رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


زينب السجيني .. مغامرة التجريب في الوجود الأنثوي

25-2-2017 | 19:08


شذى يحيى - كاتبة مصرية

فنانة تؤمن بأن الفن الحقيقي مرآة لجوهر الوجود، وانعكاس لما ينبغي أن تكون عليه حقيقة الواقع. تنتمي لجيل من العمالقة عشقوا الفن والوطن، فوهبوا حياتهم للسعي والبحث الجاد والدءوب، لرسم ملامح الشخصية المصرية الحقيقية في الفن التشكيلي ووضع لبنات فوق أساسات ما سماه الناقد التشكيلي الراحل إيميه عازار "مدرسة القاهرة" بعيدا عن إبهار البدع والصرعات، ودون التأثر بالمفاهيم الاستشراقية لفناني المدارس والاتجاهات الغربية، ولكن أيضا دون تكرار نمطي لتراثهم الحضاري بأشكاله وأنماطه المألوفة.

   زينب السجيني هي واحدة ممن نجحوا في حل معادلة استخدام أساليب الحداثة وقواعدها في إنتاج فن له خصوصية حضارته وثقافته، بلغة مفهومة لكل البشر على اختلاف مشاربهم وأعمارهم، ولكي تحقق نجاحها ظلت محافظة طوال مشوارها الفني حتى الآن على روح المغامر المجرب والمبدع المتجدد الذي زادته السنين خبرة وقدرة وإصرارا على تقديم المدهش والمنتمي والمبتكر في الوقت نفسه واصلة إلى ذروتها بتجربتها أو بالأحرى مغامرتها الإبداعية الناضجة المصقولة والمتبلورة في معرضها الذي أقيم في قاعة الزمالك (11 ديسمبر 2016 ـ 9 يناير 2017) وعرضت فيه مجموعة جديدة من أعمالها التصويرية التي قدمت فيها إضافات جديدة إلى أسلوبها المميز الذي يحمل طابعا فريدا هو مزج خلاب ما بين الفن البدائي والفرعوني والقبطي والحديث، لتبهر زينب السجيني (مواليد 1930) بروح الفن الشابة الكامنة بداخلها المتلقين، وتثبت أن الفنان الحقيقي متجدد ومبتكر طوال عمره، وأن الخبرة ليست معادلا للنمطية بل هي أساس للتطوير والتجدد في لوحات هذا المعرض والتي تنوعت ما بين أعمال بخامة الألوان الزيتية والباستيل وخامات ووسائط مختلفة سعت لاستكمال تجربتها في محاولة اقتناص روح اللحظة بكل أحداثها وزخمها وفعلها داخل بقعة اللون الناتجة عن ضربة الفرشاة وخط القلم لتضعها كملموس بصري يشكل حيزا مكانيا على سطح اللوحة، لكي يرى المتلقي هذه الروح في لحظات أخرى بعيدة عنها ويتفاعل معها تفاعلا جديدا مرتبطا بوجدانه وزمانه ومكانه، مولدا بذلك موقفا جدليا متجددا ومتغيرا بتغير الأزمنة وبتغير علاقة الجوهر بالشكل والباطن بالظاهر أو كما يقول الفنان والناقد أحمد فؤاد سليم "هنا تبدأ حرية المشاهد في الانتقال البصري من نقطة إلى أخرى متجاوزة الأماكن والأزمنة محتفظة في جوفها بتلك الطاقة التي تجعل من النسيج اللوني وعناصر الإيقاع حركة دائمة".

    فالفنانة تقيم دعائم الوجود داخل اللوحة عبر كينونة المعنى الذي تريد إيصاله من خلال طريقة الألوان في إيجاد امرأة أو عصفورة أو وردة أو شجرة أو قطة، هذا الجدل الدائري المتجدد الذي تعرف به الأشياء وتلمح منه الوجود عبر تحرك الزمن ويخترق السطح الأملس لعناصر اللوحة لجوهر هذه العناصر متجاوزا حدود العمق والحجم والكتلة مطبقة مقولة هيدجر: "جوهر الوجود الإنساني أشبه بحادث زماني، وليس هناك ما يكشف عن هذه الزمانية سوى فنون الإنسان على اختلاف أنواعها"، فهي تحاول أن تعلن للمتلقي عن حضور الوجود الذي آمنت بأن له طبيعة أنثوية خصبة معطاءة وتفعل ذلك باستحضار كل هؤلاء النساء الفتيات الأمهات والصغيرات اللاهيات النائحات الآسيات الراقصات المبتهجات الحانيات والحاضنات بثيابهن البيض البسيطة التي تشبه ثياب فلاحات مصر القديمة، أو عاريات منطلقات كما خلقن بدون أية دلالة أو علامة على تمييز، لا حلي ولا زخارف إلا بعض التمائم السحرية أو رموز الخصوبة التي تلبسهن إياها أحيانا حتى الشعر هو الآخر حرية منطلقة بلا زينة ولا تصفيف، جوهر المرأة الفطرية كما خلقت محاطة بكائنات خصبة ثرية معطاءة مثلها كالسمك والقطط والحمائم والعصافير والشجر والنباتات والماعز، في حميمية محببة يعلن جميعا عن حضورهن الكوني كمنبع للحياة ويقوين بهذا الحضور وجود جوهر الأنوثة الصرف بلا رتوش ولا أصباغ في عالم الجمال هذا الذي تراه الفنانة في كل امرأة في حناياها من الداخل مهما كان بؤسها أو فقرها أو غناها، تضعهن في لوحاتها ليمثلن واقعا حالما لأشكال تبدو كما أنها تعيش أحداثا عفوية واقعية في عوالم غير مألوفة لكنها حميمة ومحببة، وترسمهن بألوان متصالحة مع سطح اللوحة مبهرة في بريقها صافية رائقة شديدة النعومة فائقة الرقة في اختلاطها مع بعضها البعض، لتعطي سيمفونية ساحرة ومبهجة في الوقت نفسه تحدد الأشكال فيها خطوط قوية ومنتظمة وحادة تضيف حيوية كبيرة على الشكل، وتنعكس هذه الحيوية العالية اللاهية والمفرحة على اللوحة رغم أنها على الأغلب تكون محملة بشجن شفيف مغلف بالفرحة هو البطل في أعمال الفنانة، شجن جميل يحمل عبق الأنوثة المحمل بنشوة الحياة وبكارة وخصوبة النبات أو كما تقول زينب السجيني "يقترن الرمز وتتكشف قيمته في كونه جوهر لتصور يحكي نبضا وجدانيا سواء كانت استلهاماته تنبثق من الواقع أم من عالم المجهول أو صادرة من الإدراك الواعي أو من منطق اللاشعور فإن الأشكال المطروحة في اللوحات (الفتاة، البقرة، السمكة، القطة، الشجرة ...إلخ) تصبح رموزا ذات معان تنبئ وتتشكل وفق البنية الكلية لبنائياتها. لتجسد تعبيرا عن شمولية الفكرة التي تتطلع إلى الحقيقة أو ماوراء الحقيقة".

   ويقوي هذا الشعور إضاءة ساطعة تميز أعمالها، وتأتي من دراسة أكاديمية قوية للتراكيب اللونية عند التأثيريين وبالأخص فان جوخ وأيضا الإضاءة المشرقة التي تميزت بها الجداريات الفرعونية، هذه الإضاءة التي تأتي من الألوان وتزهو بها الأشكال لتسطع وتكمل هارمونية ألوان الخلفية وتناغمها العالي تبدو أوضح ما يكون في هذا المعرض، في لوحات رقص البنات المستوحى من رسوم الكهوف البدائية وهي كعنصر تكمل ما أضافته الفنانة للوحات هذا المعرض من حركة ديناميكية قوية للعناصر داخل اللوحة بالإضافة لحفاظ الفنانة على عادتها في البناء التصميمي المحكم للوحة من خلال توزيع العناصر وخلق العلاقات بينها، هذه العلاقات التي هي بلا أدنى شك أقوى مكونات لوحات زينب السجيني والسمة والبصمة الأهم التي تميز أسلوبها الفني، فحركة العيون والعلاقات بين الأيدي المتشابكة أو الحاضنة والتي تتحاور مع بعضها في أحيان أخرى إضافة إلى حركة الأجسام واتجاهات ميلها هي جزء أساس من البناء والعوامل الرابطة للتكوين تدفع المشاهد دفعا للدخول في قلب اللوحة والتلاحم والاشتباك معها في جدل ذهني لاستكمال الحكاية التي تستمد أحداثها من خلال حركة الشخوص المجمعة.

    تفوقت زينب السجيني على نفسها في لوحات التجمعات، فهي تارة تعتمد على التكوين الدائري لخلق نوع من الحركة الدائرية الديناميكية القوية في اللوحة صانعة حركة في لحظة السكون التي كانت تميز لوحاتها من قبل، مثبتة تجددها الإبداعي وتمكنها من أدواتها لدرجة جعلتها تلجأ للعب المغامر بالعناصر مع المحافظة على الخط الحاد القوي المحدد للعناصر في لوحة لتجمع من النساء ترى امرأة متكئة على ذراعها وقطتها نائمة متكورة تحت هذه الذراع، بجوارها مباشرة واحدة تنظر إلى ابنتها الصغيرة نظرة حانية بينما تميل الفتاه الصغيرة على صدر المرأة الأخرى التي تمسد شعرها بحنان بالغ، بينما تحتضن أم أخرى ابنتها في خلفية اللوحة على طرف المرآة المتكئة، وتقابلها المرأتان على طرف اللوحة ينظران للمتلقي ليكون جزءا من المشهد، وليتوحد مع الموضوع في ود بالغ. وتعدد مستويات الرؤية من خلال خلق أكثر من استدارة في اللوحة عبر علاقات الأشكال الابنة التي تحتضن الأم في الخلفية، الأم الناظرة للبنت في الأمام، القطة والمرأة المتكئة على الطرف، والمرأتان والطفلة على الجانب لتدخلنا إلى اللوحة في عمقها الذي يبدو بلا نهاية بنقاط التلاشي.

    وفي أحيان أخرى اعتمدت الفنانة على التكوين الهرمي في اللوحة حيث بدأ التصميم المعماري من مفردة رأسية هي رأس امرأة كنقطة انبثاق تبعتها في تآلف مفردات أخرى هي رؤوس تبدو كأنها أحجار تبني هرما مجسما لنساء يتحركن وينظرن في كافة الاتجاهات يمينا ويسارا للأعلى والأسفل وفي كافة جنبات اللوحة بعضهن مغمضات العيون، وأخريات تلمع عيونهن بالبريق الحزين يمثلن المرأة بكل أحوالها، وأوضاعهن كأن امرأة الرأس هي حواء المرأة الأولى وهؤلاء بناتها بكل الأعمار والأجناس والأشكال يجمعهن الكفاح وقسوة الحياة، في هذه اللوحة تجلت البراعة التصميمية في الفراغ الرأسي الملون والذي توازنه المساحة البنية الأفقية التي تحكم قاعدة هرم النساء وتكسر حدة رتابتها الذراع الممدودة للفتاة الصغيرة التي تحتضنها أمها، كما كسر رتابة المساحة الأفقية رأس المرأة المعطية ظهرها للأخريات ناظرة للأفق الممتد خارج اللوحة مظهرة أن هناك أملا في كسر هذا البنيان الممتد المتراص من قديم الأزل لنساء مطحونات لطالما تعاطفت الفنانة معهن وأحبتهن.

   كما اعتمدت أيضا بنيان اللوحة المستطيل المستوحى من لوحات النائحات على جدران المقابر، وهنا التكوين يجمعه بدرجة كبيرة علاقات الأيدي الضامة على الأكتاف والمتحركة في أرجاء اللوحة، وفي أحيان أخرى غلب المربع على التكوين وكانت حركة الشخوص والعناصر هنا أكثر ديناميكية وبدائية وتعدد مستويات الرؤية والعمق كما بدت الحركة أكثر سرعة وظهورا والموضوع أكثر مرحا كما في لوحة المرأة العارية الجالسة على كرسي والبنات يركضن نحوها، بينما في المستوى الأسفل من اللوحة تبدو فتاة صغيرة تتحرك بصخب فوق الكرسي الجالسة عليه ويقبل مركب محمل بالأسماك على النساء بنفس حماسة إقبالهن عليها ولم توفر المغامرة المخضرمة معرفتها وخبرتها بالمساقط الهندسية فاعتمدت في بعض اللوحات المسقط الرأسي في الرؤية ليظهر للمتلقي كأنه ينظر للمائدة وفوقها السمكة وحولها المرأة وطفلتاها من السماء، وفي أحيان أخرى استعملت المساقط الأفقية والرأسية لتعدد زوايا الرؤية للوحة ولخلق نوع من البعد المنظوري كلوحات الطاولات والكراسي والنساء. وبلغت بالمغامرة ذروتها عندما استعملت كما يحلو لها تقنية الأشعة السينية المستلهمة من لوحات الفن البدائي ليظهر في إحدى اللوحات الجنين في بطن ماعز، والشفافية في إظهار الأشكال من تحت القماش في لوحات أخرى موظفة هذا كله في خدمة موضوع اللوحة وتقوية المعنى والبناء الشكلي، كل هذه التقنيات والأساليب استخدمتها زينب السجيني دون افتعال ودون إخلال بالموضوع أو تحميله فوق طاقته، على العكس تبدو لوحاتها ثرية ولكن بعناصر مختزلة محكمة البناء والتكوين بنعومة تخلو من الاستعراض الزاعق، مصرية لكنها تحمل منظورا كونيا، أنثوية لكنها محملة بمعنى الوجود والشجن الشجي الذي يحمل بين حناياه الفرحة، فرحة الأنثى حاملة الخصوبة والرسالة عماد الحياة وأساس البشرية، أعمال متجددة ومتفردة بعيدة عن التعقيد والتغريب ونظريات الحداثة وما بعد الحداثة الجامدة وشطط المنظرين والمتحذلقين، تبدو هذه الأعمال لفرط تناغمها وانسجام عناصرها وألوانها كسيمفونية موسيقية تراها بعينيك لتدخلك لعالم تراه الفنانة المدركة تماما أنها ترسم الواقع كما تراه وتشعر به وكما تأمل فيه أيضا، وهي مؤمنة أنها تقوم بهذا من منطلق دورها في الحياة كفنانة وإنسانة متفاعلة مع مجتمعها وعالمها وقادرة على العطاء المتجدد والمبتكر حتى الآن، وهي بهذا تشبه لوحتها الشهيرة الفتاة التي تطحن البن وتدير بذراعها رحى، كأنها حركة كونية لا نهائية لامرأة وفنانة وصفها الفنان والناقد الكبير حسين بيكار بأنها ذات "إصرار أنثوي ناعم بحزم الرجال".

    والآن وبخبرة الأستاذة المتمكنة الواثقة من أدواتها والمبدعة صاحبة القدرة الدائمة على التجدد تبهرنا زينب السجيني بهذا التجدد الأسلوبي الذي استطاعت بواسطته أن تستحدث طرقا جديدة في الصياغة التي أنتجت رؤى جديدة لعوالمها البكر الخصبة بلا حدود نقلتها من حالة التجويد لمغامرة التجريب، وأكسبت لوحاتها زخما حميما زاد من حسها الإنساني العالي عبر قدرة أدائية مميزة في إطار مشروعها أو تجربتها التي قالت عنها بكلماتها أنها "إحساس بالود والسلام يتوافق وطبيعة مشاعر المرأة لتنطلق عاطفة الأمومة الجياشة لتحكي عن شخوص لهم إيماءات إنسانية، شخوص تنبئ أحيانا عن شاعرية رقيقة ودافئة وأحيانا أخرى تبوح وترصد مشاعر الألم والخوف وينطلق الحس الحالم يجسد الأمل المجهول... إنه ارتباط وثيق بما يدور على أرضنا المصرية من أحداث وحواديت وشجن... الأم والطفل هم الأبطال يلعبون الدور الرئيس ويسطرون ملامح البراءة والعطاء. والمكان والنيل والجبل... وتتعاظم الحكايات وتكتمل مع الزرع والمنزل ورمزيات الطائر والحيوان".