. وكنتُ محظوظًا حيث وجدتُ منذ حداثةِ سِنِّي من يوجِّهني إلى القراءةِ (أبي وأخي محمد خصوصًا)، فإنَّ هناكَ أشياءً عديدةً عن القراءةِ اكتشفتُها ومازلتُ أكتشفُها مع كُلِّ يومٍ يمرُّ.
ولا أحدَ ينتظرُ من القراءةِ نفعًا ماديًّا سوى نشدانِ المعرفةِ، المعرفة الخلاَّقة، التي تقودُ إلى الابتكارِ والخَلْقِ والتجديدِ والتجريبِ والبحثِ، وتهذيبِ السلوكِ، ومن يقرأ بسببِ هدفٍ ما ماديٍّ يحصل عليه في النهايةِ، سيفقدُ المتعةَ، لأننا نقرأُ لنفكِّرَ، لا لنكسبَ أو نفوزَ أو نحرزَ انتصارًا ما من أيِّ نوعٍ. وعادةً الخلاَّقون يتحاشون "القراءةَ الماديةَ" لأنَّ طريقَها مسدودٌ، حيث يصيرُ فيها الكِتَابُ ليس رفيقًا أو صديقًا، وإنما عبءٌ ينبغي التخلُّص منه بعد ما نحقِّقُ أغراضنا. ومن هنا ينبغي أن يتداخلَ الاثنان معًا القارئ والكتاب، كُلٌّ يحاولُ قراءةَ الآخرِ، والتحاورَ معه، والوصولَ إلى المعرفةِ.
ولأنَّ عمري محدودٌ، صرتُ أتخَّلصُ من كثيرٍ مما لديَّ من الكتبِ، فهناك آلافُ الكتبِ التى قرأتُها ولن أعودَ إليها أبدًا، ووجودها في المكتبة، لا يعني سوى التكدُّس والمباهاةِ بأنَّ لديَّ مكتبةً كبيرةً فيها كذا ألف كتاب. وهناك كتبٌ دَخَلَتْ إلى مكتبتي خطأ ولا جدوى أو طائلَ من ورائها، ولا أدري كيف طُبعتْ وَوزِّعَتْ، وكتبٌ أُهديتْ إليَّ، لا يمكنُ أن تدخلَ في سياقِ قراءاتي أو نَسقِ معرفتي، قراءتها تُؤخِّر ولا تُقدِّم. ومن ثم أُبْقي فقط على كُلِّ كتابٍ أَرَاهُ مفيدًا وصالحًا وقادرًا على أن يمنحني شيئًا.
ثم إنَّني لا أقرأُ لقضاءِ الوقتِ، أو ملءِ فراغٍ في حياتي، فَلَيْسَ لديَّ وقتٌ لآكلَ، وأعرفُ أنَّني لن أعيشَ طويلاً أو إلى الأبدِ، وعليَّ أن أكونَ دقيقًا في اختياراتي، فاليوم الذي أقضيه مع كتابٍ لم أستفد منه جديدًا، أعتبره نَقُصَ من عمري، ولن أستطيعَ تعويضَهُ، مثله مثل اليوم الذي يمرُّ دون أن أقرأَ فيه وأتحصَّلَ على معرفةٍ جديدةٍ، فهو يومٌ مَيِّتٌ.
ولا توجدُ نَفْسٌ نقيَّةٌ من دُونَ قراءةٍ.
فالكتابُ يَطَهِّرُ، وَيُثْرِي، ويجعلُ المرءَ في حوارٍ داخليٍّ خلاَّقٍ مع ذاتِهِ، ولا أعرفُ ما الذي كنتُ سأفعلُهُ إنْ لم أَكُنْ قارئًا، ولا أتصوَّر كيف يعيشُ الناسُ من دون قراءةٍ، بل أُوغلُ في التساؤلِ وأقولُ: كيف يعيشُ كُتَّابٌ وشعراءٌ من دون قراءةٍ، فمن خبرتي بهؤلاءِ أعرفُ أنَّهم لا يقرءونَ إلاَّ القليلَ، ويعيشونَ على الشفاهيِّ والمُروَّجِ، والمجتزءاتِ المبثوثةِ في الصحفِ والمجلاتِ. ومن المفروضِ أن يكونوا شموعًا تُوقَدُ للآخرين، أراهم يحترقونَ بجهلهم المتشمِّعِ.
وقديمًا في القرنِ السابعِ عشرِ الميلادي قال رفيقٌ مُحِبٌّ للكتاب هو ريتشارد ويتلوك: "الكتبُ خيرُ ما في الحياةِ، إنَّها مستشارون بلا أجرٍ، سهلةُ المأخذِ، سريعةٌ في تلطفٍ. احصْ كتبكَ في بابِ جردِ الجواهرِ، إنها مستقبلُ الزمنِ، وسفينةُ المسافرِ العائدِ أو جوادهِ، وخير تسليةٍ للرجلِ المشغولِ، ومسكنِ التعبِ الكسولِ، وخير كاهنٍ للذهنِ، حديقة الطبيعةِ. إنها قربانُ الروحِ الأخيرِ، وهي إزاء الموت شرابٌ مُنَبِّه".
وأنا أقرأُ مثلما أُحِبُّ،
لابد من مُتْعةٍ رُوحيةٍ وذهنيةٍ.
لا أُجْبِرُني على إكمالِ كتابٍ سقيمٍ.
صحيحٌ أن المرءَ أحيانًا ما يتورطُ في شئٍ، لكنَّه حتمًا سيتخلَّصُ منه يومًا ما.
لابد من أن أتذوقَ ما أحبُّ، لا أُكْرِهُ نفسي على شئٍ، وهكذا القراءة لابد أن نعرفَ كيف نعيشُها ونحياها.
والقارئ لا يجعلُ ما يَفْتِنُ يفلتُ من يديه، فهو يتودَّدُ ويتقرَّبُ، ويذهبُ إلى المستحيلِ كيْ يكونَ معه، فهو الرفيقُ والصَّديقُ والمحبوبُ الأسمى والأبقى.
أعرفُ من يعيشُ حياتَهُ فقط للقراءةِ، وقليل من وقتهِ للكتابةِ.
فالكتابُ هو الصاحبُ في هذا الزمان وكلّ زمانٍ، يَصْحَبُنَا أينما كُنَّا، معنا، لا يفارقنا، ينام في حِضْننا، في المطبخِ، فوق المخدةِ، على السريرِ، في الحمَّامِ، في المكتبِ، في مكتبةِ البيتِ، في السيَّارةِ، في اليدِ، في جَيْبِ السترةِ التي نرتديها، هو المخلِّصُ من الكآبةِ والمللِ والسَّأمِ، هو العلاجُ للرُّوحِ، والشافي لأي وَجَعٍ. ولهذا يستخدمه العِلْمُ الحديثُ في علاجِ كثيرٍ من الأمراض.
وإذا كانت أشياءٌ كثيرةٌ مما نقتنيها تَبْلَى وتتكسَّرُ، وَتُفْقَدُ، فإنَّ الكتابَ وَحْدَهُ الذي يبقى شاهدًا، معرفتُهُ حَيَّةٌ، وعطرُهُ باقٍ، هَرَمٌ خالدٌ يدلُّ على كاتبِهِ ومقتنيه معًا، وما الكتبُ التي نخلِّفها وراءنا ونحن ذاهبونَ إلى الموتِ إلاَّ الشاهدَة التي تحفظُ ذكرانا، وتشيرُ إلينا.
ومثلما الشِّعْرُ نشاطٌ فرديٌّ، فالقراءةُ أيضًا، فيها أكونُ وحيدًا مع شخوصٍ كثيرين يُطِلُّونَ عليَّ من صفحاتِ الكتابِ، أُحَاورُهم، وأُناقشُهم، قد أغيِّر رَأْيى في مسألةٍ ما، طالما هناك ما يقنعني بذلك، وصحيحٌ أن لدي ثوابتَ راسخةً في حياتي، لا يعني تطويرها أو تنميتها، أو ربما تغيير أجزاءٍ فيها تغيُّرٌ جذريٌ، أو انقلابٌ، أو قلقٌ أو تذبذبٌ، في عقيدتي وإيماني.
لكنَّني أقرأُ بقلبٍ وعقلٍ مفتوحينِ عليَّ وعلى العالمِ. فلا يوجدُ شئٌ مُغْلَقٌ، والدنيا نصٌّ مفتوحٌ، بابُه ليس مواربًا أو مُقْفَلا، وإنما قَابِلٌ لعديدٍ من الأشكالِ والصورِ.
ومثلما لنا أبٌ واحدٌ وأمٌّ واحدةٌ وإخوةٌ وأصدقاءُ وأقرباءُ قليلون وحميمون، فإنَّ في حياتنا كتبًا قليلةً علَّمتنا وغيَّرتنا منذ الصغر، وكوَّنت شخصياتنا، وقادتنا إلى طرقٍ رئيسيةٍ أو فرعيةٍ، حتَّى لا نتوهُ في هذا العالم الصاخبِ، وعلينا أن نحرصَ بقيةَ حياتنا أن نتوقَّف أمام الكتبِ العلاماتِ، البارزةِ والدالَّةِ والجوهريةِ، التي تقودُ شعوبًا وأممًا، لا نتوقَّف أمام ثقافةٍ أو حضارةٍ بعينها، لأنَّ المعارفَ تتزاوجُ وَتَعْشَقُ وتحبُّ وتتداخلُ، وتتحاورُ، وتنفتحُ إلى بعضها، ونحن لا نعيشُ بمفردنا على هذه الأرض، وما نملكُهُ ليس هو الجوهر الفريد، أو الأوحد، أو الأعلى، أو الأفضل، وإنما هناك من هم مثلنا، أو يفوقوننا، وعلينا أن نحيطَ علمًا ومعرفةً بما لدى الآخر الذي يعيشُ عصرنا، أو تقدَّم علينا.
وقد حاولتُ أن أستدركَ ما فاتني، واستطعتُ أن أجمعَ عددًا كبيرًا من الكتبِ الكبيرةِ في حضاراتِ بلادِ فارس والهند والصين واليابان والتبت وأفريقيا وبابل وآشور ومصر القديمة وأوجاريت وفينيقيا واليونان، والقبائل، وأمريكا اللاتينية وغيرها، تُشكِّلُ معرفةً مقدَّسَةً لدى شعوبها، وقارئها – أيضًا – من أيةِ ثقافةٍ أو حضارةٍ أُخْرَى.
هذه الكتب أنقذتني من الانخراطِ في قراءةِ مئاتِ الكتبِ التي تلفظهُا المطابعُ العربيةُ سنويًّا، ولا طائلَ من قراءتها، أو إضاعةِ الوقتِ لمعرفةِ ما فيها.
ولأنَّ العمرَ قصيرٌ، علينا أن نتخيَّرَ ما نقرأُ، ففي كُلِّ ثقافةٍ أو حضارةٍ هناك قائمةٌ طويلةٌ بالكتبِ الكبيرةِ والأساسيةِ في الشِّعْرِ والروايةِ والمسرحِ والفلسفةِ والفنونِ والدياناتِ وعلمِ النفسِ والاقتصادِ والسياسةِ والموسيقى وغيرها من المعارفِ والعلومِ والفنونِ، وإذا جمعنا عددًا من القوائم، وبحثنا في المكتباتِ على مدارِ عامٍ – مثلاً – سنتحصَّل عليها، وهذه القوائمُ تشكِّل المكتبةَ الخاصةَ لكلٍّ منا، هي الخلاصةُ، والعصارةُ، والفرائدُ، إنَّها لآلئُ طبيعيةٌ نادرةٌ تضعنا في نارِ الإبداعِ، نتلقَّى ونحاورُ، ونكونُ فاعلينَ مع ذواتِنا وفي المكانِ الذي نعيشُ فيه.
ومن عاداتي، عندما أصل إلى كتابٍ لافتٍ ومفيدٍ أشتري منه نُسخًا عديدةً، وأهديها إلى أصدقائي المقربين، لأنَّني أُحبهم، وأطمحُ أن يقرءوا الكتبَ نَفْسَهَا التي أقرأها، إنَّني بهذا أُريدُ أن أعمِّمَ معرفةً أو إبداعًا خاصًّا، من النادر أن نَجِدَهُ وسط ركامٍ من الكتبِ التي نطالعها على الأرصفةِ وفي واجهاتِ المكتباتِ، أو معارضِ الكتبِ.
والقارئُ المحترفُ، الفاهمُ، الواعي العارفُ، لا يَحَارُ عندما يذهبُ – مثلاً- إلى معرضٍ للكتابِ، لن ينبهرَ، ويقول: ما الذي سأشتريه؟. لأنه يعرفُ سلفًا، ما الذي يحتاجه، أو سيتوقَّف أمامه، أو بحكم خبرته سيعرفُ الكتبَ المفصليةَ في كُلِّ علمٍ أو فرعٍ من المعرفةِ.
وهناك كُتَّابٌ قرأتُ لهم أكثر من كتابٍ، ولم أجد لديهم ما يثيرني، أو يُمْتِعُني، هؤلاء أتوقَّفُ عن قراءةِ أيِّ أعمالٍ تصدرُ لهم لاحقًا، لأنَّهم من وجهةِ نظري لن يضيفوا جديدًا.
وهناك كتبٌ لا تُقْرَأُ أساسًا، لأنَّها تُعْرَفُ من عناوينها، ولا تَسْتَأْهِلُ – حتَّى- مشقة تقليبِ صفحاتها.
وهناك كُتبٌ، أخوضُ ربعَ أو نصفَ صفحاتها، وأقرِّر التوقُّفَ عن الاستمرارِ في قراءتها، لأنَّ استكمالي لها صار ضربًا من اللاجدوى.
ودومًا ما أسألُ أينما كُنْتُ عن الكتبِ المهمةِ التي صَدَرَتْ حديثًا، وما مدى الإفادةِ منها. وبعد ذلك أُقرِّرُ اقتناءَهَا، وأستشيرُ من أثقُ في رأيهم عمَّا أَقْرأُ.
ولأنَّ الكتبَ أذواقٌ، فأحيانًا ما يخيبُ ظنِّي فيمن استشرتُهم، ولا أجدُ فيما قرأتُ شيئًا مِمَّا ذكروه لي، أو أشاروا إليه.
القراءةُ تَعْصِمُني من العُزْلةِ، وتحفظُني من الهذيانِ، وتقيني من الوحدةِ المُوحِشَةِ، هي رفيقي في السَّفَر، أمُّ روحي، مَحْبُوبي الذي أفتقدُهُ، وأحنُّ إليه، وأرقبُ لقاءَهُ، وأنتظرُهُ كُلَّ ثانيةٍ أَنْ يجيئَ، أُعدُّ له رُوحي، وأحرثُ له أرضي، وأبقيني دائمًا في حالةٍ مِنَ المدِّ.
القِرَاءَةُ نجْمي الذي أتبعُهُ.
ضوءُهُ يقودُني، وينيرُ لي طريقي
وَأَنَا في رَكْبِهِ أسيرُ لأحيا، وأكونَ الذي لم أكنه من قبل.
بالقراءةِ أتَغيَّرُ، وأعرفُني.