رؤى فلسفية| «رينيه ديكارت».. ومشروعه الفلسفي (5 – 7)
يأتي هذا المقال هو الجزء الخامس والأخير كما حددنا هذا بعنوان السلسلة مُنذُ الجزء الأول، وكان هدفنا طيلة هذه السلسلة أن نقدم للقارئ صورة واضحة عن رينيه ديكارت من خلال بيان أسس بنائه الفلسفي وكيف خرج لنا ديكارت بفلسفة جديدة ومغايرة عن كل الفلسفات التي سبقته؟ إلا أننا وجدنا أن هذا التصور يحتاج إلى مزيد من التفسير والتحليل، اللازمان لإكمال هذا التصور في ذهن القارئ، لذلك عزمنا أن نضيف على ما قدمناه جزآن آخران، ليكونا المتممان لهذه السلسلة.
لقد أنتهي الشك بــ "ديكارت" إلى اكتشاف ما يسمي بــ الكوجيتو وهو اختصار العبارة اللاتينية Cogito ergo sum "أنا أفكر إذن فأنا موجود"، الذي كان الأساس، الذي أقام عليه «ديكارت» صرح فلسفته، بل منهجه كله، للبحث عن الحقيقة، ومن اهم العوامل التي ساعدت على شهرة «ديكارت» وتلقيبه بــ «أبو الفلسفة الحديثة»، وهو «المنهج الجديد» الذي أبتكره وأقام عليه فلسفته كلها.
يقول ديكارت: «لقد كنت من المحظوظين بالفعل في الوصول إلى أحدي الحقائق اليقينية، التي لا يمكن الشك فيها، وهي تكفي وحدها للخروج من هذا الشك، وتأسيس الفلسفة"، ومثل أرشميدس الذي كان يبحث عن نقطة ثابتة تدور الأرض حولها، كان ديكارت هو أيضاً يبحث عن حقيقة يقينية ثابتة تنطلق منها الفلسفة. ثم يقول: "ما كنت في ذلك الشك مقلداً اللاأدريين الذي لا يشكون إلا لكي يشكوا ويتكلفون أن يظلوا دائماً حيارى، فإنني على العكس، كان مقصدي لا يري إلا إلى اليقين، وإلى أن أراعي الأرض الرخوة والرمل لكي أحد الصخر».
وعلي ذلك لا يوجد شيء بداية يمكن البرهنة عليه أكثر من تلك الحقيقة «أنا أفكر إذن فأنا موجود»، وهو وجود الذات المفكرة. وإذا كان الشك الديكارتي قد أصاب وجود البدن أو أي شيء آخر يقع خارج نطاق الفكر، فإنه يجب التأكيد على أن الحقيقة القائلة «أنا أفكر إذن فأنا موجود» سوف تثبت لنا أيضًا الوجود الفكر للانا، فأنا أفكر بمعني أني موجود يتعقل ويشك ويفهم ويثبت وينفي ويرغب ويتخيل ويشعر. ويؤكد ديكارت خلال ذلك على أنه طالما أن التفكير هو حقيقة واقعة.
كما أن الحقيقة التي اكتشافها ديكارت عن الكوجيتو هي مبدأ غير مشروط لمذهبه الفلسفي من حيث إنها الحقيقة الأولي التي وصل إليها العقل الباحث عن اليقين، وبالتالي فأنها ليست مستمدة من أية معرفة سابقة. ومن اليقين بوجود الذات المفكرة (أو الذات الميتافيزيقية) أستخلص ديكارت جميع الحقائق الميتافيزيقية الأخرى، أستخلص ديكارت أولًا: التمييز الحاسم بين النفس والجسم، وأستخلص ديكارت أيضًا أن جوهر النفس هو الفكر وأن جوهر الله هو الكمال، وأن جوهر الجسم هو الامتداد.
هذا هو مبدأ «الكوجيتو» المشهور الذي جعله ديكارت نقطة انطلاق الميتافيزيقا الحقة، والذي استخرج من سلسلة بديعة من النتائج: أولها أن الإنسان يفكر، وأنه موجود من حيث إنه مفكر، وهذه الحقيقة إنما ندركها بلمحة نافذة من لمحات الفكر الواعي المنبه، هي نظرة ذهنية بلغت من الوضوح مبلغًا يزول معه كل شك؛ فهي حدس عقلي، أي رؤية ذهنية سريعة مباشرة، وليست قياساً يتم في زمان واستدلالًا منطقيًا يتدرج من «المبادئ» إلى «النتائج». كما يقول فلاسفة العرب، ولكنها حدس أول واحد خاطف وتلك هي الواقعية اليقينية، أنا اعرف نفسي الآن موجودًا ولا أعرف نفسي إلا كذلك. وماذا عن الهدف الذي سعى من خلاله صانع «الكوجيتو»؟
عزيزي القارئ أن ترتيب الحقائق التي يهدف ديكارت إلى إثباتها في مذهبه الميتافيزيقي، كفيل بأن يكشف لنا على أن الحقيقة الأولي التي يقوم عليها بناء الميتافيزيقا هو وجود الذات، واتخاذه من الكوجيتو أساسًا لأثبات وجودها، مما يعني أن ديكارت هو «اب المثالية الحديثة»، مادام جوهر المثالية هو تأكيد أولوية الفكر على شك عارض، وعلى ذلك فإن الترتيب في هذه الحالة – الشك ثن الانتقال إلى الفكر – هو ترتيب منهجي، لا مذهبي. ولكن هل قدم لنا ديكارت معنى واضح للإدراك خلال مبدأ الكوجيتو؟
بالطبع صديقي القارئ بين لنا ديكارت بكلمات واضحة وصائبة ماذا يقصد بالإدراك في بنائه الميتافيزيقي، وفي ذلك يقول ديكارت: «حين أري وأمشي، فأنا موجود، وحين أقصد من الكلام على الرؤية أو المشيء، عمل عيني أو ساقي، لا يكون استنتاجي استنتاجًا يقينيًا ينتفي معه كل شك: قد أظن أني أري أو أمشيء دون أن أفتح عيني أو أبرح مكاني، كما يحدث لي أحيانًا وانا نائم، بل ربما يقع لي هذا الظن نفسه، لو لم يكن لي جسم على الاطلاق. ولكن حين اريد أن اتحدث فقط عن عمل فكري أو وجداني، أي عن المعرفة التي أجدها في نفسي، والتي تخيل لي أني أري وأمشي، تكون النتيجة صحيحة لا يمكن الشك فيها، لأنها ترجع إلى النفس لها وحدها ملكة الوعي أو التفكير على أي نحو آخر». والسؤال الآن، هل تنتهي فلسفة ديكارت بالوصول إلى مبدئه الشهير «الكوجيتو»، أم هناك جوانب أخرى بفلسفته تحتاج إلى إلقاء الضوء عليها؟ سيكون هذا موضوع الجزآن القادمان من السلسلة إن قدر لنا الله البقاء واللقاء.