د. حسين علي ,
ترك كثير من الموتى وبعض الأحياء بصمات بارزة على الذهنية العربية، فالعقل العربي ظل طوال عشرات القرون – وما زال حتى اليوم – أسير تصورات عقلية فُرِضَت عليه فرضًا، بوسائل متنوعة، من قِبَل أشخاص أحاطتهم هالة من التقدير والتبجيل، تصل أحيانًا إلى حد التقديس .. تقدير وتبجيل وتقديس هم ليسوا أهلاً له؛ ومرجع السبب في ذلك افتقار العقلية العربية للحس النقدي، وميلها المفرط لاستقبال ما يرد إليها من أفكار بوصفها أفكارًا صحيحة لا يشوبها أي عوار، رغم اتصاف تلك الأفكار– في الأغلب الأعم – بالتهافت والبطلان.
ولهذا السبب عجزت العقلية العربية عن الإبداع والابتكار إلا فيما ندر، وصارت «عقلية استهلاكية»، فعلى مستوى الحياة العملية يتضح لكل ذو بصر وبصيرة كيف يستهلك المواطن العربي المنتج الأجنبي من سيارة وطائرة وأجهزة محمول، حتى السبحة وسجادة الصلاة وفانوس رمضان وعلب الثقاب جميعها استراد الصين. لن نقف طويلاً أمام ظاهرة الاستهلاك على مستوى الحياة اليومية، ما يهمنا هو مستوى «الاستهلاك العقلي»، والعقلية الاستهلاكية تتلقى الأفكار جاهزة وتسلم بها دون فحص أو نقد، وسوف نقدم مثالاً يوضح مدى تأثر المواطن العربي بصفة عامة والمصري بصفة خاصة بالشائع من الأفكار، وذلك من خلال فحص تلك الأفكار التي روَّج لها الدكتور مصطفى محمود.
كان د. مصطفى محمود – رحمه الله – يقدم أسبوعيًا برنامجًا بعنوان «العلم والإيمان» على شاشات التليفزيون، وقد أكسبه برنامجه شعبية، «وهو في شعبيته هذه كان يتخذ أمام الجماهير الواسعة مظهر المفسر الديني، والحكيم، والعالم المطلع. وقد انسحبت شعبية الدكتور مصطفى محمود على كتبه ومؤلفاته. فالقارئ المتدين ينبهر حين يقرأ له تفسيرًا دينيًا مطعمًا بعبارات فلسفية ومصطلحات علمية. والقارئ الباحث عن حكمة الحياة وفلسفتها ينبهر حين تُقَدَّم إليه الفلسفة في إطار ديني وعلمي. والقارئ الذي يستهدف حقائق العلم ينبهر حين تُعْرَض عليه هذه الحقائق مرصعة بحكم فلسفية ومؤيدة بنصوص دينية. وهكذا يقدم الدكتور مصطفى محمود إلى قرائه توليفة فكرية تُرضي جميع الأذواق». (د. فؤاد زكريا، الصحوة الإسلامية في ميزان العقل، دار الفكر المعاصر، القاهرة، 1987، ص 212).
«صحيح أنه في مجال التفسير لا يُرضي معظم رجال الدين المتخصصين – سواء منهم أصحاب وجهة النظر المحافظة أو المتحررة، وإنه في مجال الفلسفة يسهل على أي مشتغل في هذا الميدان أن يكتشف نقص معلوماته وضعف منطقه. وإنه في ميدان العلم، قد توقف على ما يبدو عند السنوات الأولى من فترة دراسته الطبية، مضافًا إليها قراءات سريعة لكتب مفرطة في التبسيط. أي أنه باختصار لا يُرضي المتخصصين في أي ميدان من هذه الميادين الثلاثة، ولكن ما أهمية رضا المتخصصين إذا كانت الجماهير الواسعة قد أصدرت حكمها لصالحه، وأصبحت تتخذ منه مصدرها الأوثق، وربما الأوحد، في فهم حقائق الدين والفلسفة والعلم؟». (د. فؤاد زكريا، المرجع السابق، ص 211.)
فها هو في كتابه: «أناشيد الأثم والبراءة»، وتحت عنوان «العذاب ليس له طبق»؛ يقول:
«الذي يسكن في أعماق الصحراء يشكو مر الشكوى لأنه لا يجد الماء الصالح للشرب. وساكن الزمالك الذي يجد الماء والسخَّان والتكييف والتليفون والتليفزيون لو استمعت إليه لوجدته يشكو مرّ الشكوى هو الآخر من سوء الهضم والسكر والضغط. والمليونير ساكن باريس الذي يجد كل ما يحلم به؛ يشكو الكآبة والخوف من الأماكن المغلقة والوسواس والأرق والقلق. والذي أعطاه الله الصحة والمال والزوجة الجميلة يشك في زوجته ولا يعرف طعم الراحة. والرجل الناجح المشهور النجم الذي حالفه الحظ في كل شيء وانتصر في كل معركة لم يستطع أن ينتصر على ضعفه وخضوعه للمخدر فأدمن الكوكايين وانتهى إلى الدمار. والملك الذي يملك الأقدار والمصائر والرقاب نراه عبدًا لشهوته خادمًا لأطماعه ذليلاً لنزواته. وبطل المصارعة أصابه التصخم في القلب نتيجة تضخم العضلات. (د. مصطفى محمود، أناشيد الأثم والبراءة، ص 39)
ويختتم دكتور مصطفى محمود هذه الحكم والمواعظ بمقولة تتردد كثيرًا على ألسنة الناس في الشارع في مصر والعالم العرب يصبرون بها أنفسهم على حالة التردي التي يعيشونها وطمأنة أنفسهم بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، إذ يقول:
«كلنا نخرج إلى الدنيا بحظوظ متقاربة برغم ما يبدو في الظاهر من بعد الفوارق» (د. مصطفى محمود، المرجع السابق، ص 40).
ردًا على مصطفى محمود نقول: إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يرضى بما هو عليه .. وهذه ميزة كبرى - في رأينا - تميز الإنسان عن غيره من الكائنات الأخرى .. إن كل الإنجازات البشرية مصدرها هذه الخاصية التي يتسم بها الإنسان .. إن الرضا والقناعة وقبول ما هو واقع، لو سادت تلك الخصائص في كل البشر لصاروا أقرب ما يكونوا للملائكة، وما كانت قد تمت الكشوف العلمية؛ ولظل الإنسان قابعًا حتى اليوم في كهوف مظلمة.
إن الحياة على الأرض زاخرة بالمتناقضات: غابات في أفريقيا شديدة الكثافة، الأشجار فيها متراصة بعضها بجوار بعض؛ مما جعلها مصدرًا للأوبئة والأمراض.. في حين أن الصحاري القاحلة في شمال أفريقيا والربع الخالي في السعودية لا زرع في تلك المناطق ولا نبت .. ولو أن تلك الأشجار تم توزيعها بالتساوي في أفريقيا وصحاري آسيا .. لسعد أهالي أفريقيا وسعد أهالي آسيا!!
من ناحية أخرى الأمطار تنزل غزيرة على المحيطات التي ليست في حاجة إليها .. في حين أن مناطق صحراوية كثيرة على سطح الكرة الأرضية عطشى لنقطة ماء.. لو أن تلك الأمطار الغزيرة سقطت على المناطق الصحراوية القاحلة لسعد كثير من البشر.
كذلك نجد شخصًا طويلاً شديد الطول، وآخر قصيرًا على نحو معيب!! .. ونصادف شخصًا بدينًا بدانة مفرطة، وآخر نحيفًا نحافة ملفتة للنظر!!.. ونلتقي بشخص كثيف الشعر على نحو مزعج، في الوقت الذي يعاني فيه شخص آخر من حالة صلع شديدة الوطأة .. كل طرف من الطرفين ساخط وغير راضي عن حاله.. ولو أن كل طرف أعطى جزءًا مما عنده للطرف الآخر لسعد الجميع.
لا أظن أننا «كلنا نخرج من الدنيا بحظوظ متقاربة» كما زعم د. مصطفى محمود - مع احترامنا الشديد له - وإلا فما جدوى التنوير، مادامت حظوظ الشعوب العربية متقاربة مع حظوظ الشعوب الأوروبية.
لم يكن مصطفى محمود - مع احترامنا الشديد له - تنويريًا، بل أسهم بقسط وفير في تغذية التيارات الدينية، وتغييب وعي الناس بكتاباته، وبحلقات برنامجه «العلم والإيمان» سامحه الله ورحمه رحمة واسعة. وهو برنامج مفبرك ومضلل .. كان مصطفى محمود يأتي بفيديوهات علمية أعدها علماء غربيون أجلاء .. وضعوها بهدف نشر الوعي العلمي .. ويقوم هو بتوظيفها - عكس الغرض الذي صُنِعَت من أجله - إذ وظفها لتضليل عقل المشاهد بالترويج للغيبيات على حساب الوعي العلمي.
وهكذا يخلط الأمور بعضها ببعض مما أدى إلى تضليل العقل العربي، ها هو د. مصطفى محمود على الحقيقة، لا كما هو متصور في أذهان الكثيرين، بوصفه كاتبًا ومفكرًا تنويريًا كبيرًا. إن هذا الأمر يقتضي منا مراجعة أفكارنا وتصوراتنا عن كثير من الرموز السياسية والفكرية والدينية التي تزدحم بها رؤوسنا، ونضفي عليها هالات من التبجيل والتقدير والتوقير، وهى في حقيقة أمرها غير جديرة بشيء من هذا.