رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


حكايات «كليلة ودمنة».. قصة «الثعلب والذئب» (11-30)

21-3-2024 | 14:32


كليلة ودمنة

أروى أحمد

«كليلة ودمنة» هو من أشهر الكتب بالعالم التي تقدم عالمًا كبيرًا من  الحكايات والكتاب يضم  مجموعة من القصص المتنوعة، التي ترجمها عبد الله بن المقفع من الفارسية إلى اللغة العربية في العصر العباسي وتحديدًا في القرن الثاني الهجري، وكتبه بأسلوبه الأدبي، وقد أجمع عدد كبير من الباحثين على أن الكتاب يعود للتراث الهندي، وتمت ترجمته في البداية إلى اللغة الفارسية ثم إلى اللغة العربية، وسبب نشأته جاءت من رغبة ملك هندي يدعى دبشليم بتعلم خلاصة الحكم بأسلوب مسلي فطلب من حكيمه بيدبا أن يؤلف له هذا الكتاب.

وكان للنسخة العربية من «كليلة ودمنة»  دورًا رئيسيًا ومهما في انتشاره ونقله إلى لغات العالم، ويصنفه النقاد العرب القدامى في الطبقة الأولى من کتب العرب، ويرون أنه أحد الكتب الأربعة المميزة إلى جانب كتب أخرى، وهو يحتوي على خمسة فصول تضم خمسة عشر بابًا رئيسيًا يتناول قصص تراثية للإنسان على لسان الحيوانات.     

وتقدم  بوابة «دار الهلال» لقرائها طوال شهر رمضان المبارك 1445 هجريا، من كتاب «كليلة ودمنة» كل يوم قصة،  وحكاية  اليوم  بعنوان «الثعلب والذئب».

«اتّفق أحد الثعالب وأحد الذئاب أن يصيرا أصدقاءً ويعيشا سويّاَ، وتعاهد الاثنان على المحبة والتعاون فيما بينهما.

وانطلق الثعلبُ والذئبُ داخل الغابة بعد تعاهدهما على التعاون والوفاء، وذلك ليجد كلٌ منهما مكانًا يأويه في الغابة الكبيرة، وتفرّق الاثنين عند نُقطةٍ في مُنتصف الغابة كُلٌ منهما باتجاهٍ عكس الآخر.

فصديقُنا الذيبُ قد عثرَ على بيتٍ مكوّن من غُرفةٍ مبنيّةٍ من حجارةٍ صلبةٍ قويةٍ ذات سقفٍ من الحديد الصلب وأبوابٍ قويّةٍ من الخشب، فقلد كان البيتُ في الأساس لمجموعة صيّادين، قد تركوهُ وراءهم لرحيلهم لمكانٍ آخر يكثُر فيه الصيد.

ففرح الذئبُ كثيرًا وحمد الله على هذه الغرفة القويّة والمتينة، ومن طيبة قلب صديقنا الذئب، تذكّر صديقه الثعلب وقال في نفسه "يالجمال هذا البيت، إنّه يسعُني أنا وصديقي الثعلب"، وحينما زار الذئبُ صديقهُ الثعلب وجده قد عثر على غُرفةٍ خربةٍ ضعيفةٍ لا تصلُحُ للحياة فيها، واقترح الذئب على الثعلب أن يعيش معهُ في بيته القوي، وبالفعل،  ذهب الثعلب مع الذئب لبيته، وتفاجأ بمجالِ واتّساعِ وقوّةِ تلك الغرفة.

وحينها أدرك الثعلب المكار بأنّ هذه الغرفة هي خيرُ مكانٍ يحميه من برد الشتاء وحرارة الصيف، فأرادها الثعلبُ لنفسه كثيرًا وبدأ بتنفيذ خطّته الماكرة للاستيلاء على هذا البيت القوي من الذئب المسكين، فقال لهُ: يالحظّك السيء يا صديقي الذئب! هذه الغُرفة لن تُساعدك إذا تعرّضت لهجوم البشرِ عليك.

فقال الذئب: وكيف ذلك؟ فردّ الثعلبُ قائلًا: إذا تعرّضت لهجومِ إنسانٍ وانت نائمٌ فكيفَ ستُخرجُ نفسك من هذه الغرفة؟ فهذه الغرفة مُحكمة من جميع الجوانب، فردّ الذئبُ قائلًا: وما الذي يإمكاني فعلهُ يا صديقي؟.

ردّ الثعلب: يُمكنك أن تأخُذ انت غرفتي فهي بلا سقف ولا أبواب، كما أنّها بفتحاتٍ كثيرةٍ في جُدرانها تُساعدك كثيرًا في الهروب إذا ما تعرّضت لهجوم، وأنا على استعدادٍ أن آخذ غرفتك هذه، فصدّقه الذئبُ وهو يقول له: جزاك الله صديقي كلّ الخير..ولكن ماذا عنك؟ فأجابه الثعلب المكار: "لا تخف عليّ يا صديقي، فأنت تعلم بأني أستطيعُ أن أتدبّر أمري جيدًا، المهم أن أجدك آمنا وسعيدًا".

ويا فرحة ما تمّت، ففي أول ليلةٍ للذئب في بيت الثعلب، هبّت عاصفةٌ قويةٌ وبدأت الأمطارُ بالهطول، حتى امتلأت غرفةُ الذئبِ الجديدةِ بالمياه، وأصابته رعشةٌ قويةٌ من شدةِ البرد، وقضى أسوأ ليليةٍ في حياته في بيت الثعلب المكّار.. وعلى النّقيض تمامًا.

بات الثعلبُ في بيت الذئب تلك الليلة في هدوءٍ وسلام، السّقفُ المتينُ من فوقهِ يحميه من المطر، وأبوابها الخشبية القوية تحميه من أي خطرٍ في الخارج، وهكذا أمضى الثعلب أجمل لياليه.

وفي صباحِ تلكَ الليلة العاصفة وبعد أن هدأت الأجواء، ذهب الثعلب المكار ليرى ما حدث للذئب، فوجدهُ مُلقى على الأرض يرتجفُ من شدة البرد، وقد ابتلّ جسده وأصابه البرد الشديد، فأسرع الثعلب المكّار وأشعل نارًا ليُدفئ الذئب قائلًا له: "لما لم تأتني بالأمس ياصديقي؟، لقد انتظرتك طويلًا". 

وما كان من الذئب المسكين إلّا أن شكر الثعلب على مُساعدته، والمسكين يُصدّقه فيما يقول، حتى ارتاح من عناء تلك الليلة التي لن ينساها الذئبُ أبدا، وخرجا معاً إلى البرية ليصطادا معًا ما يملأُ بطونهما الفارغة.

وأثناء تجوالهما في الغابة بحثًا عن صيدٍ لذيذ، إذ بهما يتفاجئان من وجود قطيعٍ من الأغنام، فهجم الذئبُ الشرس وتمكّن من اقتناص أحد الأغنام الثمينة  بين أنيابه القويّة، في حين أنّ الثعلب المكار لم يستطع إلّا الحصول على حَمَلٍ صغير لا يُسمنُ ولا يُغني من جوع، وبعد أن عاد الاثنين، لاحظ الثعلب المحتال ما تمكّن الذئبُ من اصطياده.

فقرّر أن يحتال على الذئب المسكين من جديدٍ قائلًا له: "ما هذا الخروف الضعيفُ الذي بين يديك أيُّها الصديق؟ صدّقني لن تجد فيه سوى الصّوف الغزير، كما أنّ لحمه قاسٍ عليك، وانت لا زلت مُتعبًا من الليلة الماضية، أمّا حَمَلي الصغير، فلحمه لذيذ وطري وخفيفٌ على معدتك."

وأكمل الثعلبُ المحتال كلامهُ الخبيث قائلًا: "وإنّي مستعدٌ أن أُبادلُك إياه إكرامًا لك ولصداقتنا الطويلة"، وقبل الذئبُ المسكين الحمل الصغير، وحينما شرع في أكلهِ لم يجد فيه سوى العظم والجلد وقليلٌ من اللحم، في حين أنّ الثعلب قد استمتع كثيرًا بتناول ذلك الخروف الثمين وحده.

لم يملأ ذلك الحمل الصغير الهزيل معدة الذئب، وحينما شكا جوعه لصديقه الثعلب ردّ عليه قائلًا: "إذًا فلنبحث سويّا عن صيدٍ جديدٍ يسُدُّ جوعنا"، فخرجا إلى قريةٍ كانت بالجوار وصادفا زريبةً بها غنماً وبقراً كثيراَ، وكان بابها مُقفلاً، فنظر الثعلبُ المحتال بمكرٍ للذئبِ قائلًا له: "ادخل انت ياصديقي، وأنا هنا أحرُسُك من كلاب الحراسة، لأنّها إن هجمت علينا معًا سدّت علينا باب الخروج".

وكالعادة صدّق الذئبُ المسكين كلام الثعلب المحتال وقبل أن يدخل وحده هذه الزريبة، وحينما كان بالداخل وقبل ان يقتنص أي فريسة، أدركه أحد كلاب الحراسة وعوى الكلبُ عِواءً أسمع كُلّ من في القرية، وحاصر أصحاب الزريبة الذئب بالداخل وأوسعوهُ ضرباَ مُبرحًا، في حين ان الثعلب ما إن أدرك عواء الكلب إلّا وفرّ هارباً بعيدًا، وصديقنا الذئبُ المسكين قد كُسرت قدماهُ، ولم يستطع الفرار منهم إلّا بصعوبةٍ كبيرة، وأهل القرية وراءه يُريدون قتله.

وبعد عناءٍ شديد تمكّن الذئبُ أخيرًا من الفرار من أهل القرية والابتعاد عنهم، وهو يصيحُ ويعوي ويصرُخُ من شدة الألم ومما لحقه من أهل القرية، والثعلب المحتال المكار قد فرّ بمُفرده تاركًا الذئب وراءه يأخذ نصيبهُ من الضرب المُبرح، ونجا بجلده وعاد بمفرده إلى بيته مرتاح البال، وهنا أدرك أخيرًا الذئب طيب القلب إلى كل تلك الحيل التي نفّذها الثعلب من استغلالٍ له والاستحواذ على طعامه وأخذ بيته وإعطائه البيت الخرب، وقال في نفسه "عليّ أن أتنبّه من الان فصاعداً لحيل ذلك الثعلب المكار المحتال". 

وفي صباح اليوم التالي، عاد الثعلبُ المحتال من جديد إلى غُرفة الذئب كعادته قائلاً له: "كيف حالك اليوم ياصديقي الغالي؟، " فردّ الذئبُ عليه قائلاً: أنا بأسوأ حالاتي كما ترى، فقد ضُربت من قبل أهل القرية بالأمس ضربًا شديدًا ولا أستطيعُ أن أحرّك جسدي اليوم، فقال الثعلب: "إنّ ما تعرّضت له من ضربٍ يا صديقي ما هو إلا بسبب جهلك، كان عليك أن تهرب بسرعةٍ منهم كما فعلتُ أنا، ولكن لا بأس عليك، فأحمد الله أنّك لازلت بخير"، وأكمل الثعلبُ كلامهُ قائلاً:"كُلُّ ما عليك فعلهُ هو أن تمكثَ هنا وأنا سأذهبُ للقرية لإحضار شيءٍ نأكله".

وبالفعل، ذهب الثعلب المحتالُ وحدهُ إلى القرية هذه المرة ولكن قد طال غيابه حتى اشتد الجوعُ بالذئب، فخرج يبحثُ عنه، وبعد عناءٍ وبحثٍ طويل، وجدهُ في فخٍ قد نصبه أحد الرُّعاه ليُوقع به، فذهب الذئبُ إليه قائلاً له:"ما الذي حول جسدك أيُّها الثعلب؟"، فأجابهُ الثعلب:"ما هو إلّا عقدٌ قد أحضرتُهُ من الجبال للزينة".

ابتسم الذئبُ بعد أن أدرك الحيلة: "أنت دائمًا رائع ياصديقي، أين يسعُني أن أجد مثل هذا العِقد الجميل؟"، فردّ الثعلبُ المكار عليه: "تعال يا عزيزي وحل هذه العقود عني والبسها أنت، فنحنُ أصدقاء وما لي فهو لك!"، عندها ضحك الذئب وقهقه بصوتٍ عالٍ: "ها ها ها، ما هذه إلا أفخاخٌ قد صنعها الرُّعاه ليُقعوا بمن هم مثلك أيُّها الثعلب المحتال، احتفظ بها وليبارك الله لك فيها فلستُ بحاجةٍ إليها".

ظلّ الثعلبُ مُقيّدًا بهذه القيودِ والأفخاخ حتى حضر الرُّعاةُ في صباح اليوم التالي، فشاهدوهُ من بعيدٍ داخل أفخاخهم، فأصابهم الفرح الشديد بالإمساك بذلك الثعلب، وصاحوا قائلين: "نحمد الله على أن أمسكنا بهذا الثعلب اللعين، لقد وقع الثعلبُ في الشرك"، وما أن أمسكوهُ بين أيديهم حتّى انهالوا عليه ضرباً بالعُصِيّ وقذفاً بالحجارةِ حتى قتلوه، وكلُّ هذا وصديقنا الذئبُ يُشاهد ويقول في نفسه: "لن أحزن على موت الثعلب وما أصابه، فلقد خدعني واستغلني أكثر من مرّة وتلك هي نهاية كلّ مُحتالٍ ماكرٍ خبيث".