رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


رؤى فلسفية| «رينيه ديكارت» ومشروعه الفلسفي (7 – 7)

16-4-2024 | 14:50


محمد جادالله

نستكمل الجزء الأخير والمتمم لموضوعنا، بالإجابة عن التساؤل الذي أنهينا به الجزء السابق، وماذا عن الهدف من نشر ديكارت لمُؤلَّفه «المقال عن المنهج»؟ كما أننا سنواصل حديثنا بتقديم نظرة خاطفة لمُؤلَّفه «التأملات» ولكنها ستكون كافية بعض الشيء طبقًا لسياسة عرضنا، وايضًا عرض بعض الأفكار التي لم تتسع لها الأجزاء الستة السابقة، أملًا منا لتحقيق مبتغانا – كما سبق ونوهنا – وهو تقديم للقارئ صورة واضحة عن رينيه ديكارت، من خلال بيان أسس بنائه الفلسفي وكيف خرج لنا ديكارت بفلسفة جديدة ومغايرة عن كل الفلسفات التي سبقته.

عزيزي القارئ أستهل ديكارت بحثه عن «المنهج» ببيان القصد من نشره قائلًا: «أن ما يوقع أشد الخلاف بين الناس، ليس هو تفاوتهم في الذكاء، فإن العقل، أو الذوق السليم، يكاد أن يكون واحدًا عند الجميع، بل إن الخلاف ناشئ من توجيه الناس لأذهانهم، أي من المنهج الذي يتبعونه في تفكريهم أو حياتهم، فليس يكفي أن يكون للإنسان قريحة جدية، بل الأهم أن يستعملها استعمالًا جديدًا».

كما يري ديكارت أن العقل إذا اعتاد مطالب المنهج الصحيح، استطاع أن ينقلها إلى مجالات أخري غير العلوم الرياضية، واستطاع أن يتصور إمكان «الرياضيات الكلية»، التي تبحث في الصفات المشتركة. ولذلك يذهب ديكارت إلى إن أخلاقًا مؤقتة، لابد من اصطناعها ريثما نصل إلى يقين.

وفي القسم الثالث من «المقال» يذكر لنا ديكارت القواعد الثلاث أو الأربع التي تُيسّر له أن يحيا حياة سعيدة بقدر ما في الإمكان، أي حياة الهدوء اللازم لبحوثه، ويمكن إيجازها فيما يلي، القاعدة الأولي: «أن أطيع قوانين بلادي وعادتها، وأن أحرص على مراعاة دينها..»، والقاعدة الثانية: «أن أكون أشد تصميمًا في أفعالي، وألا يكون تمسكي بأشد الآراء عرضه للشك..»، والقاعدة الثالثة: «أن أسعى دائمًا إلى مغالبة نفسي بدلًا من مغالبة المقادير، وأن أغير رغباتي بدلًا من أن أغير نظام العالم..». وماذا عن مفهوم ديكارت للتفكير؟ حول معني التفكير، يقول ديكارت: «إنني شيء مفكر «Res cogitqans» ولكن ما هذا الشيء المفكر؟ نه شيء يشك ويفهم ويثبت وينفي، ويريد، كما يتخيل ويحس»، وكذلك يقول في التأملات الثالثة «إنني شيء مفكر، أي يشك، ويثبت، وينفي، ويعرف من الأشياء قليلًا، ويجهل منها الكثير، ويحب، ويكره، ويريد، كما يتخيل ويحس». والسؤال الآن، ماذا قصد ديكارت بكلمة «فكر»؟ صديقي القارئ يقول ديكارت في «مبادئ الفلسفة»: «أقصد بلفظ الفكر كل ما يختلج فينا، بحيث ندركه بأنفسنا ادركًا مباشرًا، ومن أجل هذا لا يقتصر مجال الفكر على التعقل والارادة والتخيل، بل يتناول الإحساس أيضًا». وبعبارة اخري يقصد ديكارت بالفكر كل ما يقع في الوعي أو الوجدان... فالتعقل والارادة والتخيل والشعور كلها وجوه مختلفة للفكر.

ويأخذنا هذا المفهوم للتساؤل عن المقصود بمعنى «العلية»، ويجيبنا ديكارت قائلًا: «العلية، فهي تقوم على ضرورة أن يكون في العلة الفاعلة التامة من الوجود قدر ما في معلولها على أقل تقدير». ونأتي الآن للحديث عن مُؤلَّف آخر، والذي يُعد من أشهر مُؤلّفات ديكارت وهو «التأملات». ويلخص ديكارت تأملاته فيقول: «قدمت في التأمل الأول الأسباب التي تجعل في استطاعتنا ان تشك على العموم في الأشياء جميعًا، وعلى الخصوص في الأشياء المادية... غير أن شكًا عامًا كهذا، إن لم يظهر نفعه أول الأمر، له مع ذلك نفع عظيم، حيث يخلصنا من ضروب الاحكام السابقة، وبهذا لنا سبيلًا ميسورًا جدًا لكي نألف التجريد من الحواس، وأخيرًا انه قد يجعل من غير الممكن – في المستقبل – أن نشك أبدًا في الأشياء التي قد نهتدي فيم بعد إلى أنها صحيحة». يقول ديكارت: «إن التأمل الأول قد أثار في نفسي شكوكًا كثيرة، فما أدري السبيل إلى الخلاص منها، ولكني أريد أن امضي في الطريق نفسه، حتى أهتدي إلى شيء يقيني لا شك فيه».

كما في التأمل الثاني نجد الذهن يستعمل حرية خاصة، فيقترض ان جميع الأشياء التي يقع له عن وجودها أدني شك هي أشياء معدومة، لكن يتبين أن من الممتع إطلاقًا حينئذ أن يكون هو نفسه غير موجود... وهذا أمر فيه كذلك نفع عظيم، فأنه بهذا الوجه يتيسر له أن يميز الأشياء التي تخصه، أي التي تخص الطبيعة الذهنية من الأشياء التي تخص الجسم.

وفي الختام بعد أن قدمنا قراءة لأركان فلسفة ديكارت استمرت نحول سبعة أجزاء متصلة، نلاحظ أن النظام الفكري الديكارتي يتوخى منهج الاكتشاف لا الكشف عن ماهية العالم كما هو معطي.

ونظام الاكتشاف هذا نجده في «التأملات» يخضع لمبدأ (من ماهية إلى الوجود)، أي نكتشف الماهية ثم نتساءل فيما بعد عن إمكانية وجود هذه الماهية. لكن المفارقة الأولي في هذا النظام نفسه هي مفارقة الكوجيتو، ذلك أننا نكتشف وجود الانا المفكر ثم نتساءل عن ماهية هذه الانا، وهو ما أكده ديكارت بقوله: «أنا أفكر، إذن فأنا موجود»، لكن ما هي ماهيته كوجود يفكر، وعندما يحاول ديكارت الإجابة عن هذا السؤال نراه يستعمل طريقة التحليل التي تقتضي الانطلاق من المركب وتفكيكه للوصول في النهاية إلى أبسط العناصر واوضحها. (فأنا شيء حقيقي موجود حقًا، ولكن أي شيء؟) «شيء يفكر»، أي يشك ويتصور وقدر وينكر ويريد ويتخيل وكذلك يحس.