رئيس مجلس الادارة
عمــر أحمــد ســامي
رئيس التحرير
طــــه فرغــــلي
الأخلاق بين اللذة والزهد (3- 3)
د.حسين علي
د.حسين علي
ظهرت طوال تاريخ الفكر البشري تيارات ومذاهب فلسفية رأت أن «اللذة» هى معيار الفعل الأخلاقي، فالناس يبحثون عن سعادتهم، وليس أدل على ذلك من أن تنظر إليهم في حياتهم اليومية المعتادة، فتجدهم بالفعل يسعون إلى تحقيق ذلك، ومن ثمَّ تكون السعادة إحدى غايات السلوك البشري ومعيار الأخلاق. إن «الخير»- في نظر تلك المذاهب الفلسفية- يتمثل في اللذة أو الفعل الذي يؤدي إليها، و«الشر» هو الألم أو ما يؤدي إليه؛ لأن كل إنسان بفطرته ينزع نحو تحقيق اللذة، ويجتهد لتجنب كل ألم.
ويُعَد «ديمقريطس» من أوائل الفلاسفة الذين تبنوا مبدأ اللذة في الأخلاق، وقد استفاد أبيقور من نظريته في اللذة كما استفاد من نظريته في المعرفة ومن نظريته في الذرة، وقد ابتدأ أبيقور تلميذًا من أتباع مدرسة «ديمقريطس» وامتدحه، بيد أن «أبيقور» خرج عليه بعد ذلك وزعم أن مذهبه (أي مذهب أبيقور) مبتكر لا يدين فيه لأحد، حتى لـ «ديمقريطس» نفسه.
ذهب «ديمقريطس» إلى أن الإنسان، ككل كائن حي يبحث عن السعادة، وهي «تتحدد باللذة والألم». وذهب كذلك إلى أن آفة الإنسان هي الإفراط في الطعام والشراب والجنس، وغير ذلك من اللذات الحسية، التي كثيرًا ما تتحول إلى آلام، لذلك دعا إلى التمييز بين اللذات المختلفة واختيار «اللذة البريئة» وأسماها متعة النظر إلى الأشياء الجميلة. هكذا انتهى ديمقريطس إلى القول بالسعادة العقلية وهي سعادة الهدوء والفراغ من المشاكل والتأثيرات الخارجية.
دعا «أبيقور» أيضًا إلى التمييز بين اللذات وبين الآلام من ناحية والتمييز بين اللذات وبعضها البعض من ناحية أخرى بحيث يختار المرء أفضل الحالات المناسبة له بُغية تحقيق السعادة، وهي تكمن عنده أيضا في الاكتفاء الذاتي، وفي الخلو من الآلام، والهموم. ( د. حمزة السروي، الأخلاق بين اللذة والزهد - دراسة في فلسفة الأخلاق عند كل من الأببيقوريين والرواقيين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2023، ص 16)
دعا «ديمقريطس» إلى الفضائل مثل الاعتدال والشجاعة، فالاعتدال في إشباع اللذات هو الذي يجنبنا سوء العاقبة، ورأى أن شجاعة المرء في التغلب على أهوائه أسمى من النصر على أعدائه، فالشجاعة هي التي تؤدي إلى الصبر على المكاره، ومقاومة المخاوف، ونحن نصل إلى تحقيق العدالة والشجاعة وسائر ضروب الفضائل عن طريق التربية. وبالمثل ذهب أبيقور إلى الإعتداد بالفضائل من قبيل وأوضح الحكمة والشجاعة والعدل، وأوضح العلاقة بينها وبين اللذة، ولكنه كان أكثر وضوحا من «ديمقريطس» حين صرح بأن هذه الفضائل ليست غايات في حد ذاتها وإنما هي مجرد وسائل لتحقيق اللذة.
أقر «ديمقريطس» أن كل أخلاق ينبغي أن تنطلق من مبدأ أن الإنسان أناني بطبعه، وهو نفس المبدأ عند «أبيقور»، ولكن «ديمقريطس» دعا إلى الصداقة واعتبرها قيمة كبرى، وهي ما دعا إليها «أبيقور» أيضًا، بيد أن ديمقريطس أفسح مكانًا أوسع للحياة الاجتماعية، أكثر مما فعل «أبيقور». وباختصار لقد قال «ديمقريطس» بصورة أبسط كل ما قرره «أبيقور» تقريبًا فيما بعد.
ولقد طرح «أنطيفون» تصوره للذة والألم في إطار من الفردية والأنانية، فرفض الزواج وإنجاب الأطفال لما يجلبانه من متاعب وقلاقل تتعلق بإعالتهم والاهتمام بشئونهم إضافة إلى إعالة نفسه حيث يقول: «ما أعظم الجهد الذي أبذله في العناية بنفسي من أجل الصحة وكسب العيش، والحصول على الشهرة والاحترام والمجد والسمعة الحسنة، فماذا يحدث إذا ضممت إليَّ بدنًا آخر له مثل هذه المتاعب، أليس من الواضح أن الزوجة إذا كانت موافقة لزوجها تجلب له من الحب والألم فيرعى صحة بدنين، ويكسب عيش شخصين، ويظفر بالاحترام والشرف لاثنين، فإذا أنجب أطفالاً إزداد همه وولى شبابه وتغيرت هيئته».
هكذا يؤثر «أنطيفون» حياة العزلة والانسحاب من المجتمع حتى في أبسط صورة له وهي الأسرة، ليتوفر على رعاية نفسه والانصراف إلى شئونه الخاصة، ولكنه رغم ذلك دعا إلى توافق المرء مع ذاته ومع المجتمع، وأعظم سُبل التوافق عنده هي الصداقة، الأمر الذي يخفف من نزعته الأنانية، ويحقق نوعًا من التوافق بين السعادة ومبادئ المجتمع. وإلى مثل هذا أيضًا ذهب «أبيقور»، حيث دعا إلى العزلة والإنسحاب من المجتمع، وكذلك دعا إلى الاهتمام بالصداقة وتأكيد دورها في تحقيق اللذة.
أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس