رئيس مجلس الادارة
عمــر أحمــد ســامي
رئيس التحرير
طــــه فرغــــلي
العمل فى دولة المدينة «3» ضوابط التجارة وأخلاق التجار
صورة أرشيفية
بقلـم: د. على عثمان منصور
حب المال فطرة أودعها الله تعالى فى الإنسان، فجمعه واكتنازه محبب للنفس، يرغب فيه كثير من الناس ويسعى إليه، فبالمال قِوام الحياة، به يتحرك الإنسان فيها، والله تعالى يقول: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» (الكهف: 46). ويقول أيضا: «وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا» (الفجر: 20).
ومع إقرار أن المال فطرة وزينة، إلا أن الله تعالى وجهنا لكيفية استثماره فى الحياة الدنيا؛ ليكون زينة ومتاعًا للإنسان فيها، واستثماره كذلك الاستثمار الأمثل فى الآخرة؛ بادخار جزء منه ليبقى فى صحيفة أعمال الإنسان فى الآخرة، فيكون ذخرًا لصاحبه وزادًا له يوم القيامة، قال تعالى: «وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا»(الكهف: 46).
ومجتمع المدينة المنورة كأى مجتمع به الأغنياء والفقراء، وكان المصدر الأكبر لوجود المال هو العمل والسعى والتجارة، والتى كان منها التجارة الداخلية، وكذلك التجارة الخارجية، فى شكل القوافل التجارية التى كانت تنتقل بها البضائع من هنا وهناك، فى حركة دائبة لتبادل السلع والمنافع بين الناس، سواء قربت ديارهم أو بعدت.
وقد وضع الإسلام من بين موارد بيت المال ما يخرجه التجار من زكاة تحت بند: (زكاة عروض التجارة) والتى يقدم بموجبها التجار ما نسبته 2.5 فى المائة بعد عملية جرد سنوي، تؤدى فى المصارف الشرعية التى حددتها الآية الكريمة فى قوله تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.. الآية» (سورة التوبة: 60)
ولا شك أن تجار المدينة قد حرصوا على أداء هذه الزكاة، بل كانت لهم أيضا صدقات تطوعية بموجب الدور المجتمعى والإنساني، الذى يدفع للبذل والعطاء، بقدر ما تجود به نفوسهم، وبقدر إيمانهم أن العطاء لمستحقيه إنما هو ربح ونماء وبركة، وأن سخاء نفوسهم بما يحبون لن تضيع ثمرته عن الله؛ مصداقًا لقوله تعالى: «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» (آل عمران: 92).
لقد كان ميثاق الرحمة العامة هو الذى يحركهم، فهم مخاطبون ومدعوون للرحمة بالضعيف وذى الحاجة، فالرحمة من صفات عباد الله المؤمنين، والله تعالى هو أرحم الراحمين، ويرحم من عباده الرحماء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحِمونَ يَرحَمُهمُ الرَّحمنُ، ارحَموا مَن فى الأرضِ يرحَمْكُم مَن فى السَّماءِ» (سنن الترمذي).
ولقد كان الدور المجتمعى البنَّاء والفاعل لرجال الأعمال فى المدينة، يتمثل في: توفير مصدر ماء نظيف وفير للمجتمع، كما كان من عثمان بن عفان (رضى الله عنه) حين اشترى بئر (رومة) وجَعَلَها وَقْفًا على المُسلمينَ، بعدَ أنْ كانَ مالِكُها يَبيعُ ماءَها للشَّاربينَ، ويتعنت برفع أثمانها.
والعمل على تخفيض السلع للمشترين بتوفرها وكثرة المعروض منها: مثل ما كان من الصحابى دحية الكلبى (رضى الله عنه) الذى عمل بالتجارة وكانت قوافله تغذى المدينة بالسلع، وكذلك زيد بن حارثة رضى الله عنه، الذى قاد قافلة تجارية إلى سوريا» (انظر: النشاط التجارى لدولة الرسول فى المدينة، ص 37 بتصرف يسير).
وضرب المحتكرين الذين يخفون السلع أو يعرضون القليل منها حتى يرتفع ثمنها، وذلك كتجارة الحلى وأدوات الزينة، وقد كان مقر بيعها سوق يهود بنى قينقاع، وكانوا يسيطرون عليها ويبرعون فيها. فدخل كثير من تجار المسلمين فى هذه التجارة، لكسر احتكار اليهود لها وتيسير سبيلها وشرائها للناس.
والاهتمام بزراعة المحاصيل الأساسية والرائجة فى المدينة آنذاك والتى لا يستغنى عنها الناس كالتمور، وقيام الأنصار على خدمة مزارع النخيل والتخصص فيها، على أن يعطى جزء من ثمارها لإخوانهم المهاجرين، الذين لا يعرفون عمل الحدائق وإصلاحها كأصحابها المتمرسين على هذا العمل، فقد روى البخاري: «قالتِ الأنْصارُ للنَّبى (صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ): اقْسِمْ بيْنَنا وبيْنَ إخْوانِنا النَّخِيلَ، قالَ: لا، فقالوا: تَكْفُونا المَؤُونَةَ، ونَشْرَكْكُمْ فى الثَّمَرَةِ؟ قالوا: سَمِعْنا وأَطَعْنا».
ومشاركة تجار المدينة فى الأعمال الجليلة التى كانت الشغل الشاغل للناس فى ذاك الوقت، ويبرز من أهمها حماية المدينة والدفاع عنها ضد المتربصين بها، وقد قام بدور مهم فى ذلك عبد الرحمن بن عوف (رضى الله عنه) حيث تصدق بأموال كثيرة من تجارته، فقد روى أنه بلغ ما تصدق به فى إحدى المرات (خمسمائة فرس) فى سبيل الله، ثم حمل مرة أخرى على (ألف وخمسمائة) راحلة فى سبيل الله. (ينظر: صفة الصفوة لابن الجوزى).
وزيادة القوة الشرائية للفقراء بتوفير المال لهم، حتى يحصلوا ما يحتاجون إليه: كما كان من طلحة بن عبيد الله (رضى الله عنه) حيث كان له دور كبير فى تنمية المجتمع بسده لحاجات الناس؛ فقد وزع يوما (أربعمائة ألف دينار) من ماله على الناس، لما رأى سوء معيشتهم» (ينظر: معرفة الأصحاب للأصبهاني). وكذلك ما كان من قيس بن سعد، حيث أقرض الناس (50 ألف دينار) وكتب للناس صكوكا بها، ثم بعد مدة تنازل عنها» (ينظر: المنتظم فى تاريخ الأمم لابن الجوزي).
ومما سبق يتضح الدور المجتمعى الكبير لرجال الأعمال فى المدينة، حيث قدموا ذلك خدمة لمجتمعهم، وأداء لحق الله تعالى فى أموالهم، والله تعالى يقول: «... وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (سورة سبأ: 39).