رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


عدي الزعبي: طه حسين قدم مشروعا تنويريا متكاملا

4-4-2024 | 18:45


طه حسين قدم مشروعا تنويريا متكاملا

محمد الحمامصي

إرث عميد الأدب العربي د.طه حسين نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى، في صراعنا مع مَن يؤمنون بالخصوصيات الثقافية والنسبوية، وفي صراعنا من يرفض العلم والعقل، ومع من يؤمن بالعقل والعمل بطريقة متعصبة مُتطرفة، وفي صراعنا مع مَن يجتر التراث بشكله التقليديِّ الممجوج، من دون نقد أو تفكير.

القاص والمترجم د.عدي الزعبي ـ دكتوراه في فلسفة اللغة من جامعة إيست أنجليا البريطانية ـ في كتابه "البحث عن طه حسين" لا يسعى إلى دراسة مجمل أعمال العميد، بل إلى تناول جوانب محددة منها ترتبط بأسئلتنا الحاضرة أكثر من غيرها: أولا، العلاقة مع الغرب والقيم المشتركة الكونية؛ وثانيا، العلم والعقل وحدودهما وصِلة ذلك بالدين؛ وأخيرا، التراث وقراءته. في المواضيع الثلاثة، قدم العميد مجموعة من الأفكار الأصيلة والشجاعة والعميقة، ما زالت صالحة في عالمنا اليوم.

يضم كتاب الزعبي، الصادر أخيرا عن دار صفصافة بالقاهرة، أيضا مقالًا عن طه حسين وسِيَرِه الذاتية، التي تشمل مجموعةً من الأعمال لا تقتصر على الأيام. هذا المقال الوحيد الذي يتناول بعض الجوانب الشخصيَّة في حياة العميد وأثرها على كتاباته. أيضا، هناك ثلاث مقالات أقصر، تناقش دعاء الكروان- الفيلم والرواية، وثورة الأدب في مفهوم طه حسين.

يوضح أن كتابه ليس تقريظًا لطه حسين، على الرغم من إعجابي غير المحدود بشخصيته وبفكره. أنتقد العميد في عدة نقاط؛ في أدبه وتخبطه وغموضه، وأستعيد مُحاجَجاته الرئيسة، وأشرحها بالتفصيل، منتقدا نقاده الكثيرين، للوصول إلى أجوبة على أسئلة معاصرة لنا اليوم.

ويؤكد الزعبي أن طه حسين قدم مشروعا تنويريا متكاملا، نَقده الماركسيون والإسلاميون وما بعد الحداثيِّين. هذا المشروع يأتي من جهات ثلاث: قِيَم التنوير المشتركة الكونيَّة، وحدود العقل والدين، والثورة في التراث. هذه الأمور تترابط وتتواشج، وأجادل في كل منها بأن طه حسين ما زال مجهولًا. صحيح أنه يُستخدم من قِبَل العلمانيِّين والإسلاميِّين معًا بكثرةٍ، ولكنه لا يُقرأ بجدية عموما. لقد أصبح طه حسين شماعةً للجدال، من دون أن يقترب من تفاصيل عمله الباحثون:

أولا: دافع طه حسين عن قيم التنوير المشتركة. اختلط الأمر عليه، حين سمى هذه القيم المشتركة قِيما غربية. ولكن دعوته هذه، إلى قيم مشتركة بين الغرب والشرق - وليس إلى قيم غربية- ما زالت صالحة اليوم، ولا أعتقد أن الدفاع عن قيمٍ محلية وخصوصياتٍ ثقافية، كتلك التي يتمسك بها نقاد العميد الإسلاميون وما بعد الحداثيِّين تُشكِّل حلا للخروج من مآزقنا. لقد بحثت هذا الأمر بالتفصيل، موضحا مُحاجَجات العميد، ومضيفا إليها مُحاجَجاتٍ جديدة، للتأكيد على أنَّ القيم الإنسانية مشتركةٌ جمعاء. ثانيا: آمن طه حسين بأن العلم والعقل محدودان؛ وبالتالي، كان ليبراليا منفحتا على مناقشة الدين والميتافيزيقا، وعلى معنى الشعر والنقد الأدبي. هذه هي الصورة التي أريد أن أقدمها للقارئ في هذا الكتاب. وهي صورة تخالف كليا ما يقوله عن العميد الإسلاميون والعلمانيون معا؛ كلاهما يرى في العميد عقلانيا مُتشددًا وعلمانيا صلبًا. هذا غير صحيح.

ثانيا أكثر من ذلك، أعتقد أن ما يقوله طه حسين، من وجهة نظرٍ فلسفية وفكرية، هو الأصح: العلم محدود، وهذا ما يقول به معظم فلاسفة العلم في القرن العشرين؛ ولكن هذا العلم المحدود هو السبيل الوحيد لتقدم البشرية وفهمِ أنفسنا. نحن بحاجة ماسة إلى الخروج من انغلاق الإسلاميين في وجه العلم الحديث، ومن تطرف العلمانيِّين في إيمانهم المطلَق بالعلم. هذا الانغلاق ولَّد تنويرًا مُغلقا ينزلق بسهولةٍ إلى تنويرٍ غير تحرري وغير ديمقراطي، بل أيضًا، غير عقلانيٍّ (لأن العقلاني يعرف أن للعقل حدودًا يرسمها العقل)، يُمثِّله مراد وهبة وجابر عصفور وهاشم صالح وغيرهم، من جهة؛ ومن جهة أخرى ولَّد تزمُّتا إسلاميًّا يرفض كلَّ نقاش: يرفض نقاش الشعر الجاهليّ؛ ويرفض التشكيك في قدرة النصوص المقدَّسة على تقديم معلوماتٍ علميَّة؛ ويرفض نظرية التطور لداروين: وكل هذه النقاشات العلمية يجب أن تكون متاحةً للجميع، من دون حدودٍ أو تحفُّظات أو تردُّد. فهذه النقاشات العلميَّة لا تسيء للدين مباشرةً، ولكنَّها، بالتأكيد، تنقض صورتَه المتداولة الموروثة.

ثالثا أن العميد قدم ثورة في التراث. نَقَض الشعر الجاهلي وقيمة المتنبي، وأعلى من شأن المعري. هذا هو مشروع طه حسين الرئيس الذي خصص له معظم حياته، وهو مشروع مرتبط بكل من الأخلاق والسياسة، ورؤيتنا لأنفسنا وماضينا ومستقبلنا. لم تنجح ثورته في تغيير القيم المتوارثة، فما زال المثقَّفون العرب، والمدارس العربية، تتبنى منظومة القيم الأدبية والنقدية نفسها التي حاول العميد - ببطولةٍ- التخلُّص منها؛ أي المنظومة التي تتمسك بامرئ القيس والمتنبي كنماذج شعرية خالدةٍ تُحتذى. نرى هذا التمسك عند التقليديِّين كما نراه عند العلمانيِّين التنويريِّين التحديثيِّين، وكأن أولئك التنويريِّين التقدميِّين، في العمق، مجموعةٌ من الشعراء والأدباء التقليديِّين، متنكِّرين في زيِّ الحداثة، من دون أن يكون لديهم فهمٌ لثورة العميد التراثيَّة وأهميَّتها الاستثنائيَّة.

تتواشج هذه الأمور الثلاثة لتشكل لُب فكر العميد التقدمي الليبراليِّ التحرري: قيم مشتركة لكلِّ الناس، تعتمد على العلم والعقل، ولكنها ترسم حدودًا للعقل والعلم من دون أن تتخلَّى عن العقل (كما تخلى عنه الرومانسيون وما بعد الحداثيِّين والنسبويون)، ومن خلال هذه القيم، نتمسَّك بالتراث بشرط إعادة قراءته على نحو جذري وثوري وكامل.