مصطفى أمين في حوار نادر: إميل زيدان رفض تعييني.. وبسبب «الملحوس» عُينت رئيسًا لـ دار الهلال
يُعد الصحفي الكبير مصطفى أمين من أهم وأبرز الصحفيين المصريين على مرّ تاريخ مصر والعالم العربي، فهو مدرسة صحفية فريدة من نوعها.. بدأ مسيرته الصحفية في سنّ مبكرة، ثم انتقل للعمل في دار الهلال التي كانت أكبر مجلة ثقافية في مصر وقتها، واستطاع بجهوده وموهبته أن يتبوأ مناصبًا عليا في تحرير المجلات والجرائد، فأسس مع أخيه علي أمين مجلة "أخبار اليوم".
ترك مصطفى أمين بصمةً واضحةً في الحقل الصحفي، فهو صاحب أسلوب جريء ومميز وقلم لاذع ساخر، تناول في كتاباته الشؤون السياسية والاجتماعية بعمقٍ ويتسم أحيانًا بالحدة والجرأة في التعبير، كان له الفضل في إرساء أسس الصحافة الاستقصائية والتحليلية في مصر، مستخدمًا أسلوبًا ساخرًا في كشف الحقائق وتوجيه الرأي العام.
نشرت مجلة "الهلال" في عددها الصادر عام 1992م، حوارًا خاصًا ضمن باب "شهادات" مع الصحفي الكبير مصطفى أمين بمناسبة مرور مئة عام على صدور المجلة، وروى "أمين" خلال حواره ذكرياته وشهاداته عن "الهلال" التي بدأ يتابعها من بيت الأمة "بيت سعد زغلول" عام 1926م. وتحدث عن دور المجلة وكبار مفكريها الذين أسهموا في الحركة الثقافية والأدبية، وقدموا من إبداعهم، استمرت المجلة بلا توقف على مدار قرن كامل من الزمان، وهو الحدث الثقافي الكبير الذي لم تحظ به مطبوعة في بلاد عريقة كثيرة من دول العالم المتحضر.
إلى نص الحوار:
قرأت مجلة الهلال وأنا في بيت الأمة (بيت سعد زغلول)
قال مصطفى أمين: أعتقد أنني صديق قديم للهلال، وصلتي به ترجع إلى سنة 1926، فقد كانت أمي تشكو أننا لا نواظب على الدراسة "علي أمين وأنا"، فاتفقت مع السيدة صفية زغلول على أن يذاكر علي في بيتنا، وأذاكر أنا في بيت الأمة، في مكتب سعد زغلول، أجلسوني بمكتبه في الدور الأول، وأمضيت الوقت أعبث بما فيه من كتب فلم أجد كتابا يستهويني إلا مجلة الهلال.
أخذت أقرؤها باهتمام شديد، وكانت هناك عدة أعداد، وأعجبت كثيرا بمقالات الدكتور أحمد زكي والشيخ مصطفى عبد الرازق والأستاذ علي عبد الرازق، وفكري أباظة، والدكتور أمير يقطر، الذي كان يكتب مقالات عن الاختراعات والحياة في القارة الجديدة (أمريكا) وكان يستهويني قراءة هذا النوع من المقالات ، أيضا شدتني مقالات سلامة موسى والتي يضمنها النظريات الحديثة والآراء الاشتراكية .
أعجبني كثيرا في هذه الفترة المبكرة من عمرى تنوع «الهلال»، لأنه كان إلى جانب إرضائه للمثقفين، كان يرضي أيضا الناشئة من أنصاف المتعلمين لأنني كنت في ذلك الوقت نصف متعلم! كان أسلوب «الهلال» يعجبني جدا.. كان الأسلوب واضحا ومفهوما، والكلمات ليست معقدة، والجمل ليست ملتوية، ولذا كانت قراءة الهلال متعة.
استمتعت وأنا في بيت سعد زغلول بقراءة الهلال، وكانت هذه هي المذاكرة الحقيقية التي كنت أقوم بها بعد أن فصلوني عن أخي على أمين! وأعترف بأنني خرجت من قراءة مجلة الهلال بفائدة، وشعرت بأنني كنت في مدرسة، وأنني دخلت في هذه المدرسة.. وأحببت دروسها، وأصبحت مهتما بكل الأفكار الجميلة التي تتضمنها .
تواصلت مع دار الهلال
ذهبت في عام 1930 أطلب عملا بدار الهلال فطردوني وفي عام 1941 عينت رئيسا لتحرير مجلة الإثنين
دخلت دار الهلال بعد ذلك في عام 1941م، بعد حبي وعشقي للهلال بخمسة عششرة عاما بمبناها الجديد (الحالي)، وأذكر أنني حاولت أن أدخل المبنى القديم قبل ذلك، في سنة 1930، وكنت وقتها أصدر مجلات للمدرسة، صادرتها الحكومة، فقررت أن أعمل محررا.. وذهبت إلى دار الهلال، وطلبت مقابلة الأستاذ إميل زيدان وأخذت أنتظره مدة طويلة، وأخيرا أطل برأسه من الباب وقال لي «أفندم»!
قلت له: إنني شاب ناشئ وأريد أن أعمل بدار الهلال
قال: نحن لا نشغل ناشئين!
قلت له: أنا أريد أن أعمل مجانا!
قال: نحن لا «نشغل، ناس مجاناً!
قطع الرجل عليّ الطريق، وخرجت في ذلك الوقت مهزوما، ولكنني في سنة 1941 دخلت لدار الهلال رئيسا لتحرير مجلة «الإثنين» وكان عمري وقتها 21 عام، وأذكر أننا اختلفنا في أول الأمر، حيث عرض عليّ الأستاذ إميل زيدان مرتبا، قدرة خمسون جنيها في الشهر، وطلبت أن يكون سبعين جنيها .
وقال إميل زيدان: إننا واثقون بأن مجلة «الإثنين»، أن يزيد توزيعها عن التوزيع الحالي، بعد أن قمنا بعمل التجديدات والترغيب للقراء من خلال يانصيب لمن يكسب من القراء ولم يزد التوزيع قلت له: أوافق على تعييني بخمسين جنيها، ولكن بشرط أن أحصل على عشرة بالمائة عن كل زيادة في التوزيع .
قال إميل زيدان: أحب أن أقول لك بأنك لن تحصل على أي مليم زيادة، لأن نسبة التوزيع لن تزيد! ولحسن الحظ زادت السنة الأولى من 12 ألف نسخة إلى 40 ألفا وفي السنة الثانية زاد التوزيع إلى 60 ألفا وفي السنة الثالثة وصلت نسبة التوزيع إلى 90 ألف نسخة، وهكذا قبضت عدة ألوف من الجنيهات من دار الهلال، وهذه الأموال هي التي بدأت بها أخبار اليوم.
لقد تأثرت كثيرا بالأستاذ إميل زيدان ومن رأيي أنه كان صحفيا ممتازا، وكان فكره متحررا، ولكني اختلفت معه لأن عقدي كان يقول بأنني سأكون مستقلا عن الأحزاب، وقد فسره إميل زيدان بأن أكون محايدا، وقلت له: هناك فرق كبير بين المحايد والمستقل، فالمحايد يذكر آراء الآخرين ولا يذكر رأيه، أما المستقل فإنه يذكر رأيه دون أن ينتسب إلى حزب من الأحزاب، ولهذا السبب اختلفنا وخرجت من دار الهلال وأصدرت أخبار اليوم عام 1944.
استقالة جميع محرري مجلة الإثنين
ومن الحكايات الغربية أن جميع محرري «الاثنين»، تضامنوا واستقالوا دون أن يخبروني أو أطلب منهم، تضامنا معي، ولهذا كنت محرجا جدا، وانتابتني حيرة شديدة، فماذا أفعل، وهذا ما جعلني أسرع في إصدار جريدة أخبار اليوم، لكي يعملوا فيها جميعا .
وأثناء وجودي في دار الهلال، كانت «الهلال» هي المجلة الأولى، حيث كان أصحاب الدار يهتمون بها أكثر من اهتمامهم بأية مجلة أخرى، وكان يسعدهم أن تكون منتشرة في كل أنحاء الدنيا .
بسبب «الملحوس» عينت رئيسا لمجلس إدارة دار الهلال
ثم نقلني الرئيس جمال عبد الناصر من أخبار اليوم إلى دار الهلال عام 1962 وبعد التأميم مباشرة، وتولى علي أمين رئاسة تحرير «الهلال»، وتوليت رئاسة تحرير «المصور»، ثم رئيسا لمجلس إدارة دار الهلال، وكان ذلك عندما اختلف الرئيس جمال عبد الناصر مع فكري أباظة واختارني خلفا له .
كان السبب الحقيقي لهذا الخلاف أن فكري أباظة كتب في باب «الملحوس»، هذه العبارة «عندما كنت في إسبانيا رأيت المباني العظيمة والحدائق الفخمة، ولكن الناس كانت تنقصهم الحرية»، وكل هذا لا يساوى الحرية وهذه الكلمة هي التي تسببت في خروج فكرى أباظة من رئاسة مجلس إدارة دار الهلال .
ولقد أمضيت في دار الهلال أسعد أيام حياتي، وكان عملي مع فكري أباظة متعة، وكنت أنظر لفكري أباظة على أنه رئيسي برغم أنني رئيس مجلس الإدارة.. وأحببته حبا شديدا.
علي أمين والهلال ومذكرات غرامية
وإذا تحدثت عن الفترة التي تولى فيها أخي علي أمين "الهلال".. فإنني أشير إلى أنها كانت فترة تجديد «الهلال»، لأن علي أراد أن يحولها إلى مجلة مقروءة، لأنها كانت تصدر للمثقفين فقط، وعلي أرادها مجلة للجميع، وأدخل فيها عدة أبواب جديدة من بينها الكاريكاتير .
وفي هذه الأثناء حدثت حكاية طريفة أشير إليها هنا، وهي أننا سمعنا بأن هناك مذكرات للأديب والسياسي الكبير أحمد لطفي السيد مكتوبة عن قصة غرامه بمي زيادة، فكلف علي أمين طاهر الطناحي، وكان مديرا لتحرير الهلال في ذلك الوقت، لكي يقنع لطفى السيد بنشر هذه المذكرات في «الهلال». فرفض لطفي السيد، فاضطر علي أمين أن يتصل ببهي الدين بركات باشا وكان صديقا حميما للطفى السيد، وقال له إن لطفي يعارض في نشر مذكراته. وقال بهى الدين بركات إن من رأيي أن ينشر مذكراته وقصة حبه لمي واشترك الدكتور عبد الحميد بدوي في إقناعه..
وفعلا عدل لطفي السيد عن قراره ونشر مذكراته في «الهلال» ونجحت نجاحا كبيرا، وكان الفضل الأول لطاهر الطناحي الذي ذهب إليه في البداية في محاولة جادة لإقناعه بنشرها
الهلال تعجبني
وأنا أقرأ الهلال الآن، وأقرأ به مقالات عديدة تعجبني، صحيح إنها الآن تنشر مختلف الآراء وبحرية تامة، لكنها في الماضي، كانت بعيدة عن السياسة، وفي السنوات الخمس الأخيرة تقدمت وبدأت تستعيد مجدها وعددها الأخير عن «التصوف» على سبيل المثال عدد جيد جدا، فقد عرض بهذا الجزء مختلف وجهات النظر، ورأيي أنه في الصحافة ينبغي أن تنشر مختلف وجهات النظر، لا رأيك فقط .. أي رأيك والرأي الآخر وأن تقوم الهلال بهذا فتلك خدمة ممتازة بحق .
الهلال هي المجلة الوحيدة التي لم تصادر على مدار قرن كامل من الزمن
وشيء جميل جدا أن تمر مائة سنة على مجلة «الهلال» ولم تصادر وهي المجلة الوحيدة التي صدرت طوال هذه الفترة ولم تصادر وكل مجلة صدرت طوال هذه الفترة صودرت وذهبت إلى النيابة وجرى تحقيق مع رئيس تحريرها، أو حبس رئيس تحريرها، ما عدا الهلال، لأنها كانت بعيدة عن السياسة .
إنني أرجو أن يكون الاحتفال بمرور مائة عام على «الهلال» بشكل يليق بهذه المناسبة المهمة، وأن يدعى في الاحتفال بالهلال أدباء من كل البلاد العربية، ويقام حفل كبير بالأوبرا، وتلقى به الكلمات من الأدباء من الدول العربية تحية لها، ويشاد بجرجي زيدان الذي أسسه وبإميل وشكرى زيدان اللذين تولياها بعد ذلك، كما يحتفل بجميع الذين شاركوا فيها وتولوا رئاسة تحريرها ونهضوا بها .