مسرحية تعرض كل ليلة منذ 64 عاما! .. الملايين يقعون في "مصيدة" أجاثا كريستي
منير مطاوع - كاتب مصري
من القاتل؟
لم يكن السؤال الأهم الذي يشغلني وأنا أشاهد هذه المسرحية البوليسية للكاتبة البريطانية الشهيرة والقديرة أجاثا كريستي. كنت مهتما أكثر بأن أعرف إجابة سؤال آخر أهم: ما سر استمرار عرض "مصيدة الفئران" منذ قدمت لأول مرة على المسرح سنة 1952 حتى الآن؟!
في 25 نوفمبر 2016 احتفل كل المشاركين في إنتاج وتقديم المسرحية بإحياء الذكرى الرابعة والستين لإطلاقها، واحتفل معهم الجمهور أيضا. ومنذ سنوات طويلة تزيد عن ربع قرن، وأنا أنوي أن أذهب إلى المسرح لمشاهدة هذه المسرحية الظاهرة. لكن شيئا ما كان يأخذني عن ذلك. أحيانا أفكّر في أنها مسرحية تجارية لا تستدعي الاهتمام، وأحيانا أقول إن مرور كل هذه السنين على "مصيدة الفئران" يعني - من زاوية نظر معينة - أنها مسرحية عتيقة تجاوزها الزمن ولا بد أنها تقدم بلغة وفن مسرحي ينتسب للخمسينيات من القرن العشرين. فهل أذهب لمشاهدة مسرحية متحفية؟!
ولعل هذه الهواجس هي التي كانت تحول بيني وبين الوقوع في "المصيدة" خصوصا وأنني شاهدت مسرحيات كثيرة، منها التقليدي ومنها الحداثي ومنها أيضا العروض المسرحية التي تجمع بين التمثيل والموسيقى والغناء والمسماه "ميوزيكال". وحضرت أيضا عروضا للأوبرا والباليه، فما بالي أتجاهل أو أتحاشى أو أتناسى مصيدة أجاثا كريستي التي ضربت بامتداد عرضها طوال كل هذه السنوات، الرقم القياسي لطول مدة واستمرارية العرض المتواصل دون انقطاع؟ مع أنني ممن يستمزجون أدب "أجاثا كريستي" وقرأت لها روايات عدة بلغتها الأصلية الإنجليزية، حتى أنني أقتني مجموعة مجلدات أعمالها الروائية الكاملة (66 رواية). وأعرف أنها كتبت أيضا 150 قصة قصيرة و19 مسرحية، وأعتبرها في بعض هذه الروايات، من كتاب روائع الأدب الإنساني ولا يعيبها أنها كاتبة جريمة أو أنها رائدة الأدب البوليسي. وبالمناسبة، فـقد لاحظت أن "مصيدة الفئران" ليست محسوبة ولا موجودة في هذه المجلدات، إذ أن المؤلفة نفسها لم تكن تعتبرها عملا جديرا بأن تضمه إلى أعمالها الكاملة!
والحقيقة أن "مصيدة الفئران" لم تكن رواية مثل رواياتها الأخرى (66 رواية)، ومع أن أجاثا كريستي كتبت 19 مسرحية، لكنها لم تكتب المصيدة كمسرحية، فقد كتبتها سنة 1947 كقصة قصيرة وكانت تطلق عليها "ثلاثة فئران عمياء" ثم أعدتها كتمثيلية لتقدم في الإذاعة لمرة واحدة، بناء على رغبة عبرت عنها الملكة ماري، واستجابت لها الكاتبة، وعندما لقت نجاحا طلب أحد منتجي المسرح البريطاني أن يشتري حق تحويل التمثيلية الإذاعية إلى مسرحية، ولم تمانع المؤلفة وكتبتها للمرة الثالثة كمسرحية وطلبت ألا تنشر القصة القصيرة وألا تحول إلى فيلم سينمائي طوال زمن عرض المسرحية، ومنحت مستحقاتها المالية عن المسرحية هدية عيد ميلاد لأحد أحفادها، وظنت أنها ستكون مسرحية متواضعة قصيرة العمر.
ففي مذكراتها التي نشرت بعد وفاتها 1976 بسنة، أشارت إلى محادثة جرت بينها وبين أول منتج للمسرحية "بيتر سوندرز" الذي قال لها إنه لا يتوقع لها أن يدوم عرضها أكثر من 14 شهرا، لكنها راجعته بالقول: "هذا كثير، أعتقد أنها لن تستمر لأكثر من ثمانية أشهر". لكن توقعاتهما لم تكن صحيحة، ولم يكن ممكنا لهما ولا لأي أحد أن يتوقع أن تمر حتى الآن أكثر من 64 عاما ولاتزال المسرحية معروضة منذ إطلاقها في 1952. ليس هذا فقط بل إن هناك طاقما مسرحيا آخر يقوم بعرضها على مدار العام في مدن وأقاليم بريطانيا وفي بلدان أخرى حول العالم!
لكن المسرحية لم تعرض تحت الاسم القديم "ثلاثة فئران عمياء". لأن مسرحية بهذا الاسم ظهرت وعرضت قبل الحرب العالمية الثانية، واقترح الاسم الجديد "مصيدة الفئران" واحد من عائلة المؤلفة هو زوج ابنتها الوحيدة، وقد اختاره من مشهد في مسرحية "هاملت" الشهيرة لشكسبير.
وقبل أن تعرض المصيدة في لندن، كانت قد عرضت لأول مرة على المسرح الملكي في مدينة نوتنجهام، ثم تجولت في عدة مدن بريطانية أخرى، قبل أن يشاهدها جمهور العاصمة لندن على مسرح "امباسادور" في حي المسارح "ويست إند" واستمر العرض حتى سنة 1974 لينتقل إلى مسرح أكبر ملاصق له هو "سان مارتن" الذي شاهدتها عليه والذي شهد الاحتفال بمرور 64 عاما متواصلة على عرضها.
المسرحية المتحفية
وصفت إحدى الناقدات البارزات مشاهدتها لمسرحية "مصيدة الفئران" منذ عدة سنوات، بأنها أشبه بزيارة متحف! فالجو العام عتيق والديكور والملابس التي يرتديها الممثلون والممثلات تعود إلى أكثر من نصف قرن. والحبكة محكمة طبعا والجو بوليسي تماما، والطريف أنك طوال مدة العرض حتى المشهد قبل الأخير لا تعرف ولا يمكنك أن تتيقن من يكون القاتل بين كل هؤلاء.
والحكاية بسيطة لكنها تنطوي على غموض مثير تفننت فيه "أجاثا كريستي" وأبدعت في رواياتها العديدة والطريف أن نعرف أن مادة القصة القصيرة التي تشكلت منها المسرحية مستمدة من واقعة حقيقية، لمقتل طفل اسمه "دينيس أونيل" بينما كان يتبناه مزارع في ريف "شوربشاير" البريطاني وزوجته. فنحن نشاهد على المسرح زوجين شابين - قام بالدورين في الموسم الأول عام 1952 الفنان الشهير الذي تحول فيما بعد إلى مخرج سينمائي بارز "ريتشارد اتنبره" مخرج فيلم "غاندي" وزوجته "شيلا سيم" - يرتبان اليوم الأول لمشروع صممت عليه الزوجة واضطر الزوج لمجاراتها فيه، وهو فندق صغير في منطقة ريفية منعزلة وزادها عزلة هبوط الجليد، ونتابع مع توالي فصول المسرحية حلول الشخصيات ووصولها للإقامة في هذا المنزل، ولكل منهما أسبابه، لكننا نفاجأ بأن هناك قاتلا هاربا وأنه واحد من هذه الشخصيات! وهذه هي العلامة المميزة لفن كريستي.. تجميع الشخصيات في مكان واحد ووجود القاتل بينها.. فمن القاتل؟
تمضي أحداث "المصيدة" لنتعرف على الشخصيات وأسرارها وملامحها ونبدأ في الشك، ومن بين الشخصيات مفتش بوليس يجري التحريات التي تزيد شكوكنا لكنها لا ترشدنا إلى القاتل. وهكذا، الغموض والشكوك والإبهام وتوزيع الاتهام على هذه أو هذا أو تلك أو ذاك من شخوص تحوم حولها جميعا الشبهات.
وفي اللحظة التي يكون غلبنا شعور عدم اليقين، تفاجئنا ملكة أدب الجريمة بالكشف عن القاتل، الذي يصدم ذكاء المشاهد باعتراف صريح ومباشر ودون أن يستجوبه أحد!
جمهور عالمي
عندما تدخل مبنى المسرح ستلاحظ أن الجمهور القادم لمشاهدة "المصيدة" ليس كله من البريطانيين. فالأغلبية هم سياح مندهشون وتكللهم علامة الاستفهام التي اجتذبتني: لماذا استمرت كل هذا الزمن ومازالت مستمرة؟ لماذا وقع الجميع وهم بالملايين، في مصيدة أجاثا كريستي؟! ما السر وراء كل هذا الإقبال؟
محاولات الإجابة عن هذا السؤال على مر السنين، وردت بشكل أو آخر، في مقالات ودراسات يمكن أن تملأ مجلدات ومع ذلك ليست هناك إجابة واضحة ومؤكدة. هل هي الحبكة؟ هل لعب الغموض دوره وتأثيره السحري؟ هل هو "التويست": الانقلاب في مسار الأحداث وأسرار الشخصيات؟ هل هي النهاية غير المتوقعة؟ هل هو اسم أجاثا كريستي وشهرتها العالمية التي تحققت من خلال رواياتها المترجمة إلى لغات العالم والمنتجة في أفلام ودراما تليفزيونية يشاهدها الناس في أنحاء الدنيا؟ هل هو الاتفاق غير المكتوب والذي يلتزم به كل الأطراف، من المنتج والفنيين والفنانين والعاملين في المسرح.. وكذلك النقاد والجمهور؟ كم حجم هذا الجمهور على مدى 64 سنة من العروض المتواصلة؟! ملايين طبعا.. كل هؤلاء يتفقون مع طاقم المسرحية ويستجيبون لطلبهم الذى يقفون جميعا على خشبة المسرح بعد انتهاء المسرحية وتلقيهم التحية، ما طلبهم؟
"نرجوكم.. رجاء حارا.. لا تخبروا أحدا بسر المسرحية، لا تقولوا لأحد.. لا تكشفوا، لا تجيبوا عن سؤال: من القاتل.. كلنا شركاء في الجريمة، قولوا لمن يسألكم إنكم وعدتم بكتمان السر.. وعلى من يريد إجابة أن يأتي بنفسه ويشاهد العرض القادم؟!".
فهل يكون هذا التعهد - الذي أجد نفسي بسبب طرافته، ملتزما به أيضا- هو سر هذه المسرحية العتيقة؟ أم لكونها تكشف عن أعماق النفس البشرية، وعن أن البراءة الظاهرة ليست بالضرورة براءة، بقدر ماهي خداع أو قناع؟
المسرحية بسيطة ومسلية والشخصيات في معظمها نمطية، هكذا رأيتها، ولست أدعي أنني ناقد مسرحي، لكن حبي للمسرح يعود لقراءة كتب المسرح لتوفيق الحكيم في وقت مبكر، ومصاحبتي لكتاب ونقاد وفنانين مصريين خلال كتابة وتحضير وبروفات وتقديم ونقد بعض مسرحيات زمن الازدهار في ستينيات القرن العشرين.
لكن بعد مشاهدتها بقى السؤال معلقا: ما سر استمرار عرض "مصيدة الفئران" كل ليلة طوال أكثر من 64 سنة؟!
زادت حيرتي لكنني استسلمت لفكرة أنه سحر "أجاثا كريستي" التي تتمتع بأعلى قراءة لأعمالها حول العالم بأكثر من مئة لغة.