حكايات «كليلة ودمنة».. قصة «الناسك والضيف» (20- 30)
«كليلة ودمنة» هو من أشهر الكتب بالعالم التي تقدم عالما كبيرا من الحكايات والكتاب يضم مجموعة من القصص المتنوعة، التي ترجمها عبد الله بن المقفع من الفارسية إلى اللغة العربية في العصر العباسي وتحديدا في القرن الثاني الهجري، وكتبه بأسلوبه الأدبي، وقد أجمع عدد كبير من الباحثين على أن الكتاب يعود للتراث الهندي، وتمت ترجمته في البداية إلى اللغة الفارسية ثم إلى اللغة العربية، وسبب نشأته جاءت من رغبة ملك هندي يدعى دبشليم بتعلم خلاصة الحكم بأسلوب مسلي فطلب من حكيمه بيدبا أن يؤلف له هذا الكتاب.
وكان للنسخة العربية من «كليلة ودمنة» دورًا رئيسيًا ومهما في انتشاره ونقله إلى لغات العالم، ويصنفه النقاد العرب القدامى في الطبقة الأولى من کتب العرب، ويرون أنه أحد الكتب الأربعة المميزة إلى جانب كتب أخرى، وهو يحتوي على خمسة فصول تضم خمسة عشر بابًا رئيسيًا يتناول قصص تراثية للإنسان على لسان الحيوانات.
وتقدم بوابة «دار الهلال» لقرائها طوال شهر رمضان المبارك 1445 هجريا، من كتاب «كليلة ودمنة» كل يوم قصة، وسنستكمل سلسلة الحكايات بقصة اليوم والتي بعنوان «الناسك والضيف».
وجاء بالقصة: زعموا أنه كان بأرض الكرخ ناسك عابدٌ مجتهدٌ، فنزل به ضيفٌ ذات يومٍ، فدعا الناسك لضيفه بتمر ليضيفه به، فأكلا منه جميعاً.
ثم قال الضيف: ما أحلى هذا التمر وأطيبه، فليس هو في بلادي التي أسكنها، وليته كان فيها.
ثم قال: أرى أن تساعدني على أن آخذ منه ما أغرسه في أرضنا: فإني لست عارفاً بثمار أرضكم، هذه ولا بمواضعها.
فقال له الناسك: ليس لك في ذلك راحة فإن ذلك يثقل عليك، ولعل ذلك لا يوافق أرضكم، مع أن بلادكم كثيرة الأثمار فما حاجتها مع كثرة ثمارها إلى التمر مَعَ وخامته وقلة موافقته للجسد؟
ثم قال له الناسك: إنه لا يعد حكيماً من طلب ما لا يجد، وإنك سعيد الجدِّ إذا قنعت بالذي تجد، وزهدت فيها لا تجد.
وكان هذا الناسك يتكلم بالعبرانية، فاستحسن الضيف كلامه وأعجبه، فتكلف أن يتعلمه؛ وعالج في ذلك نفسه أياماً.
فقال الناسك لضيفه: ما أخلقك أن تقع مما تركت من كلامك، وتكلفت من كلام العبرانية، في مثل ما وقع فيه الغراب!
قال الضيف: وكيف كان ذلك؟
قال الناسك: زعموا أن غراباً رأى حجلة تدرج وتمشي، فأعجبته مشيتها، وطمع أن يتعلمها، فراض على ذلك نفسه، فلم يقدر على إحكامها، ويأس منها، وأراد أن يعود إلى مشيته التي كان عليها فإذا هو قد اختلط وتخلع في مشيته، وصار أقبح الطير مشياً.
وإنما ضربت لك هذا المثل لما رأيت من أنك تركت لسانك الذي طبعت عليه، وأقبلت على لسان العبرانية، وهو لا يشاكلك، وأخاف ألا تدركه، وتنسى لسانك، وترجع إلى أهلك وأنت شرّهم لساناً فإنه قد قيل: إنه يعد جاهلاً من تكلف من الأمور ما لا يشاكله، وليس من عمله ولم يؤدبه عليه آباؤه وأجداده من قبل.