حمقى.. لا يفقهون
إنهم يَدهشون..فلا يتوقَّف سيلُ دهشتهم، وتعلو وجوهَهم ملامحُ الاستغراب الممزوج بالغيظ، ولعلهم تتردَّد هواجسُهم في صدورهم قبلما تقول شفاههم.. ماذا نفعل مع هؤلاء..؟!! لقد تجاوزتْ أعدادُ القتلى والجرحى أكثرَ من مائة ألفٍ..ورغم ذلك دون هوادةٍ يتسابقون..؟!! أكثر من مائة ألفٍ.. ورغم ذلك لا يرفعون الرايةَ البيضاءَ أو عن أرض"فلسطين" يرحلون..؟!! أقول..لعلهم يقولون بشفاههم هذي التساؤلاتِ وأكثرَ، وتظل هذي التساؤلات مطارقَ تدقُّ رؤوسَهم فلا تدعُهم يحلمون بدعاوى"أرض الميعاد"، وأوهامِهم التي ملأتْ الآفاق عن "هيكل سليمان"..!!، وتظل هذي التساؤلاتُ سياطًا من "سجيلٍ" يستحيل معها رقادُهم على أسرَّةٍ من الجمر المتوهِّج ولو للحظاتٍ قصارٍ..!! إن معضلة الصهاينة وكل المستعمرين أنهم لا يقرأون التاريخ قراءةً متأنِّيةً؛ فلا يستخلصون من أحداثه الدروس والعِبَر، إن السطرَ الأول في أولى صفحات التاريخ يقول:لا خلودَ لمستعمِرٍ مهما طال بقاؤه، والعاقبة للشعوب رغم فداحة التضحيات.. فكيف بأمَّةٍ كانت محلَّاً لهبوط الأديان السماوية الكبرى، وتتلو في قرآنها(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).. إن الله عز وجل اشترى.. ونحن بِعْنا والثمنُ الجنة؛ فمهما عظمتْ التضحياتُ، ومهما سالت الدماءُ الزكيَّةُ، ومهما تقاطرتْ مواكبُ الشهداء فنحن مستبشرون ببيعنا، ونحن موقنون بفوزنا.. ذلك الفوز العظيم..!!
..(خيرُ المطالع تسليمٌ على الشُّهدا..أزكى الصلاةِ على أرواحهم أبدا/فَلْتنحنِ الهامُ إجلالًا وتكرمةً..لكلِّ حرٍّ عن الأوطان مات فِدا).. ونوقن أيها الحمقى أن قذائف الحق الرابضة في هذا المطلع الشعري يجعلكم توقنون بسوء المآل.. لماذا؟! لقد صدح الشاعر القروي "رشيد الخوري".. وأين؟!! في مهجره في "البرازيل" ليقدِّم للأعداء الحمقى نموذجًا فريدًا للشخصية العربية التي تضحي بالنفيس- نفسًا ومالًا- دفاعًا عن العروبة، ووحدة العرب.
أكان "رشيد الخوري"بجسده داخل الوطن العربي..أم بروحه؟!! أمّا الجسد فقد هاجر به ونأى به بعيداً، مستقِرَّاً في مهجره "البرازيل"إذْ كان الشاعر أحد شعراء"المهجر الجنوبي" وتولّى رئاسة تحرير مجلة"الرابطة".
لمدة ثلاث سنوات، ثم رئاسة "العصبة الأندلسية"عام 1958، رئيسًا ثانيًا بعد "ميشال معلوف"وظل في المهجر مدّة خمسةٍ وأربعين عاماً؛ حيث عاد إلى وطنه الذي قضى فيه ثلاثةً وعشرين سنة، وذلك في عهد الوحدة بين"سوريا ومصر' عام 1958.. وفي اغترابه الطويل، ومعاناته في تحصيل أسباب العيش لا يقطع الحبْلَ السريَّ بينه وبين عروبته..!! بل ينطلق صوتُه المجاهدُ ليؤدي واجبه نحو أمته، وتصير قصائدُه الثائرة المحرِّضةَ أبناءَ أمته على الاستماتة في سبيل نيل الحرية وصون الكرامة.. يصدح ثائراً:
(تلك الجبابرةُ الأبطالُ ما وَلَدتْ..للمجد أمثالَهم أمٌّ ولن تلدا/لله أروعَهم كالنار مُتًَقَدَاً.. يبغي حياض الردى بالنار مُبْتَرِدا/ يقبِّلُ الجرحَ لو لم يُغْرِه طمعٌ..بغيره ما تمنَّى أنه ضُمِدَا).
ولعلكم أيها الحمقى لا تفقهون كيف أنزل نبي السلام "محمد بن عبد الله"-صلى الله عليه وسلم- الشهداءَ منازلَ تَقْصُر دونها كلُّ المنازل حيث يسأله رجلٌ:يا رسولَ اللَّهِ ! ما بالُ المؤمنينَ يُفتَنونَ في قبورِهِم إلَّا الشَّهيدَ ؟! قالَ : كفَى ببارقةِ السُّيوفِ علَى رأسِهِ فتنةً...لقد سأل الرجل:ما بالُ المؤمِنين يُفتَنون في قُبورِهم؟!"، أي: بامتِحانهم بسُؤالِ الملَكَينِ مُنكَرٍ ونَكيرٍ، "إلَّا الشَّهيدَ؟!"، أي: ما سبَبُ استثناءِ الشَّهيدِ عن باقي المؤمِنين مِن ذلك السُّؤالِ؟ قال صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "كفَى ببارِقَةِ السُّيوفِ على رأسِه فتنةً"! أي: يَكْفي في صِدْقِ إيمانِ الشهيد ثَباتُه عِندَ لَمَعانِ السُّيوفِ فوقَ رأسه؛ فنَجاحُه في ذلك الاختبارِ يُغْنيه عن اختِبارِ القبرِ؛ فالسُّؤالُ في القَبرِ إنَّما جُعِل لامتحانِ المؤمنِ الصَّادقِ في إيمانِه مِن المنافِقِ..أهناك مَنْ يضارع الشهيدَ مكانةً..؟!! أو يجاريه كرمًا في العطاء وتضحية؟!! لقد تفرّد فنال كبرياء الخلود، وارتقى إلى العلياء؛ لينعم بأجر الشهادة في حواصلَ طيْرٍ خُضْرٍ تطير في جنان الخلد بعد أن وهب دمه وروحه فداءً لوطنه متحديًا جبروتَ الغاصب وغارسًا سيف النصر والخلاص من ظُلْمه، ومُعَبِّداً طريق الحرية التي شعّ نورها من وهج دمائه الطاهرة!!
ويعد الشاعر السوري "سليمان العيسى"الذي وُلِدَ سنة 1921 في قرية "النعيرية"قرب أنطاكية "بلواء"الإسكندرونة" في سوريا- طبعًا نسينا لواء "الإسكندرونة" المستولَى عليه من"تركيا" مثله مثل"الأهواز" الجانب الشرقي من الخليج العربي والمستولَى عليه من جانب "إيران" وحديثاً جُزُر "طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى.."أليس ذلك استيلاءً يعادل استيلاء الحمقى الصهاينة على فلسطين؟!!-
أقول إن" سليمان العيسى"من أبرز الشعراء العرب المعاصرين حيث كان قلمه الهادر وقفًا على الوطنية والقومية، والطفولة التي رأى فيها الملجأ الأخير لآمال الأمة العربية..!!أجل.. كرَّس الجزء الأكبر من قصائده للطفل العربي؛ إذْ يبيِّن في مقدمة مجموعته الشعرية "غنّوا يا أطفال"رؤيته لشِعْر الأطفال وسبب اهتمامه بهم؛ حيث أجاب حين سُئل:"لماذا تكتب للصغار؟" قائلًا: "لأنهم فرح الحياة ومجدها الحقيقي، لأنهم المستقبل، لأنهم الشباب الذي سيملأ الساحة غدًا أو بعد غدٍ، لأنهم امتدادي وامتدادُك في هذه الأرض، لأنهم النبات الذي تبحث عنه أرضنا العربية لتعود إليها دورتُها الدموية التي تعطَّلتْ ألف عامٍ، وعروبتُها التي جفَّتْ ألف عام.. إنني أكتب للصغار لا لأسلِّيهم، ربّما كانت أيةُ لعبةٍ أو كرةٍ أجْدى وأنفع في هذا المجال، إنني أنقل إليهم تجربتي القومية..تجربتي الإنسانية..تجربتي النفسية. أنقل إليهم همومي وأحلامي".
أجل يا شاعرنا الرائي.."إنهم النبات الذي تبحث عنه أرضنا العربية لتعود إليها دورتها الدموية التي تعطلت ألف عام، وعروبتها التي جفت ألف عام..!"
ولقصيدة(الخالدون) للشاعر "العيسى"سحرٌ خاصٌّ تستشعره حينما تقف على عتبات مطلعها الثري..!!لا تستطيع تحديدَ مصادره فهي كثيرة جدًا.. أمِنْ جلال موضوعها وهي المبحرةُ في صحبة الشهداء أشراف الأمة..؟!! أم اختيار إيقاعها الطارقِ الأرواح من خلال بحر "البسيط"الموغل في العراقة..؟!! أم قافية"الراء" التي يستلزم نطقُها الصحيحُ مخارجُه على قيام اللهاة بإغلاق مجرى الأنف ويقوم اللسان بالالتقاء مع سقف الحلْق الصلب ليحبس الهواء ويدعه يمرُّ عدة مراتٍ مع اهتزاز الحبال الصوتية..؟!! أم "الضمة"الرابضة تاجًا على جبين قافية"الراء" والتي يراها المتخصصون أثقل الحركات نطقا تليها "الكسرة"ثم"الفتحة" أخف الحركات..!!وكأنها تريد أن تقول إن الإقدام على الشهادة أمرٌ ثقيلٌ على معظم النفوس لا يخفُّ ثِقَلُه إلا على ذوي الهمم العالية، ولا يحلو مذاقه إلا في أفواههم يقول"العيسى":
(ناداهمُ البرقُ فاجتازوهُ وانهمروا..عند الشهيد تلاقى الله والبشرُ/ناداهمُ الموتُ فاختاروهُ أغنيةً.. خضراءَ ما مسّها عودٌ ولا وترُ/تقدّس المطرُ المجدولُ صاعقةً.. وزَنْبَقاً يا شموخ الأرض..يا مطرُ!!/لا تفلتي قبضة التاريخ من غدنا.. أطفالك السمر يا صحراء قد كبروا..!!).
أجل..يا "العيسى" لن تفلت قبضة التاريخ من غدنا؛ فنحن نكتب اليوم بأنصع الحروف أحداثَ المقاومة الفلسطينية.!!، أجل..يا" العيسى"أطفالنا السمر قد كبرتْ سواعدهم فصاروا يُذيقون الصهاينة ومعاونيهم أشدَّ الانتقام..!!.
إنه الصباح المنتَظَر تستدنيه أقدام هؤلاء الأبطال ..أقدامٌ إثْرَ أقدامٍ.. وقبضاتٌ إثْرَ قبضاتٍ.. وشهداءٌ إثْرَ شهداء...!! ليأتينا الختام هادرًا مثلما المطلع على لسان"سليمان العيسى":
(..ريشٌ على صهوات الريح فجَّرها..بالمعجزات وريشٌ راح ينتظرُ/ أطْلقتُها فسماواتي على بَرَدَى... سَكْرَى تَعانَقَ فيها الحبُّ والخطرُ/ تعانَقَ النسرُ والتاريخُ ملحمةً..وكبـَّر العشبُ والينبوعُ والحجرُ/تعانَقَ الفارسُ المقدود من ألمٍ...والتلُّ فالعاشقان التلُّ والشررُ/ من أين؟ قالوا: كرومُ الصيف قد عقمتْ... من أين كلُّ نبيذ المجد يُعتصَر؟!!/ الخالدون على أهدابنا نبتوا..عرائشُ الزّهوِ في أحداقنا سهروا/صار الصغيرُ يمدّ اليوم قامتهُ... أبوه بالغيمة الحمراء يعتمرُ!!).