إذا أردنا الحديث عن الزهد؛ فسنجد أنه يمثل محور الأخلاق الرواقية، إذ اهتم به زينون الرواقي، كما اهتم به سائر الرواقيين عامة، والزهد يعني التقشف، كما يعني الرياضة الروحية والبدنية. وعلى ذلك فالزهد مبدأ أخلاقي يستهدف التخلي عن المتع المادية والملذات الحسية في سبيل بلوغ أهداف اجتماعية أو كمال أخلاقي أو ديني. وإذا كان الزهد عند الرواقيين يسعى للوصول إلى الكمال الأخلاقي والديني؛ فإنه يغفل عن الاهتمام بتحقيق الأهداف الاجتماعية، حيث إن المهم عند الرواقيين هو فضيلة الإنسان الفرد (أو الحكيم).
كان اهتمام الرواقيين بالزهد تعبيرًا عن أزمة سياسية واجتماعية وفكرية في آن واحد، وتمثلت هذه الأزمة في جانبها السياسي والاجتماعي في اضطراب الحياة العامة وانتشار الفوضى، وفقدان الانتماء السياسي لدولة المدينة التقليدية، وانعدام الطمأنينة، وذلك بفعل التغيرات السياسية والاجتماعية التي أدخلها الإسكندر الأكبر في المجتمع اليوناني. أما على الجانب الفكري فقد تمثلت الأزمة في تراجع العقل والعقلانية، وتراجع البحث في الميتافيزيقا والوجود، لصالح الاهتمام بالمصير الفردي، وبذلك لم تعد الفلسفة شعلة نار يهتدي بها نفرٌ من الباحثين عن الحقيقة الذين يتصفون بمَضَاء العزيمة، بل أضحت الفلسفة أقرب شبهًا بعربة الإسعاف، تسير في مؤخرة المعركة، وتلتقط الصرعى من الضعفاء والجرحى.
في مثل هذه الأزمات، يرتد المرء إلى ذاته، علّه يجد فيها ما فقده في العالَم الخارجي، فينشد السعادة الفردية والطمأنينة السلبية، وقد تنوعت الاتجاهات لتحقيق تلك الغاية، فبينما اتجهت الأبيقورية إلى القول باللذة، اتجهت الرواقية إلى القول بالزهد.
قسم الرواقيون الفلسفة إلى ثلاثة أقسام هي المنطق وعلم الطبيعة والأخلاق، غير أنهم أعلوا من شأن الأخلاق مقارنة بكل من المنطق وعلم الطبيعة، بل زادوا على ذلك، فنظروا إلى المنطق وعلم الطبيعة، وكذلك الميتافيزيقا وسائر العلوم، بوصفها مجرد مقدمة للأخلاق، وأن قيمة تلك العلوم تتمثل في منفعتها العملية فحسب.
شبه الرواقيون العلاقة بين الأخلاق والمنطق، وعلم الطبيعة بتشبيهات شتى تؤكد هذا الموقف، حيث شبه بعضهم الفلسفة بالكائن الحي: المنطق عظامه، والطبيعة لحمه والأخلاق نفسه. وقال بعضهم بأن الفلسفة كالبيضة: قشرها علم المنطق، وبياضها علم الطبيعة وصفارها علم الأخلاق. وقالوا أيضًا الفلسفة كالبستان: علم المنطق سياجه وعلم الطبيعة أشجاره وعلم الأخلاق فاكهته. أو هي كالمدينة المحصنة، المنطق حصونها والطبيعة سكانها والأخلاق دستورها.
واستمر المذهب الرواقي محتفظًا بمركزية الأخلاق، وكانت الأيام كلما أمعنت في سيرها، قل اشتغال أصحاب المذهب بجوانب الرواقية الأخرى غير جانبها الأخلاقي، وازدادوا حصرًا لاهتمامهم في الأخلاق، وفي تلك الأجزاء من اللاهوت التي تتصل بالأخلاق اتصالًا وثيقًا، وهكذا فإن الأخلاق تمثل محور الفلسفة الرواقية، كما أن الزهد يمثل محور الأخلاق عندهم ومن ثمَّ فإن مفهوم الزهد يمثل محور الفلسفة عندهم بصفة عامة.
إن المدرسة الرواقية لم تكن ثمرة لذهن فيلسوف واحد، كما هو الحال عند الأبيقورية مثلاً، بل هي نوع من العمل الجماعي، اشترك فيه كثير من الفلاسفة. وتُعَد فلسفة الرواقيين من أبرز فلسفات الزهد في الفكر اليوناني، حيث دعت إلى التقبل السلبي للقَدَر والانصياع له، والتحرر من اللذة والعاطفة، وكل ما من شأنه أنه يُزعج الحكيم، ويُقلق راحته أو يسبب له ألمًا، وزادت على ذلك فدعت إلى التحرر من الأمل، لكي لا يصاب المرء تحت أية ظروف، بخيبة الأمل. وأكثر من ذلك فقد أباحت الانتحار. كانت الرواقية فلسفة سلبية مضادة للحياة وللطموح، وللكفاح من أجل التقدم، ومن ثمَّ كانت فلسفة تُعَبِّر عن أزمة الإنسان وأزمة العصر الذي ظهرت فيه.
ولقد ربط الرواقيون بين الزهد ومفاهيم فلسفية أخرى كثيرة مثل الغائية والانفعالات والفضيلة والسعادة والخير والشر والجبر والحرية والبعد الاجتماعي، فنظروا إلى الكون على أنه مرتب على نحو غائي وأن الزهد يكمن في تفهم تلك الغائية. غير أنهم حاربوا العواطف والانفعالات باسم الزهد بوصف تلك العواطف والانفعالات نتيجةً لأحكام خاطئة من شأنها أن تُعَكِّر صفو الإنسان الحكيم.
نظر الرواقيون إلى الفضيلة بوصفها طريقًا للسعادة، وربطوا بين الزهد والخير، كما ربطوا بين اللذة والشر، كما ربطوا أيضًا بين الزهد والقوانين التي تحكم الطبيعة والبشر فكانوا جبريين، غير أنهم رأوا أن طاعة الإنسان لتلك القوانين تجعل منه كائنًا حرًا، كما طالبوا بتقبل الحياة الاجتماعية بما هي عليه دون تذمر أو ثورة.
ولقد انتقد الدكتور حمزة السروي الفلسفة الرواقية؛ ورأى أن نموذج الحكيم الرواقي لا يصلح مثلًا أعلى لإنسان العصر الحديث، ولا حتى القديم، إذ لا يكفي أن يكف الإنسان عن إيذاء غيره، بل يتعين على المواطن الصالح أن يشارك أقرانه ويتعاون معهم في تحقيق الصالح العام. إن المطلوب هو أن يأخذ الإنسان قدرًا من اللذة دون إسراف، ونصيبًا من العقل دون مبالغة؛ فتستقيم شخصيته، ويقوى على لعب دورًا اجتماعيًا مميزًا.