عصمت نصار.. مفكرا عربيا معاصرًا أنيقا
د. عادل القليعي
بداية قد أجابه بسؤال، قد يكون ظاهره طيب، لكن باطنه يحتمل تأويلات كثيرة، تحمل من الخبث ما تحمله من بعض المغرضين، أعداء النجاح وأعداء الإنسانية، دوما ما كان يلقبهم مفكرنا العربي الأصيل"بالأصدقاء".
هذا السؤال، لم الكتابة عن هذا الأستاذ، وما الذي شدك ولفت نظرك وجعله مدعاة للفخر والاعتزاز والكتابة عنه شأنه شأن من كتبت عنهم كتب تذكارية.
الإجابة باختصار شديد غير مخل، ولم لا نكتب عنه، كسائر المبدعين الذين ألفت عنهم موسوعات تحمل أفكارهم وتشهد على مآثرهم ومفاخرهم.
الرجل بشر يصيب ويخطأ، يتفق عليه كثيرون ويختلف عليه أيضا، وتلك سنة كونية ولولا الاختلاف والتفاوت بين الناس في أفكارهم ما تحققت المنهجية والموضوعية التي نصبو إليها، ولما تحقق حلمنا، بناء عقل ناقد معاصر يتواءم ويتوافق مع متغيرات العصر ومستجداته.
ثم أمر آخر مدعاة للكتابة عن هذا الأستاذ الأكاديمي ألا وهو موسوعيته الثقافية و رؤاه المتعددة وقراءته النقدية لخريطة الفكر العربي ورؤيته حول ما أصاب الفلسفة العربية من عطب ومحاولته المستمرة لإقالة هذه العثرات والخروج بمنتوج فكري راق يرتفع بأمتنا العربية وبمفكريها لوضعها فى مكانة الصدارة التي تستحقها.
أيضا من الأمور التي تجعلني على المستوى الشخصي أن أكتب عن هذا المفكر بأريحية تامة مطمئن العقل، ما لمسته فى هذا الأستاذ من إنسانية مكتملة الأركان ، فما وجدناه إلا ناصحا أمينا ، الصغير قبل الكبير محتضنا كلاهما جميعا، فعلى المستوى الشخصي، كنت دوما ما أهرع إليه إذا ما حزبتني فكرة أو استوقفتني معلومة، أو حتى طلبت معونته ومشورته في فكرة موضوع ، فكان لا يتأخر أبدا عن إسداء النصح والإرشاد، بل كان يطور ويهذب لنا الفكرة، ويمدنا بكل ما هو جديد، سواء عن فلاسفة مغمورين أو مفكرين، ليس فى مجال الفكر العربي، بل فى علم الكلام والتصوف والفكر العربي الحديث والمعاصر، فإذا ما سألناه عن علم الكلام وجدناه متكلما أصيلا معاصرا موظفا أصالته لخدمة واقعه المعيش، وإذا ما تطرقنا للفلاسفة وجدناه كذلك، والأغرب من ذلك ، إذا ما حدثناه طالبين رأيه فى التصوف وموضوعاته وجدناه متصوفا زاهدا ، وحدثنا عن التصوف المعاصر ، واشهد أنه أمدني بأسماء متكلمين وفلاسفة ومتصوفة، ومفكرين إسلاميين لم أكن أعلم عنهم شيئا إلا اليسير، بل وأزيدكم من الشعر بيتا ، دوما ما كان يمدني بقوائم من المؤلفات وأسماء موضوعات تصلح عناوين معتبرة لكتب أو بحوث ترقيات.
أما إذا أردنا أن نتحدث عن أخلاقه ، فالرجل صاحب خلق عال وأدب جم ، كثير الصمت ، لا يتحدث كثيرا ، نجلس بجواره لا يتحدث إلا إذا حدثناه، يغلب عليه تواضع العلماء والمفكرين، التقيته ذات مره في سفر ، اجلسته وسط أسرتي ، ما وجدناه إلا رجلا مهذبا خلوقا ، صاحب كبرياء دونما تكبر.
تواصلت معه وأنا قليل التواصل ، وهذا تقصير مني واعترف بذلك ، تواصلت لأهنأه على عضوية اللجنة العلمية الدائمة ، قال لي سعادتي بالغة لا على أنني دخلت اللجنة وإنما لإعطاء الحقوق لأصحابها من يجيد يرقى ومن لا يجيد نهذب فكره حتى يليق باللقب العلمي دونما مجاملة لأحد ولا توصيات من أحد على أحد ، لمست ذلك بنفسي وقتما تقدمت للأستاذية ، وبعدما رقيت ، اتصلت به لاشكره فقد علمت أنه أحد أعضاء لجنة فحص بحوثي ، قال على ما تشكرني والله لولا أنك تستحق الترقية ما رقيت لدرجة أستاذ ، حكمنا بحوثك بمنتهي الحيدة والموضوعية وكل ملاحظاتي وضعتها في التقارير ، قالها لي (لابد أن تفصل بين صداقتنا وبين عملنا ، لأن ذلك سنسئل عنه أمام الله تعالى)
المفكر الكبير الأنيق شكلا وموضوعا ، أناقة مظهره ورابطات عنقه الجميلة انعكست على كل سجاياه وتصرفاته ، بل شكلت شخصيته ، فإن جاز لي أن ألقبه "بالفيلسوف الزاهد الأنيق"ورب سائل يسألني ، كيف تجتمع الأناقة مع الزهد ، أقول وهل الزهد يمنع الإنسان من أن يكون مظهره جميل وملبسه حسن ، وأخلاقه أنيقة وجميلة.
عصمت حسين نصار المفكر الإنسان خفيف الظل المرح صاحب الحس الفكاهي (ابن بلد ، وابن نكتة)، زرته فى بيته أنا وصديق لي ، تعرفت عليه عن قرب ، دخلت شقة داخل مكتبة ، المفروض نقول ، داخلنا مكتبته التي هي في شقته ، فوجدنا البيت كله مكتبه يعج بالكتب في كل مكان ، نطلب منه الكتب التائهة فنجدها عنده ولا يتأخر علينا ، كرم الضيافة ، ليس هذا وحسب بل لا يتركك حتى تتناول الطعام عنده ولزوما وبالأمر تنزل معه وتجلسان على المقهى ، كثير السؤال عنا وعن زملائه، بمنتهى الحب والود ، لا يذكر أحدا بسوء، بل يتمنى الخير للجميع.
دعوته ذاته مرة لمناقشة طالبة فى الامتحان الشفاهي التكميلي لمرحلة الدكتوراة، كنت وقتها رئيسا للقسم في فترتي الأولي فلم يتأخر ولبى الدعوى وكان كريما مع الدارسة إلى أبعد الحدود، حقا إنه الأستاذ المفكر الأنيق.
نأتي إلى منهجيته، يحمل فكر الأستاذ الدكتور عصمت نصار منهجا نقديا لمسنا ذلك ولمسه قرائه وتلاميذه من خلال قراءاتنا مؤلفاته ومن خلال مناقشاته العلمية الرصينة سواء مناقشاته لرسائل الماجستير والدكتوراة والتي حضرت بعض منها ، فما وجدته إلا بحاث منقبا ، غواصا فى بحور العمل الذي يقوم بمناقشته ، موجها ملاحظاته للباحث بأسلوب فكاهي يمتص رهبة الباحث ، دونما إخلال يمضون وجوهر الفكرة التي يقوم بمناقشتها تستشعر وأنت تسمعه وكأنك تحلق ويحلق بنا في فضاء رحيب من الأفكار الفلسفية وهذا ما جعل كثير من للمشرفين على البحوث العلمية يسعون جادين إلى استدعائه للمشاركة فى المناقشات ، يمسك بزمام البحث من أول صفحاته إلى آخرها بتوجيه فى الصميم يستفيد منه الباحث أو الباحثة وحتى الأساتذة الحضور وجمهور الحضور أيضا.
دعوته لحضور مناقشتي للدكتوراة وبعدما منحت الدرجة سألته ما رأيك أستاذنا ، قال"إنما هي البداية"، وبدأ يفند ردودي على لجنة المناقشة والحكم ، حتى اللجنة لم تسلم من انتقاداته ومنهجه النقدي الذي تعلمناه من سيادته ، وأن النقد لا يكون نقدا من أجل النقد، وإنما لإبراز وجهة نظرك فى القضية أو المشكلة المطروحة للمناقشة، وهذا ما لمسناه فى مؤلفاته فوجدنا تلك الرؤية النقدية فى مؤلفاته
الأبعاد التنويرية للفلسفة الرشدية فى الفكر العربي
اتجاهات فلسفية معاصرة في بنية الثقافة الإسلامية
فكرة التنوير بين سلامه موسى وأحمد لطفي السيد.
الفكر العربي الحديث بين النقد والنقض.
إمام المستنيرين الشيخ حسن العطار وبواعث النهضة المصرية في القرنين 18،19
الخطاب الديني والمشروع العلماني وجهان لعملة واحدة
ثقافتنا العربية بين الإيمان والإلحاد.وغيرها من المؤلفات القيمة التي تنطلق بنا نحو الحداثة والمعاصرة دونما التخلي عن اصالتنا.
مؤلفات تحمل ما تحمله من الأبعاد النقدي ، فلتنظروا لعنوان الفكر العربي بين النقد والنقض ، فثم تفرقة دقيقة يغفل عنها الكثير بين النقد ، فالنقد يعني البناء ، ننقد من أجل غربلة الأفكار بغية الوصول إلى الغاية المنشودة ألا وهي صحوة فكرية ، أما النقض فهو الهدم.
حتى إذا ما وصلنا إلى محطة شروحات الأستاذ في محاضراته ، فقد لمستها بنفسي ، شرحه يتسم بالسهل المبسط الممنهج ، يمسك بالفكرة مفصلا إياها تفصيلا دقيقاً ، فلا يجعلك تشرد منه ولا يترك المحاضرة إلا بعد تبسيطها تبسيطا ميسرا ليس هذا وحسب بل وقبل أن ينهي محاضرته يحيل الطلاب والطالبات إلى العديد من المصادر والمراجع وأماكن وجودها ،فيجعلك تعشق الفلسفة ويجعلك دوما في شوق إلى محاضراته وفي شغف ولهفة فى انتظار موعدها.
فضلا عن هذه السهولة فى العرض إلا إنه سهل ممتنع ، ممتنع على غيره ، أي لا أحد يستطيع القيام بما يقوم به ، كذلك يمكنني أن أطلق على شروحاته فى المحاضرات ، "السهل الممتنع اليقظ"، بمعني لا يمكن أن تلتف يمينا أو يسارا ، وإنما جل انتباهك موجه إلى سماعه بيقظة ، ويقظتك كمتلقي من يقظته كمعلم ، بمعني ، ممكن فى أي لحظه وهو يتنقل فى قاعة الدرس يباغتك بوضع يده على كتفك ويفاجئك بسؤال ، فإذا لم تكن يقظا فلن تستطيع الرد عليه.
أستاذنا الحبيب مهما كتبنا عنك فلن نوفيك حقك ، لكن هذا قليل من كثير، فسلام عليك فى الأولين وفي الآخرين.
سلام عليك بما قدمته لنا جميعاً من علم تعلمناه ولا لنا تنهل من فيوضات علومكم.
عشت أستاذا، مفكرا عملاقا، مفكرا أنيقا
دوما ما تمتعنا بكتاباتك ومؤلفات وبلقاءاتك التليفزيونية، وبمقالاتك فى الصحف والمجلات المصرية والعربية.
سأله أحد عن رأيه في، قال (أعطوه ورقة وقلم واتركوه يكتب)، وسئل سؤال آخر عني أيضا، عن فكري وكتاباتي، قال (أعطوه فكرة ودعوه ينطلق).
حفظك الله أستاذنا الكريم..
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان