حبيب جاماتي .. الكاتب الساخر والوطنى الثائر
محمد رضوان
كان الكاتب الصحفى حبيب جاماتى (1898-1968) أحد أعمدة دار الهلال البارزين، وطالما شهدت مجلات دار الهلال: الهلال والمصور والاثنين والدنيا كتاباته المنوعة التى تتراوح بين الكتابات السياسية والتاريخية وأدب الرحلات وأدب الاعترافات وكلها تفصح عن شخصية حبيب جاماتى: الكاتب الساخر، والكاتب الوطنى الثائر المتمرد أبداً على الظلم والاستبداد والاحتلال الأجنبى للأرض العربية.
وقد كتب على صفحات مجلة الهلال العديد من المقالات والدراسات التاريخية التي استعاد فيها صفحات من التاريخ العربى وبعض ذكرياته فى ربوع البلدان العديدة التى زارها وبعض الشخصيات السياسية والأدبية التى التقى بها وعرفها ..
فى 18 فبراير سنة 1898 ولد حبيب جاماتى بمدينة «منيا القمح» بمديرية الشرقية، لأب سورى الأصل كان يعمل طبيباً، ثم ما لبث أن هاجر إلى لبنان.
وشب حبيب جاماتى منذ صغره يعشق مهنة القلم والصحافة التى ألهبت مشاعره الوطنية العربية العارمة.
وفى سنة 1917 بدأ يكتب فى بعض الصحف والمجلات العربية، ولم يكتف بذلك بل اشترك فى الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسى لبلاد الشام سنة 1925، وحكم عليه بالإعدام فعاد إلى مصر وواصل عمله فى الصحافة والكتابات التاريخية ووقف قلمه على القضايا العربية الكبرى.
ويروى حبيب جاماتى قصة اشتراكه فى الثورة العربية الكبرى ببلاد الشام فيقول: «التحقت بعدة ثورات، وجميع الثورات والحروب لا تخلو من مخاطر، ولكن الرصاصة التى أوشكت أن تودى بحياتى لم يطلقها عدو بل أطلقها صديق.. فقد كنت سنة 1917 فى مضارب الأمير فيصل بالقرب من العقبة مع صديق، وبيدى مسدس جاءنى هدية من زميلى فى ذلك الوقت سعيد عون فأخذه الصديق من يدى وجعل يقلبه ويفحصه، وفجأة انطلقت منه رصاصة مرقت فوق أذنى ومزقت العقال والكوفية وتركت جرحا خفيفا.. لأننى عطست فى اللحظة التى انطلقت فيها الرصاصة فنجوت بأعجوبة».
وعندما قامت ثورة 1919 فى مصر لم يتردد فى الاشتراك فيها حتى أصبح أحد قادة شباب تلك الثورة. وبعد أن اضطر حبيب جاماتى إلى وضع السلاح من يده بعد الحكم عليه بالإعدام سنة 1925 وعودته إلى مصر، امتشق سلاح القلم ووقفه على مناصرة القضايا العربية ومحاربة الاستعمار في كل أرجاء الوطن العربى، فكان عمله الصحفى جهادا وطنيا عربيا من الطراز الأول.
وقد برع الكاتب الأديب حبيب جاماتى فى صياغة قصص التاريخ بأسلوب أدبى رشيق يجمع بين الحقيقة والخيال. فأصدر سلسلة من الكتب الشائقة فى هذا المجال تحت عنوان «تاريخ ما أهمله التاريخ» عبارة عن قصص مستوحاة من وثبات الشعوب العربية وجهادها القومى وصراعها من أجل الحرية والاستقلال، لذلك كانت هذه القصص من أحب أعماله الأدبية إلى قلبه. وظل حبيب جاماتى طيلة حياته يغطى الأحداث العربية ويواصل من موقعه ككاتب كبير فى دار الهلال، فسخر قلمه للقضايا العربية حتى رحل عن دنيانا فى 21/7/1968، فكتبت عنه مجلة المصور تقول: «لقد فقدت أسرة دار الهلال فى حبيب جاماتى وطنيا شجاعا لا يأبه بالمخاطر، وإنسانا مرحا يسخر من الشدائد، ورجلا اتصف بالوفاء غاية الوفاء».
ولو أن القارى عرف فى حبيب جاماتى كاتبا هجاء ووطنيا ثائرا، إلا أن أصدقاءه ومحبيه عرفوه إنسانا مرحا خفيف الظل، لا تفارق الابتسامة وجهه، ولا تفوته النكتة حتى فى أحرج الأوقات.. وفى حياته الحافلة رأى الموت أكثر من مرة لكنه هزأ به ونجا منه بأكثر من أعجوبة». وكان للفقيد ابنتان.
ومن مؤلفاته التى أصدرها تحت عنوان «تاريخ ما أهمله التاريخ»: الحرية الحمراء - مصر الأقدمين - أغرب ما رأيت - إبراهيم فى الميدان.
***
وإذا استعدنا مسيرة حبيب جاماتى الكاتب والإنسان لوجدنا حياة حافلة بالأحداث والمواقف التى يمكن أن نفرد لها كتابا مستقلا، لكننا سنورد هنا بعض المواقف التى مر بها والتى رواها لنا بقلمه الرشيق السيال.
كتب ذات مرة عام 1953 يقول:
«تنبأ منجم هندى يوما بأننى سأعيش طويلا، ولو أننى على يقين من أن المنجم يبالغ فى التفاؤل والمجاملة، إلا أننى فعلا أرجو إلا أموت قبل أن يموت الاحتلال.. ويرحل آخر جندى عن مصر - وغير مصر - من بلدان هذا الشرق .. لقد تحرش بى عزرائيل أكثر من مرة ورجائى ألا يعود إلى التحرش قبل أن يتم تحقيق تلك الأمنية الغالية»!
وعند رحيله في يوليو 1968وبعد مضى أكثر من 15 عاما على هذه العبارة المرحة الساخرة، تحققت أمنيته، فقد تحرر العالم العربى من مشرقه إلى مغربه.. ونال الحرية التى جاهد من أجلها ثائرا، ومحاربا، وكاتبا عربيا وطنيا.
تعرض للموت أكثر من مرة ونجا منه بأكثر من أعجوبة سقط من ارتفاع 12 متراً وهو فى السابعة، ولكنه لم يصب بخدش لأنه سقط على كومة من الجلود .. «ولكن والدتى أصرت على أننى نجوت من الموت، لا بفضل الجلود، بل لأنها كانت فى تلك اللحظة تصلى من أجلى».
ولقد خاض حبيب جاماتى الحروب والثورات مرحا، ساخرا من الموت الذى كان يترصده فى كل خطوة.. فى خلال الحرب العالمية الأولى - وكان يعمل موظفا فى البنك الزراعى - نجا من قنبلة انفجرت على بعد عشرة امتار منه، وأول سيارة اشتراها سقطت فى نفق المترو عند منشية البكرى ولم يصب بخدش، وكاد يغرق أربع مرات ، مرة أثناء تحقيق صحفى عن صيد اللؤلؤ فى الخليج العربى، وثلاث مرات فى النيل .. وكان رحمه الله يعلق على كل ذلك بقوله: «يقال عن كل شخص ينجو من خطر أن حياة جديدة قد كتبت له، وأنا والحمد لله قد كتبت لى حياة جديدة أكثر من مرة.. والأعمار بيد الله».
ومما يذكر أنه أثناء اشتراكه فى الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي تحدى الجنرال الفرنسى سرايل، ودعاه إلى المبارزة بعد أن أمر بضرب دمشق بالمدافع وهدم أسواقها، ولكن الجنرال الفرنسى رفض المبارزة. سألناه يوما وهو يروى هذه القصة: «لو لم يرفض الجنرال الفرنسى المبارزة، لكنت اليوم فى عداد الأموات» فقال رحمه الله ضاحكا: «لو بارزنى الجنرال سرايل لقتلته، لأن رصاصى هو رصاص الحق.. أما رصاصه فرصاص الباطل»!
وعاد حبيب جاماتى إلى القلم، ولكنه دخل الصحافة هذه المرة من باب الثورة، فكان عمله الصحفى جهادا وطنيا من الطراز الأول، ولو أننا عرفناه كاتبا وصحفيا ومترجما، وعرفه القارئ رئيسا لتحرير مجلة إيماج التى كانت تصدر عن دار الهلال بالفرنسية، هدفه الأول الدعاية الطيبة لبلاده باللغة الفرنسية، ألا أن القارئ العربى أحبه أكثر من خلال قصصه «تاريخ ما أهمله التاريخ»، وهى أكبر حملات التوعية الوطنية التى قام بها عربى ثائر حتى الآن.. فهى قصص مستوحاة من وثبات الشعوب والأفراد فى جهادهم القومى، وصراعهم من أجل الحرية والاستقلال، لذلك كانت هذه القصص من أحب أعماله إلى قلبه.
سئل يوم أخرج كتابه «الحرية الحمراء»: «ألا تكتب مقدمة لهذا الكتاب؟» فقال على الفور: «وهل الحرية فى حاجة إلى من يقدمها؟» قيل له: «إذن اكتب اهداء» فقال: «إننى أهديها إلى كل مظلوم ضيق الظالم عليه الخناق، أو حط الاستعمار عليه بأثقاله، فعمد إلى الثورة ليحرر نفسه، وحطم القيود، وأفلت من الأسر، وبذل فى سبيلها المهج الغالية.. والدماء الحمراء».
حين وضع حبيب جاماتى السلاح بعد الثورة العربية الكبرى، اتخذ من القلم سلاحا يبحث به عن سير الأبطال الذين يشهرون السيوف فى وجوه الغاصبين، ويمحون الطغيان والعدوان، وينتقمون للمظلومين من الظالمين.. لعل بطلا عربيا يطهر فيعيد إلى العروبة مجدها الضائع، وحقها المغتصب، واستقلالها المسلوب.