حكايات «كليلة ودمنة».. قصة «الأسد وأصدقائه الثلاثة» (26-30)
«كليلة ودمنة» هو من أشهر الكتب بالعالم التي تقدم عالما كبيرا من الحكايات والكتاب يضم مجموعة من القصص المتنوعة، التي ترجمها عبد الله بن المقفع من الفارسية إلى اللغة العربية في العصر العباسي وتحديدا في القرن الثاني الهجري، وكتبه بأسلوبه الأدبي، وقد أجمع عدد كبير من الباحثين على أن الكتاب يعود للتراث الهندي، وتمت ترجمته في البداية إلى اللغة الفارسية ثم إلى اللغة العربية، وسبب نشأته جاءت من رغبة ملك هندي يدعى دبشليم بتعلم خلاصة الحكم بأسلوب مسلي فطلب من حكيمه بيدبا أن يؤلف له هذا الكتاب.
وكان للنسخة العربية من «كليلة ودمنة» دورًا رئيسيًا ومهما في انتشاره ونقله إلى لغات العالم، ويصنفه النقاد العرب القدامى في الطبقة الأولى من کتب العرب، ويرون أنه أحد الكتب الأربعة المميزة إلى جانب كتب أخرى، وهو يحتوي على خمسة فصول تضم خمسة عشر بابًا رئيسيًا يتناول قصص تراثية للإنسان على لسان الحيوانات.
وتقدم بوابة «دار الهلال» لقرائها طوال شهر رمضان المبارك 1445 هجريا، من كتاب «كليلة ودمنة» كل يوم قصة، وسنستكمل سلسلة الحكايات بقصة اليوم والتي بعنوان «الأسد و أصدقائة الثلاثة».
وجاء فالقصة: زعموا أن أسداً كان في أجمةٍ مجاورةٍ لطريقٍ من طرق الناس؛ وكان له أصحابٌ ثلاثةٌ: ذئبٌ وغرابٌ وابن آوى؛ وأن رعاةً مروا بذلك الطريق، ومعهم جمالٌ، فتخلف منها جملٌ، فدخل تلك الأجمة حتى انتهى إلى الأسد.
فقال له الأسد: من أين أقبلت؟
قال: من موضع كذا
قال: فما حاجتك؟
قال: ما يأمرني به الملك.
قال: تقيم عندنا في السعة والأمن والخصب.
فأقام الأسد والجمل معه زمناً طويلاً، ثم إن الأسد مضى في بعض الأيام لطلب الصيد، فلقي فيلاً عظيماً، فقاتله قتالاً شديداً؛ وأفلت منه مثقلاً مثخناً بالجراح، يسيل منه الدم، وقد خدشه الفيل بأنيابه، فلما وصل إلى مكانه، وقع لا يستطيع حراكاً، ولا يقدر على طلب الصيد، فلبث الذئب والغراب وابن آوى أياماً لا يجدون طعاماً لأنهم كانوا يأكلون من فضلات الأسد وطعامه، فأصابهم جوعٌ شديدٌ وهزالٌ، وعرف الأسد ذلك منهم.
فقال: لقد جهدتم واحتجتم إلى ما تأكلون.
فقالوا لا تهمنا أنفسنا: لكنا نرى الملك على ما نراه، فليتنا نجد ما يأكله ويصلحه.
قال الأسد: ما أشك في نصيحتكم، ولكن انتشروا لعلكم تصيبون صيداً تأتونني به؛ فيصيبني ويصيبكم منه رزقٌ.
فخرج الذئب والغراب وابن آوى من عند الأسد؛ فتنحوا ناحيةً، وتشاوروا فيما بينهم، وقالوا: مالنا ولهذا الأكل العشب الذي ليس شأنه من شأننا، ولا رأيه من رأينا؟ ألا نزين للأسد فيأكله ويطعمنا من لحمه؟
قال ابن آوى: هذا مما لا نستطيع ذكره للأسد لأنه قد أمن الجمل، وجعل له من ذمته عهداً.
قال الغراب: أنا أكفيكم أمر الأسد، ثم انطلق فدخل على الأسد؛ فقال له الأسد: هل أصبت شيئاً؟
قال الغراب: إنما يصيب من يسعى ويبصر، وأما نحن فلا سعي لنا ولا بصر: لما بنا من الجوع؛ ولكن قد وفقنا لرأي واجتمعنا عليه، إن وافقنا الملك فنحن له مجيبون.
قال الأسد: وما ذاك؟
قال الغراب: هذا الجمل آكل العشب المتمرّغ بيننا من غير منفعة لنا منه، ولا رد عائدةٍ، ولا عمل يعقب مصلحةً.
فلما سمع الأسد ذلك غضب وقال: ما أخطأ رأيك، وما أعجز مقالك، وأبعدك من الوفاء والرحمة؟ وما كنت حقيقاً أن تجتري علي بهذه المقالة، وتستقبلني بهذا الخطاب؛ مع ما علمت من أني قد أمنت الجمل، وجعلت له من ذمتي. أو لم يبلغك أنه لم يتصدق متصدقٌ بصدقةٍ هي أعظم أجراً ممن أمن نفساً خائفةً، وحقن دماً مهدراً؟ وقد أمنته ولست بغادر به.
قال الغراب: إني لأعرف ما يقول الملك؛ ولكن النفس الواحدة يفتدى بها أهل البيت، وأهل البيت تفتدى بهم القبيلة، والقبيلة يفتدى بها أهل المصر، وأهل المصر فداء الملك، وقد نزلت بالملك الحاجة، وأنا أجعل له من ذمته مخرجاً، على ألا يتكلف الملك ذلك، ولا يليه بنفسه، ولا يأمر به أحداً، ولكنا نحتال بحيلةٍ لنا وله فيها إصلاحٌ وظفرٌ.
فسكت الأسد عن جواب الغراب عن هذا الخطاب، فلما عرف الغراب إقرار الأسد أتى أصحابه، فقال لهم: قد كلمت الأسد في أكله الجمل، على أن نجتمع نحن والجمل عند الأسد، فنذكر ما أصابه، ونتوجع له اهتماماً منا بأمره، وحرصاً على صلاحه، ويعرض كل واحدٍ منا نفسه عليه تجملاً ليأكله، فيرد الآخران عليه، ويسفها رأيه، ويبينان الضرر في أكله.
فإذا فعلنا ذلك، سلمنا كلنا ورضي الأسد عنا، ففعلوا ذلك، وتقدموا إلى الأسد؛ فقال الغراب: قد احتجت أيها الملك إلى ما يقويك؛ ونحن أحق أن نهب أنفسنا لك فإنا بك نعيش، فإذا هلكت فليس لأحدٍ منا بقاءٌ عندك، ولا لنا في الحياة من خيرةٍ، فليأكلني الملك فقد طبت بذلك نفساً.
فأجابه الذئب وابن آوى أن اسكت، فلا خير للملك في أكلك؛ وليس فيك شبعٌ.
قال ابن آوى لكن أنا أشبع الملك، فليأكلني: فقد رضيت بذلك، وطبت عنه نفساً، فرد عليه الذئب والغراب بقولهما: إنك لمنتنٌ قذرٌ.
قال الذئب: إني لست كذلك، فليأكلني الملك، فقد سمحت بذلك، وطبن عنه نفساً؛ فاعترضه الغراب وابن آوى وقالا: قد قالت الأطباء: من أراد قتل نفسه فليأكل لحم ذئبٍ.
فظن الجمل أنه إذا عرض نفسه على الأكل، التمسوا له عذراً كما التمس بعضهم لبعضٍ الأعذار، فيسلم ويرضى الأسد عنه بذلك، وينجو من المهالك. فقال: لكن أنا في للملك شبعٌ وريٌ؛ ولحمي طيبٌ هنيٌ، وبطني نظيفٌ، فليأكلني الملك، ويطعم أصحابه وخدمه: فقد رضيت بذلك، وطابت نفسي عنه، وسمحت به. فقال الذئب والغراب وابن آوى: لقد صدق الجمل وكرم؛ وقال ما عرف.
ثم إنهم وثبوا عليه فمزقوه.
وإنما هذا المثل العبرة منه أنه إن كان أصحاب الأسد قد اجتمعوا على هلاكي فإني لست أقدر أن أمتنع منهم، ولا أحترس؛ وإن كان رأي الأسد لي على غير ما هم من الرأي في، فلا ينفعني ذلك، ولا يغني عني شيئاً.
وقد يقال: خير السلاطين من عدل في الناس، ولو أن الأسد لم يكن في نفسه لي إلا الخير والرحمة، لغيرته كثرة الأقاويل فإنها إذا كثرت لم تلبث دون أن تذهب الرقة والرأفة، ألا ترى الماء ليس كالقول، وأن الحجر لم يلبث حتى يثقبه ويؤثر فيه، وكذلك القول في الإنسان.