لحرب واحدة .. الرجل ليس جلادا والمرأة ليست ضحية
الغربي عمران - كاتب يمني
تقنية رسم المشاهد السردية في مجموعة "لحربٍ واحدة" تثير التساؤل. فها هي القاصة تتجاوز مجموعتها الثانية لتأتي بمجموعة لافتة فنيا وموضعيا. ولذلك أرى أن القصة في اليمن تختلف عنها في أقطار عربية أخرى. ففي الوقت الذي تعلن بعض الأصوات عن موت الشعر وموت القصة نجد القصة في اليمن تتجدد وأن هناك كتابات قصصية جديرة بالاحتفاء. كونها ترد على تلك الأصوات بتطورها وجاذبيتها التي تجعلنا نقف لتك الأقلام المبدعة بتقدير.
فمن يقرأ عددا من الإصدارات الجديدة الصادرة خارج اليمن لكاتبات وكتاب يمنيين مثل "تقاصي" لأسماء المصري، و"كأسنان الذئب" لبشير زندال ومجموعتي هشام محمد وهائل المذابي، وما بين يدينا "لحربٍ واحدة" لانتصار السري، يدرك مقدار التجدد والتطور في نصوص تلك المجموعات. وبالطبع هناك مجاميع قصصية أخرى صدرت مؤخرا. لأديبات كحفصة مجلي ونجمة الأضرعي من اللواتي نجحن في الإفلات من التقليدية وبدأن بالتحليق عاليا بسرد لافت. كما هي إصدارات نبيهة محضور وإنصاف أبو راس وقد تجاوزن هنات البدايات. والقارئ ينتظر منهن التجديد في إصداراتهن القادمة.
من يتابع اشتغالات انتصار السري القصصية في مجموعاتها "الرقص على سمفونية الألم"، ثم "المحرقة"، وأخيرا "لحربٍ واحدة" سيلاحظ مقدار التغيير المطرد في كتاباتها، ويظهر ذلك التطور من إصدار إلى آخر، في حين تحقق وصولها إلى مرحلة التمكن بأدوات القص في "لحربٍ واحدة"، والإلمام بتنوع تقنياته، وتطوير أسلوبها.
خمسة عشر نصا هي ما احتوته مجموعتها الجديدة الصادرة عن دار "أروقة" في القاهرة. وسأركز على جانب لفت انتباهي أثناء قراءة المجموعة. والمتمثل في استخدام الكاتبة لتقنية الانتقال من مشهد سردي إلى آخر. دون إتباع سرد التطور الزمني لأحداث النص. لتنقل القارئ بصورة سلسة وممتعة من لوحة إلى أخرى. وأستعرض هنا بعض الأمثلة على أسلوبها المتميز. ففي "قهوة مرة" يتكون النص من ثلاثة مشاهد الأول: انتظار الحبيب على طاولة أحد المقاهي. يرتشف فنجان قهوة. يتأمل المارة.. إلخ. ثم المشهد الثاني يرى نفسه وقد رافق حبيبته بعد وصولها. يطوف بها معالم باريس. من مقاه ومطاعم وحانات. المشهد الثالث يقف الحبيب بعد سماعه مذياع المطار يعلن وصول الرحلة التي تقل حبيبته. مراقبا تدفق الركاب. مترقبا رؤيتها. فجأة يتحول المشهد إلى حالة صادمة. امرأة تتخفى تحت جلابيب سوداء. تخفي كل شيء حتى وجهها. وقد انتشر رجال أمن المطار لمحاصرة ذلك الكائن الأسود ظنا منهم بأن عملية إرهابية على وشك الحدوث.
ونص "عابرون" يتكون من عدة مشاهد أيضا منها: منزل على طريق جبلي. يسمع شخصية القصة حوار بين امرأة ورجل عند ذهابه وإيابه. يتلصص عليهم ليكتشف صوت امرأة تحكي لرجل مشلول ما يدور. ثم مشهد ثان وقد حُمل الزوج ميتا بعد أيام إلى المقبرة خلف الجبل. ومشهد أخير وشخصية القصة يمر كعادته بعد رحيل الزوج من أمام البيت لترشقه الأرملة بنظرات إغواء. داعية أن يزورها خلسة.
وفي "الموكب" المشهد الأول أم وطفلتها تتابعان حفل عرس من نافذة بيتهما. فجأة تدوي طلقات كثيفة. يختبئان وسط رعب وخوف وهواجس بالموت. مشهد ثان يسافر خيال الزوجة مستدعيا طيف زوجها رجل الأمن الذي يعمل في مدينة نائية. تتطور خيالات الزوجة مع زيادة سماع المفرقعات إلى كوابيس مرعبة. ترى زوجها وقد أصيب إصابة قاتلة وهو يقوم بواجبه. ترى جمع الناس وقد عادوا به محمولا على نعش. تبكي وتولول.
ويتكون نص "الضريح" أيضا من ثلاثة مشاهد: الأول مرور متكرر لشخصية القصة من أمام بوابة مقبرة. ثم مشهد آخر وقد دخلتها لتتأمل أجواءها الغامضة. تطوف ناقلة ملامح الخوف من ذلك المكان. ومشهد ثالث لفتاة تحاول الخروج من أكفانها وقد نخرها الدود. وتفلتت أطرافها. لتنتهي الشخصية بأن ترى الفتاة تشبهها بل تتيقن أنها هي.
وهكذا في "وليمة" و"الحقيبة" و"لعبة" وبقية النصوص يلاحظ تلك النقلات المشهدية المشوقة التي تتبعها الكاتبة. وكأنها تطير بالقارئ بانسيابية من مشهد وآخر. لكن نص "فكرة" مختلف بعض الشيء بمشهدياته. فقد نسجته الكاتبة في لوحات آسرة. وفيها تجلت قدرتها على السرد السلس. والمتمكن وتلك القدرات ما جنت على بعض النصوص. إذ يشعر القارئ بسرد متدفق في بعض النصوص دون أن تصل به الكاتبة إلى قناعة بموضوعية ما تكتب كما هو في "فكرة". أو أنها تكتب دون فكرة مكتملة ليولد النص ميتا أو ناقصا.
في "فكرة" تألقت القاصة بنقلاتها المشهدية: مشهد تمهيدي جلست على مقعد في زاوية المقهى ترقب الداخلين والخارجين. نقلة إلى مشهد ثان تراقب حبيبين يتهامسان وآخرين يتعاتبان وأما على طاولة أخرى تصارع أطفالها محاولة السيطرة على حركتهم. وعلى طاولة أخرى مجموعة يبدو أنها تخطط لتنفيذ جريمة حيت تتعالى أصواتهم ثم تعود للهمس ثم المشاجرة. ونقلة ثانية إلى مشهد الشارع المجاور بحركته وعلى رصيفه الآخر صف من العربات يندس أحدهم ليفرغ مثانته خلسة. نقلة أخرى تعود لذاتها ترتشف قهوتها باحثة عن فكرة لكتابة قصة وإذا بامرأة خمسينية تجلس على طاولتها. تتأملها ثم تلتقط فنجانها وتتأمل قعره بتؤدة. ثم ترفع عينيها لتخبرها بأن قدرها ساقها إليها. وأن حظها عاثر وعمرها قصير. ترتعد أطرافها ليسقط قلمها تدنو لتلتقطه في خوف وحين تعود للنظر في وجه الخمسينية لا تجد أحدا على طاولتها.
وهكذا تمضي بنا الكاتبة في هذا النص بدراية من يجيد فن السرد بنسج حكاياته وبأسلوب ممتع.
لم أتطرق للجانب الموضوعي للقصص. فذلك حديث يطول. وبالذات حول جرأة القاصة. وارتيادها مجاهل كثيرا ما يتجنبها الكتاب فما بالنا بكاتبة. وفي مجتمع ذكوري. أرادت القاصة في هذه المجموعة أن تضع الرجل موازيا ومساويا للمرأة. وليس في مقام الجلاد الظالم كما تعودنا من الأقلام النسوية. في الوقت التي تكون فيه الأنثى ضحية فاقدة الأهلية. وهذا نضوج لافت للكاتبة.
وأمر آخر. تلك البدايات التي أتبعتها الكاتبة في كل نصوص المجموعة. حين يلج القارئ إلى النص دون جمل تمهيدية. يشعر بالكاتبة تدعوه في رحلة دون مقدمات. رحلة سردية متواصلة لما سبق! وكأنها تواصل حكي تتمة سبق بدايته.
ويمكنني أن أختم بتصنيف تلك النصوص وفق ذائقتي كقارئ. وأنا على يقين من خطإ ذائقتي دوما. فالنص يقترب من الكمال كلما تعددت قراءته. وليس ما أطرحه أحكاما بل مجرد رأي. موقنا بعدم صوابيته. وتصنيفي للنصوص هو:
ـ نصوص: صورة. قطط. نسجتها الكاتبة بأسلوب البناء الفني التقليدي. وفي قطط فكرة مستهلكة فكثيرا ما قرأنا عن اللقيط ومعاناته وعقدة في مجتمع لا يضع للمشاعر الإنسانية أي اعتبار.
ـ نصوص أخرى غير مكتملة. وهي قليلة. إذ يشعر القارئ أن الكاتبة تمتلك الكثير ولم تقدمه في تلك النصوص. وقد تخيلت أثناء القراءة عدة مسارات لسير أحداث النصوص، لأفاجأ بأن الكاتبة تنهي تلك النصوص بصورة غير مقنعة. والنصوص هي: حياة، قفص، سنارة ، والحقيبة. وقد تلبسني ظن بأن الكاتبة اعتمدت على ملكاتها الكتابية دون أن تعطي الفكرة وقتا كافيا للنضج. ليشعر القارئ بأن تلك النصوص سُلقت بشكل سريع.
ـ مجموعة من النصوص كانت شبه مكتملة مثل "لعبة" وهو نص مدهش لو لم تأت القاصة بالخمسة أسطر الأخيرة. وتمنيت حذفا من "بعد مرور سنوات على تلك الأيام.. إلخ" حيث بدت مباشرة وزائدة على الحاجة فنيا وموضوعيا. وكذلك نص "عابرون" تمنيت لو أن زوجة المشلول كانت تحدث زوجها عن الطهر والوفاء وقد تقمصت دور زوجة النبي أيوب بدلا من حديثها عمن يعبرون جسدها كل يوم. حتى تناسب النهاية الرائعة التي وضعتها الكاتبة لنصها. لتكتمل المفارقة. بين الادعاء بالوفاء والعفة حين تدعو مسترق السمع بنظراتها إلى مخدعها بعد رحيل زوجها. وكذلك نص "صورة" يشعر القارئ أن الكاتبة بذلت جهدا مضاعفا. لكن النهاية خذلتها.
ـ مجموعة ثالثة وهي تقارب ثلثي المجموعة. وقد تفوقت فيها الكاتبة على نفسها وعلى كثير من الكتاب والكاتبات. وذلك بإظهار براعة لافتة في اختيار المواضيع وقولبتها بشكل شيق. بل أتقنت اختزال الكلمات بتكثيف لافت. والنصوص هي: اختراق. قهوة. موكب. دُخلة. الضريح. وليمة. لعبة ـ مع حذف الخمسة أسطر الأخيرة ـ ونص فكرة. وعابرون ـ مع تعديل في دور الزوجة ـ ثم نص صورة الذي يظهر أن الكاتبة اشتغلت عليه. إلا أن الخاتمة خذلتها.
والملاحظ أن نصوص المجموعة تعالج إنسانا مأزوما. دون أن تتحيز الكاتبة للمرأة ضد الرجل كما تعودنا من الأقلام النسوية. فقط نظرت إليهم في نقاش نصوصها في مستوى واحد. مشيرة بالإدانة لتلك الرواسب المؤثرة على مجتمعنا. لتؤكد أن المرأة والرجل يتحملان تصرفاتهما سلبا وإيجابا.
وعودة على بدء. أختتم بعنوان المجموعة، عنوان لا يتناسب وقوة النصوص، لكني أرى أن الكاتبة عوضت ذلك بعناوين نصوصها. حين جاءت مواكبة لأسلوبها الشيق في التكثيف والإيجاز. وإن تمنيت لو أنها ألغت مفردة "مرة" من عنوان قهوة مرة. ومفردة "متشردة" من عنوان قطط متشردة. كما تمنيت لو أنها حذفت ألف لام التعريف من عناوين: الموكب. الضريح. الحقيبة. وأتت بها نكرة لتتسق مع أسلوبها المتميز بمسحة الغموض. وتكريس الإيجاز.
هي تحية لكاتبة تتسلح بغزارة القراءة والاطلاع. والمثابرة والإيمان بالذات. وهي أيضا تحية لمجموعة حملت بذورا وتباشير تطير النص القصصي في اليمن. ولا أقصد بملاحظاتي السابقة حول بعض النصوص التقليل من أهمية المجموعة. فقط هو رأي قارئ سعيد بهذا التطور. ويبشر بكاتبة تتجاوز الإطار اليمني إلى العربي.